الولايات المتحدة ليست جمعية خيرية. لم تكن كذلك في الماضي ولن تكون في المستقبل. والمسؤولون الأميركيون لا يخفون ذلك. لا يستطيع الرئيس الأميركي ارسال الجيش إلى ساحة القتال إلاّ إذا اقنع مواطنيه أن القرار تميله مصلحة أميركا. لم يرسل جورج بوش جيشه لاقتلاع نظام صدام حسين لأن الأخير زرع أرض بلاده ب"المقابر الجماعية". ولم يرسله لأن صدام انتهك حقوق المواطنين العراقيين ودفع ملايين منهم إلى الخارج. ارسله لأن مصلحة أميركا باتت تقتضي تغيير العراق، وربما تغيير المنطقة، استناداً إلى قراءة أجراها صقور الإدارة لعالم ما بعد 11 أيلول سبتمبر. لدى العراق ما يثير شهية الأقوياء. احتياط نفطي هائل وموقع حساس مجاور لدول مهمة في الاقليم. التغيير فيه يشكل، في حال نجاحه، فرصة لخلق حقائق جديدة اقتصادية وسياسية تؤثر على موازين القوى في الشرق الأوسط وعلى العلاقات داخل نادي الكبار. طبيعي في ضوء ما تقدم أن يراقب العالم ما سيفعل الأميركيون في العراق. والتجارب تقول إن إطاحة نظام بفعل تفوق الآلة العسكرية أسهل من بناء نظام بديل. في المهمة الأولى تكفي القوة الساحقة. وفي الثانية لا بد من التعاطي مع تركيبة البلد وتنوع الميول والتصورات، فضلاً عن المخاوف والحساسيات. نجحت الولاياتالمتحدة في الامتحان الأول وسددت إلى نظام صدام ضربة قاضية. الامتحان الثاني لا يزال في بداياته وهو مفتوح على احتمالات كثيرة. السؤال عما سيفعله الأميركيون يجب ألاّ يحجب السؤال عما سيفعله العراقيون أنفسهم وبغض النظر عن مسؤولية القوة المحتلة بموجب الاتفاقات الدولية. وهكذا يصبح السؤال ما هي أقصر الطرق ليتخلص العراقيون من قوات الغزو ويستردوا سيادتهم على أرضهم وقرارهم الحر؟ وفي هذا السياق ثمة حقيقة تفرض نفسها في بدايات هذا القرن وهو أن الأميركيين لا يستطيعون الإقامة في العراق إذا طالبتهم بالخروج منه سلطة عراقية واسعة التمثيل تعبّر عن تطلعات الشعب العراقي ومصالحه. لا يحتاج العراقيون إلى حرب لاخراج الأميركيين. يحتاجون إلى تسوية حقيقية بينهم. إلى التفاهم على تصور لعراق ما بعد صدام. عراق يتسع لكل مواطنيه بعيداً عن منطق القهر والشطب والإبعاد. تصور لدولة ديموقراطية انتخاباتها حرة وبرلمانها يراقب حكوماتها وقضاء مستقل وجيش يلتزم الحدود التي رسمها له الدستور ورئيس ينهمك بإدارة البلاد بدل انهماكه بموقعه في صفحات التاريخ. وفي هذا التصور لا بد وأن يحسم العراقيون مسألة أدمت بلادهم هي المسألة الكردية التي لا يمكن حلها إلاّ على قاعدة احترام حق الأكراد في تقرير مصيرهم في إطار عراق موحد واحترام سائر الأقليات. وبلورة هذا التصور تستلزم طي صفحة أوهام قديمة وقطع الطريق على اغراءات أوهام جديدة. أقصر الطرق لاخراج الأميركيين بلورة الإرادة العراقية في بناء دولة القانون والمؤسسات بعيداً من اغراء الهيمنة واللون الواحد والصوت الواحد. وما لم يغتنم العراقيون الفرصة الحالية، فإن الخسارة التي ستلحق بهم وببلدهم ستفوق خسارة الأميركيين حتى وان ارغموا على رحيل مبكر.