المشهد جارح بطبيعته. جاء الانتصار الأميركي سريعاً وفاحشاً. جاء أكبر من القدرة على الاحتمال داخل العراق وخارجه. كشف هزال النظام العراقي. أكد ان المنطقة برمتها مكشوفة. المشهد لا يعني العراقيين وحدهم. انه قدر المنطقة مع صدام حسين. تدفع ثمن حروبه مرة حين ينتصر وأخرى حين يندحر. يصعب على العراقي احتمال هذا المشهد طويلاً. عجز العراقيون عن إسقاط صدام حسين. أسقطه جورج بوش في سياق برنامج أميركي طويل. يفضل العراقيون لو اقتلعوا النظام السابق بأيديهم لكن ذلك لم يحصل. لا بد إذاً من ثمن ما لسقوط نظام صدام بقرار أميركي وتحت وطأة ضربات الآلة العسكرية الأميركية. لكن المشهد أكبر من القدرة على الاحتمال. رؤية الجيش الأميركي في شوارع بغداد لا تثلج صدر العراقي العادي. قد يقبلها إذا تأكد انها عابرة وانتقالية. رؤية مفاتيح المستقبل في يد بول بريمر تجرح الروح العراقية المغموسة بهدير التاريخ. العراقيون، كما سائر الشعوب، يمتلكون ذاكرة تنسى. لا حنين الى الماضي القريب لكن الحاضر يستفز مشاعر الكرامة، يغذي مشاعر الرفض. يؤسس للمقاومة والمواجهة. لا أحد يبتهج بجيش غريب يقيم الحواجز ويدقق في الهويات وينقل المشبوهين الى المعتقلات. ليس المطلوب تحويل العراقفيتنام جديدة. ليس المطلوب اختراع افغانستان جديدة في قلب العالم العربي. شجاعة العراقيين لا تلغي ان هذه المهمة أكثر من قدرة العراق المنهك على الاحتمال. وهي مهمة لا طاقة لأنظمة المنطقة على احتمالها. لا جدال ان المطلوب بإلحاح هو استعادة العراق. إعادته الى العراقيين ليعطوا، للمرة الأولى، فرصة العيش في دولة عادية تنهمك بتوفير الخبز والمدارس والجامعات وفرص العمل وتحترم المواثيق والأعراف الدولية. مهمة اختصار فترة الاحتلال تقع بالدرجة الأولى على العراقيين. وهي لا تبدأ بالضرورة بالهجمات على المحتلين. القرار الكبير في استعادة العراق ليس قرار اطلاق النار على جيوش التحالف. انه قرار عراقي بالتوصل الى تصور للمستقبل يحظى بدعم القوى السياسية والشعبية الأكثر تمثيلاً. قرار ببلورة تصور لعراق يتسع لكل مواطنيه ويعيش الناس فيه في ظل حكم القانون والمؤسسات. تصوّر لا يترك مجالاً لالحاق الظلم بقومية أو اثنية أو مذهب. وليس سراً أن قرار استعادة العراق يبدأ بالتواطؤ بين العراقيين. بين الشيعة والسنة. وبين العرب والأكراد. وبين الأحزاب والتجمعات على اختلاف ميولها. ويبدأ ايضاً بتبادل التنازلات لمصلحة المؤسسات المنتخبة وللعيش في رحابها والاختلاف تحت سقفها والاحتكام الى الدستور. وهي مهمة يتعذر انجازها إذا تمسكت القوى الفاعلة بمنطق الحد الأقصى من المطالب الفئوية. في الاعتقاد باستعادة العراق من دون توافق وتواطؤ بين مكونات الشعب العراقي مغامرة ومخاطرة. فالرهان على العمليات العسكرية لاخراج "جيوش التحالف" يجب ألا ينسي المراهنين عليه أن الولاياتالمتحدة تملك حالياً القدرة على معاقبة العراق من طريق تعزيز فرص التمزق وتهديد وحدة الأرض والشعب.