لا شك ان انتهاء الحرب الاميركية - البريطانية على العراق شكل منعطفاً مهماً في مسيرة منظمة "مجاهدين خلق" الايرانية، فهي نشأت قبل نحو اربعة عقود لتجسد حينذاك منظومة فكرية متكاملة سميت في التاريخ السياسي الايراني "الحركة الاسلامية التقدمية"، وكانت للمنظمة اساساً مرجعية ايديولوجية ممثلة بالراحلين الدكتور علي شريعتي توفي في حزيران/ يونيو 1977 وآية الله طلقاني توفي في ايلول/ سبتمبر 1979 بالاضافة الى بعض قادة المنظمة ومؤسسيها الاوائل مثل محسن رضائي وقائدها الحالي مسعود رجوي. ولا تأتي اهمية انتهاء الحرب في العراق بالنسبة الى "مجاهدين خلق" من فراغ. فبعد اقل من عامين على مواجهات الشوارع الدموية التي دارت في المدن الايرانية في حزيران 1981 بين انصار المنظمة وانصار الحزب الجمهوري الاسلامي المدعوم من آية الله الخميني حينذاك وتحول المنظمة بعدها الى العمل السري ثم هرب قيادتها الى فرنسا، عقد رجوي معاهدة سلام مع طارق عزيز نائب رئيس وزراء العراق ووزير خارجيته ايام الحرب بين العراقوايران. ووقع رجوي على تلك المعاهدة بصفته رئيساً لما سمي ب"الجمهورية الايرانية الديموقراطية الاسلامية" وهي تسمية بديلة من "الجمهورية الاسلامية الايرانية" تبناها "المجلس الوطني للمقاومة" وهو بدوره تجمع لتنظيمات المعارضة الايرانية في الخارج قادته منظمة "مجاهدين خلق". فتحت معاهدة السلام تلك الباب على مصراعيه امام الحكومة الايرانية لتتهم "مجاهدين خلق" بالعمالة للعراق، العدو الذي كان في حال حرب مع ايران. لم تمر سوى سنوات قليلة تعززت خلالها العلاقات بين العراق والمنظمة حتى اضطرت قيادة المنظمة للجوء الى العراق بعدما ضاق الخناق عليها بشكل متزايد في فرنسا واوروبا. وكان انتقال رجوي الى العراق نقطة تحول نوعية في تاريخ "مجاهدين خلق". على الصعيد السياسي، بدا ان المنظمة رهنت مصيرها بمصير نظام صدام حسين، وتصاعدت اتهامات طهران لها بالعمالة للعراق. وعلى الصعيد العسكري، كان هذا الانتقال فرصة تاريخية للمنظمة لوجود كوادرها المسلحة في مكان له حدود مشتركة مع ايران ويسمح بانطلاق عمليات مسلحة ضد اهداف داخل ايران موجهة من "الجيش الوطني للمقاومة" الذي اعتبر الذراع العسكرية ل"مجاهدين خلق" وكان ينضم اليه اتباع من الخارج او من الهاربين من داخل ايران. وعلى الصعيد العقائدي، اتاح انتقال المنظمة الى العراق الذي خصص لها منطقة كاملة في محافظة ديالا للاقامة في شبه عزلة عن الشعب والدولة في العراق، امكان تحويل اعضاء المنظمة من رجال ونساء الى حال اقرب للمجندين الذين يخضعون ليس فقط لتدريب عسكري وانما ايضاً لتثقيف عقائدي وسياسي اعتادته المنظمة منذ نشأتها. خلال الحرب العراقية - الإيرانية عمد العراق في مراحل الى اظهار ان عناصر "مجاهدين خلق" تقاتل مع الجيش العراقي، ربما لحفظ حق الحركة في جزء من "كعكة" حكم ايران في حال انتصار العراق في الحرب. وبعد قبول آية الله الخميني قرار وقف اطلاق النار عام 1988، تصور البعض لفترة ان المنظمة قد تدفع الثمن في حال حدوث أي تسوية نهائية بين بغدادوطهران، بأن يأتي تبادل تسليم او على الاقل تبادل طرد بين الجانبين: العراق يسلم او يطرد قيادات وعناصر منظمة "مجاهدين خلق" من اراضيه، وايران تسلم او تطرد قيادات وعناصر "المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق" الذي استضافته لسنوات طويلة. وتجددت هذه المخاوف كلما تجددت محاولات للتقارب وانهاء الخلافات العالقة بين حكومتي البلدين. وكان مطلب الطرد او التسليم المشار هو احد عوائق التوصل الى تسوية شاملة بين الحكومتين على رغم فترات المد والجزر في علاقاتهما. وعندما حدث الغزو العراقي للكويت في آب اغسطس 1990 ثم حرب تحرير الكويت في شباط فبراير 1991 وما تلا ذلك من تداعيات، لزمت قيادة "مجاهدين خلق" في العراق الصمت فيما راحت مكاتبها في الخارج تؤكد ان المنظمة مستضافة في العراق لكنها لا تشارك النظام العراقي سياساته، وانها كانت محايدة في أزمة الكويت ولم تشارك في عمليات عسكرية الى جانب الجيش العراقي او حتى للدفاع عن الاراضي العراقية طالما لم تتعرض معسكرات الحركة وقواعدها لاي اعتداء. وبالفعل نجحت المنظمة في تجاوز الازمة وتعلمت الدرس فبدأت تنوّع اماكن وجود قياداتها وكوادرها غير العسكرية خارج العراق، خصوصاً بعد اعتماد مبدأ القيادة الثنائية ل"مجاهدين خلق" و"المجلس الوطني للمقاومة" من جانب مسعود رجوي وزوجته الجديدة مريم رجوي وانتقال الاخيرة الى اوروبا متجندة لقضية منظمتها والتبشير بفكرها كبديل للنظام الموجود في طهران، واستقرارها في نهاية المطاف في فرنسا التي سبق ان استقر فيها الخميني عام 1978 عندما جاءها مطروداً من العراق. واستمرت مواقع "الجيش الوطني للمقاومة" طوال تلك السنوات وما بعدها تتعرض لهجمات اكثرها في شكل عمليات سرية والقليل منها كان معلناً وتتبناه رسمياً الحكومة الايرانية، وكان بعضها رداً على هجمات تتهم طهران "مجاهدين خلق" بالقيام بها، سواء داخل الاراضي الايرانية او خارجها، باغتيالات لمسؤولين او بهجمات على قوات للشرطة او الجيش او الحرس الثوري او متطوعي "الباسيج"، او بهجمات على مؤسسات حيوية في ايران مثل انابيب النفط والمحاكم وغيرها. وكثيراً ما انكرت المنظمة مسؤولياتها عن بعض هذه العمليات، خصوصاً تلك التي كانت تحمل شبهة عمليات ارهابية. وجاء ذلك خصوصاً بعدما وضعت الادارة الاميركية المنظمة على قائمة المنظمات الارهابية فيما حرصت المنظمة على تغيير موقف الادارة منها وتعبئة الدعم لها في صفوف الكونغرس الاميركي. وادخلت بعض التغيير على برنامجها الفكري والسياسي، وطرحت نفسها بديلاً اسلامياً ديموقراطياً تحديثياً معتدلاً. وعندما جاءت الحرب الاخيرة على العراق، ادركت قيادة المنظمة انها النهاية للحكم العراقي، وتحسباً لأي تطورات غير مأمونة بالنسبة اليها فإنها اختفت في مكان ما، ويفترض بعض وسائل الاعلام الاميركية ان مسعود رجوي ورفاقه فرّوا في مرحلة مبكرة من الحرب او حتى قبل اندلاعها الى خارج العراق. وعندما بسطت القوات الاميركية سيطرتها على العراق توصل بعض القادة الميدانيين الاميركيين الى شكل من اشكال الهدنة مع "الجيش الوطني للمقاومة". الا ان الادارة الاميركية سرعان ما اعلنت تبرؤها من هذا الاتفاق واكدت استمرار تصنيفها لمنظمة "مجاهدين خلق" كمنظمة ارهابية. وحدث تحول ميداني متزامن لهذا الاعلان السياسي تمثل في العمل على نزع سلاح العناصر المسلحة للمنظمة وتجميعها في مكان واحد. وسبقت ذلك تظاهرات من بعض السكان العراقيين المحليين احتجاجاً على ما سموه سوء المعاملة التي لاقوها طوال سنوات على ايدي عناصر "مجاهدين خلق" في مناطقهم، أو نتيجة تعرضهم احياناً لهجمات صاروخية او جوية ايرانية على قواعد "مجاهدين خلق" القريبة منهم. لم تقف التطورات السريعة عند هذا الحد، اذ سارع الاتحاد الاوروبي الى البحث في وضع "مجاهدين خلق" على قائمته للمنظمات الارهابية، وخطت فرنسا خطوة اكثر تقدماً عندما اقدمت على اعتقال مريم رجوي و16 من رفاقها واتهمت المنظمة بالتحضير لعمليات "ارهابية" ضد اهداف ايرانية، مستغلة حال التعبئة الدولية ضد ايران في اعقاب نشر تقرير للوكالة الدولية للطاقة الذرية عن عدم تعاون ايران معها بشكل كامل في ما يتعلق بمنشآتها النووية، والاتهامات بأن ايران تؤوي عناصر من تنظيم "القاعدة". ما هي البدائل المتاحة حالياً امام منظمة "مجاهدين خلق" بعد اكثر من عقدين من المنفى والعمل السري؟ يبدو البديل الاول الاستمرار مع اختلاف في الدرجة في الاستراتيجية التي تبنتها المنظمة، أي الرهان على حملة سياسية وإعلامية في الغرب، خصوصاً في الولاياتالمتحدة، لإظهار أن الحكم الايراني يجسد كل ما هو مرفوض من الغرب: السعي الى اكتساب اسلحة دمار شامل وتطويرها، ايواء الارهابيين ومساعدتهم، محاولة افشال عملية السلام بين العرب والاسرائيليين، تهديد امن اسرائيل والحكومات "المعتدلة" الصديقة للولايات المتحدة في منطقة الخليج، تهديد امدادات النفط للغرب وغير ذلك... ويكتمل هذا الرهان باعتبار ان الغرب، خصوصاً الولاياتالمتحدة، هو الطرف القادر على تغيير النظام في ايران. اما الوجه الآخر لهذا الرهان فهو ان على المنظمة ادخال تحولات اكثر جذرية على فكرها واستراتيجية عملها بما يتجاوز كثيراً ما سبق ان قامت به فعلاً، فهي تحتاج الى نبذ كل ما يمكن ان يوصم بالشمولية او اليسارية لتكسب ثقة الاميركيين والغرب وتقنعهم بأنهم بديل يمكن ان يعتمدوا عليه في ايران، لكنها مهمة ليست سهلة على المنظمة ولا هي مضمونة من جانب الاميركيين والغربيين، خصوصاً في ضوء استمرار اتهامها بالارهاب واعتقال قادتها. اما البديل الثاني فيتمثل في رهان "مجاهدين خلق" على الوضع الداخلي في ايران، في ضوء الاحتجاجات الاخيرة للطلاب وهتافاتهم ضد المرشد خامنئي ومطالبتهم بالتغيير. وفي هذه الحال على المنظمة تعزيز وجودها والسعي الى اعادة بناء شبكة كوادرها وأنصارها في الداخل الايراني، ربما اعتماداً على بقية رصيد لها في صفوف بعض قطاعات الشعب الايراني وإن تعرض هذا الرصيد لبعض التآكل لكن الامر يتطلب ايضاً مراجعة للفكر واستراتيجية العمل لتتواءما مع معطيات الواقع الداخلي ومع مطالب الفئات الاجتماعية الاكثر نشاطاً وفاعلية في ايران اليوم. ويكمن البديل الثالث في ان تحاول منظمة "مجاهدين خلق" دخول دائرة النخبة السياسية الايرانية، خصوصاً في سياق التباينات المعروفة داخل السلطة الايرانية. ويختلف هذا البديل عن سابقه في ما هو مطلوب من المنظمة. فإما ان تغير المنظمة توجهاتها تماماً وتعطي أولوية لوحدة وطنية ايرانية، وإما ان تتحالف مع فصيل بعينه داخل السلطة في مواجهة فصائل اخرى. وعلى رغم صعوبة هذا الخيار في ظل رصيد المرارة المتراكم بين السلطة بفصائلها كافة وفقدان الثقة بين الطرفين واعتقاد المنظمة ان الاصلاحيين في صفوف السلطة وفي مقدمهم الرئيس خاتمي ذاته يسحبون البساط من تحت اقدامها، فإنه يجب عدم استبعاده، خصوصاً ان هناك سابقة للمنظمة في التفاوض سراً مع رفسنجاني عندما كان الأخير يصنف باعتباره الاكثر براغماتية داخل السلطة الايرانية. * كاتب وباحث مصري.