في هذه الحلقة تسرد الملك نور تفاصيل الأيام الأولى من حياتها الزوجية، وغياب الملكة علياء ومحاولات الملك الحسين تخفيف وطأة موتها على الأبناء الذين وجدوا في العروسة الجديدة أماً. كما تسلط الملكة نور الضوء على زيارات شاه إيران السابق مع تصاعد نذر الثورة وجهود الحسين في منع سفك الدماء. كل اثنين تزوجا حديثاً يمران عادة بفترة تكيّف، وهذا ما حدث لنا انا والملك. من دون شك، كان عليّ ان اقوم بالجهد الأكبر في هذه العملية، فقد تعمّقت داخل حياة زوجي اكثر مما فعل هو داخل حياتي. اول المتغيرات قلة الخصوصية، الذي ما أنفك اضطرب منه. فقد كان من المزعج ان أخرج حتى من غرفة النوم، لأجد امامي عامل غرفة او نادلاً او معاوناً لزوجي. قد يتوق بعض الناس الى هذا النوع من الاهتمام، إلا انني اعتبرت الأمر تطفلاً ويثير الاضطراب. ثم أدركت على مر السنين ان التنافر هذا كان ثقافياً، اي انه يمثل الاختلاف بين احترام الخصوصية والحرية الشخصية ذات الطابع الغربي، والعادات الشرقية التي تشدد على الهوية والحرية ذات الطابع الشعبي الجماعي. وكالعادة الملكية في معظم بلدان العالم، كانوا يتوجهون إلي بكلمة "جلالتك"، كما كان يتم التعريف بي امام الآخرين او يشار إلي في حضورهم بعبارة "جلالتها". في البدء، كان الأمر يثير فيّ شعوراً غريباً باللاشخصية، كما لو ان حاجزاً من الشكليات يبعدني عن بقية الناس، بمن فيهم عائلتي وأصدقائي. ولطالما شعرت بالعناء الذي يتكبده كل من كان على اتصال دائم بي في اعتماد عبارات طويلة تتكرر فيها هذه الكلمة الى ما لا نهاية خلال الحديث. كما فرضت العادة ان يقف الناس لدى دخولي الصالة، إلا انني لم أر ابداً حاجة الى هذه المراعاة. وعلى رغم تواضعه، كان زوجي يدرك دلالة منصبه وأهمية سلطته. إلا انه خلافاً لقصص الملوك، حاول قدر الإمكان ان ينفتح على الآخرين، ولم يشجع الشكليات والتبعية المفرطة. فحين يدنو منه من يصرّ على الانحناء او تقبيل اليد، كان الحسين يساعده بلطف على النهوض ليصافحه. فتعلمت من خلال مراقبته، وحاولت ان اثق بحدسي، إذ شعرت انه يمكنني ان اقوم بالمثل على طريقتي الخاصة. جاء تعلقي بالأردن وشعبه تلقائياً، إلا انه صعب علي تحديد دوري للمساهمة في مصلحة البلد، وأذكر يوماً، كنا تزوجنا حديثاً، سألت فيه الحسين ان يوجّهني، إذ غمرني شعور بالضياع. قلت: "كيف يمكنني ان اقدم المساعدة؟". وأجاب: "أنا أثق بك تمام الثقة. لم يسبق ان ارتكبت أي خطأ". كانت عبارته في مقام الثقة البحتة، وأحسست بموجة كبيرة من الحنان تتدفق مني عندما قالها، إلا انه مع ذلك، لم يجب عن سؤالي. وكما يفعل كل ثنائي تزوج حديثاً، كان علينا ان نتكيف مع اوقات نومنا المختلفة. في الواقع، كان زوجي يبقى مستيقضاً حتى ساعات الليل المتأخرة، وتمكنت بالكاد ان اجاري نمطه الليلي خلال فترة تعارفنا، حين كنت لا أزال اداوم في مكتب شركة الطيران. إلا انني بعد الزواج حاولت ان اجاري روتينه فأنام حتى ساعة متأخرة من الصباح. نجحت احياناً وباءت محاولاتي بالفشل احياناً اخرى. وبالتالي بقيت على وتيرتي اصحو عند الساعة 30،6 صباحاً تقريباً، بعدما كنت امضيت معظم الليل معه. بصراحة، اجبرتني الحياة مع الملك الحسين على ان اقوم بجهود إضافية على جميع الصعد. ونظراً الى التهديدات الدائمة لحياته، اضافة الى الاضطراب السياسي المحيط به، اضطررت الى اعتماد نظرة جديدة للحياة، فأقسمت ان استفيد من كل لحظة نعيشها. مع ذلك، مررت بأيام شكلت تحدياً لمعنوياتي. فلدى ولوجي الدار الملكية بصفتي عروساً شابة، شرعت اراقب، وحاولت بالتالي ان افهم، ان اتعلّم الأمور بترو. غير انني عندما بدأت بالتعبير عن آرائي، شيئاً فشيئاً، فتجادلت اكثر من مرة مع مدير القصر، البريطاني الجنسية. كان لقبه الرسمي "مراقب الدار الملكية"، وأدركت مع الوقت انه يبالغ في تطبيق مهمته بحذافيرها. وبعد فترة وجيزة من انتقالي الى القصر، لاحظت ان الأضواء تبقى مضاءة خلال الليل، حتى بعد خلود العائلة الى النوم. فكنت اجول في القصر كل ليلة لأطفئ الأنوار، معتبرة ان ذلك يقلل من مصروف الكهرباء. إلا انهم لم يعيروا أي انتباه لوجهة نظري، نظراً الى كونهم يقيمون داخل قصره وبالتالي فالمحافظة على الطاقة آخر اهتماماتهم. ربما تناقضت آراؤنا بسبب الاختلاف الثقافي، فالولاياتالمتحدة جعلت عدداً من العائلات، بمن فيهم عائلتي، يعون مسألة الإسراف. وأدركت نتيجة لهذا التعاطي انني لم اتمكن من تولي اي امر على الطريقة الملكية. مفاوضات السلام لقد طغت على فترة التكيف هذه تداعيات الوضع السياسي في المنطقة. كان مضى شهران على زواجنا، حين دعا رئيس الولاياتالمتحدة جيمي كارترالرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الاسرائيلي مناحيم بيغن للاجتماع في كامب ديفيد من أجل التوصل الى اتفاق حول مشكلة الشرق الأوسط. وبذلك تمّ التخلي عن مخططات مؤتمر جنيف الدولي للسلام التي عمل زوجي جاهداً في التحضير له، فوجدت مصر نفسها وحيدة في المفاوضات مع اسرائيل فيما كان من المفترض أن يذهب وفد موحد من الفلسطينيين والسوريين والأردنيين والمصريين لهذا الغرض. اضافة الى التخوف من امكان ان يتفاوض السادات من أجل سلام منفرد مع مصر، حمل هذا الإعلان الشك في أن يكون تم التخطيط للحؤول دون قيام مؤتمر عربي - اسرائيلي من هذا النوع، وبالتالي، تستفيد اسرائيل من تفادي الضغط الناتج من مؤتمر علني كهذا. لم تتضمن دعوة الرئيس كارتر الملك الحسين، إذ كان كل من مستشار الأمن القومي زبغينيو بريجنسكي والسادات يعتبرانه "معوقاً للعملية". واعتبراه حاجزاً محتملاً أكثر منه شريكاً في الانتصار السياسي الذي كانا يأملان تحقيقه، نظراً لإصراره على انسحاب اسرائيل من جميع الأراضي المحتلة منذ عام 1967 وعلى حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم. وبفعل انشغاله بالمحادثات العالقة في كامب ديفيد، أهمل زوجي اطلاعي على الاجتماعات العائلية أيام الآحاد في منزل الملكة الأم، أي في قصر زهران. فاعتاد الأولاد زيارتها باستمرار بعد ظهر أيام الآحاد بمرافقة مربياتهم. أما زوجي وأنا، فكنا نزورها بحسب الظروف. إلا أنني اكتشفت بعد أشهر عدة أنه يتوجب على عائلة وأقارب الملكة الأم أن يزوروها كل أسبوع. وبالتالي، ارتكبت أول خطأ عائلي، أو على الأقل الخطأ الأول الذي تنبهت له. ولدت الملكة الأم، الشريفة زين الشرف، في مصر عام 1916 واقترنت بقريبها، الأمير طلال، وهي في الثامنة عشرة من عمرها. وقامت بتربية أربعة أبناء كما أصبحت رائدة في الدفاع عن حقوق المرأة من خلال رعاية أول اتحاد نسائي في الأردن، اضافة الى فرع النساء في الهلال الأحمر الوطي الأردني. ولا ننسى انها أثّرت ايجاباً في مساهمة زوجها في تأسيس الدستور الأردني عام 1952، مما منح النساء في الأردن حقوقهن بالكامل. من المؤكد انها عانت من نتيجة اصابة زوجها بالمرض، إلا أن الملكة زين تعاملت مع هذه المصاعب بإرادة صلبة، خصوصاً بعد مقتل حماها، الملك عبدالله، ودخول زوجها مستشفى خارج البلد. بعد تنازل الملك طلال عن العرش، أدّت الملكة زين دوراً مميزاً فيما أنهى ابنها البالغ السابعة عشرة من العمر دراسته ليعتلي العرش لدى بلوغه الثامنة عشرة. ما إن أصبح الحسين ملكاً، حتى أولت الملكة معظم انتباهها لعائلتها. عندما بدأت بالحضور الى اجتماعات أيام الآحاد في الزهران، لم تكن لدي أدنى فكرة عنها ولا عن التزاماتي تجاهها. جل ما أدركته، وهو أمر طبيعي، أنني كنت محط فضولهم وتعليقاتهم. وبغياب أي توجيه، اتبعت حدسي وحاولت أن التزم التهذيب والاحترام، غير أنني حافظت أيضاً على طبيعتي، وما استطعت. كنت أكثر تصرف بطبيعية وعفوية لدى وجودي مع الأولاد. وبعد ظهر يوم أحد، دخل الأولاد جميعهم وقبَّلوا يد الملكة زين، ليخرجوا بعدها الى الحديقة ويلهوا، بينما مكث الكبار مع الملكة الأم. فلاحظت ان بعض الأطفال الأصغر سناً، بمن فيهم أولادنا الثلاثة، لم يتمتعوا باللعبة بقدر اخواتهم وأقرباؤهم الأكبر سناً. وبهدف اعادة التوازن، انضممت اليهم وواجهت أحد الصبية الكبار. فدُهش الأولاد لمشاهدة عمتهم الجديدة تنقض عليهم من الناحية الأخرى من الحديقة. إلا أنني نجحت في اعاقة الصبي البالغ الثانية عشرة من العمر، والذي تبين أنه الأمير غازي، نجل الأمير محمد، حتى يتمكن الأولاد الصغار من الفوز. لا أعلم كيف كان وقع هذه الحادثة على البالغين، إلا أنني سجّلت تقديراً عالياً لدى غازي وأخيه طلال، ووصفاني بال"مرحة". أحب زوجي أبناء اخوته وبناتهم كما لو أنهم أولاده. ولم ينفك كل من طلال وغازي يكرر قصة اختفاء أبناء الأخوة الغامض. وتدور القصة حول طائرة الملك الحسين المروحية الأولى، والتي كانت حينذاك فريدة من نوعها في الأردن، فكان الصبيان يسمعان هدير مراوحها، ويهرولان الى الخارج للتلويح، فيحط الملك الحسين بمروحيته على العشب، ويساعدهما على الصعود ويقول: "أين تودان الذهاب؟". ثم يحلّق بهما فوق عمان في رحلة عصرية على البساط السحري، قبل أن يعيدهما الى الحديقة. فيسأل أهل الولدين عن سبب اختفائهما، فيجيبانهم: "لقد اصطحبنا عمّنا في رحلة في المروحية". فيغضب الوالدان أكثر ويصرخان: "لا تلفقوا أكاذيب". كلّما عدت بذاكرتي الى بداية حياتي الزوجية، دُهشت لمدى تأثري حينها بالقيل والقال والانتقادات على أنواعها. وكانت طاحونة الإشاعات في عمان بدأت تنتج ما بات على مر السنين مجموعة من القصص المنافية للعقل. فقد انتشرت بسرعة البرق اشاعات حول السبب الذي أدّى الى مقتل الملكة علياء في حادث المروحية. ومن أكثر القصص ترويعاً تلك التي أصرّت على أن الملكة الأم دبّرت تحطّم الطائرة. وبعيد اعلان خطوبتي من الملك الحسين، اكتشفت انه تم نشر اشاعات حول كون وكالة الاستخبارات الأميركية خططت لحادث الملكة علياء من أجل اعتلائي العرش. كما سمعت أخباراً تقول إنني أنجبت صبياً أسود في أميركا، وأن والد الطفل يقوم بابتزاز زوجي، مهدّداً إياه بنشر الصور في مجلة "بيبول"، اضافة الى كلام حول شقيقتي التي كانت تتابع دراساتها في الحقوق في تكساس في حينه يقول انها افتتحت متجراً في جادة ماديسون في نيويورك لإعادة بيع ملابسي. كما انني ابتعت جزيرة آسيوية خلال احدى رحلاتنا الى الشرق الأقصى. ولم تنته القصص حول تبذيري الأموال على المجوهرات وحول مشكلات في حياتنا الزوجية، وحول حملي وخضوعي لعمليات اجهاض. وتراكمت الإشاعات حولي أنا وزوجي في الأردن، مما جعلنا نعاني. وكنت أعلم ان النساء في جميع أنحاء العالم، ان كان في ايران أو في الأردن أو في الولاياتالمتحدة أو أوروبا، يتعرّضن للقيل والقال، مع دافع أو من دونه. وكنت أعي أيضاً ان كل فرد من العائلة كان محط تخيلات مستمرة. مع الوقت، تعلّمت أن قصصاً من هذا النوع غالباً ما تُظهر قيم أصحابها وميولهم ومتخيلاتهم، وليس عليّ بالتالي أن آخذها على محمل شخصي. مع ذلك لم أعتد قط على فكرة اقتناع الناس بهذه الإشاعات. لا أذكر ما دفعني الى ذلك، أكانت الاشاعات أو انعدام الخصوصية أو حتى الاحباط في التعامل مع الادارة في "الهاشمية"، إلا أنني شعرت بالحاجة الى التغيير، فأقنعت مليحة، التي ترددت، بمساعدتي في انجاح حيلتي. فانزلقت الى مقعدها وأشحت بنظري عن الحراس المراقبين فيما عبرنا بوابات القصر باتجاه حرية العالم الخارجي. كانت مليحة شديدة الاضطراب. فقدمتها الى أصدقائنا، سهى وخالد شومان، اللذين أمضيت معهما بضع ساعات ممتعة نتحدث ونشرب الشاي، من دون الإجابة على الاتصالات المتوترة والمكثفة من القصر في محاولة لتحديد موقعي. لكن، عندما أدركت انني تسببت بقلق شديد لحراسنا الملكيين المتفانين، عدت ادراجي ولم أمتّع نفسي بعدها بهذه الطريقة، إلا أن ذلك كان منفذاً للترفيه عن النفس. غايتي الحقيقية كانت التركيز على كيفية المساهمة في انجاح زواجي وفي مساعدة الأردن. في البدء، صعب علي تحديد مساري. وعلى رغم تأديتي بعض الأدوار في المناسبات، كانت لدي الحرية في اختيار اولوياتي. وفيما لم أحبّذ التصنّع، تعلّمت تدريجاً ان اضع قناعاً معيناً أمام الكاميرا والناس. وغالباً ما فسّر لي زوجي أهمية لغة الجسد. "إذا تبسمت، منحت الثقة للآخرين. وإذا لم تفعلي، أعطيتهم سبباً للشك وللشعور بعدم الاستقرار والقلق". لم أشك أبداً في منطقه. فهو حافظ على وحدة هذا البلد وتخطّى مختلف المحن من خلال الظهور بين الحشود وبعث الثقة في نفوسهم، الثقة التي لربما لم يكن يشعر بها في حينه. وجرى تداول حكايات اسطورية حول اقتحامه حشوداً متظاهرة وتهدئة غضبها، أو ذهابه الى مواقع عسكرية قيل انها على وشك التمرّد والحصول على دعمها بفعل قوة شخصيته. ولا شك في ان مزاجه أثّر في الناس المحيطين به، من عائلة ومواطنين. وقد شهدت بأم عيني الناس يبتسمون لدى ابتسامه، يضحكون لدى ضحكه ويضطربون لدى اضطرابه. مع ذلك، لم يخطر في بالي قط ان ينظر إليّ الناس بالطريقة عينها. منذ اللحظة التي تقابلنا فيها أنا والحسين، لم أقبل بالتحدث عن علاقتي به أو عنه شخصياً. فقد حاولت منذ البدء ان أحافظ على هامش من الخصوصية في حياتنا وكنت جد مقتنعة بأن أي شخص في مكانته يملك هذا الحق. إلا أنني لم أدرك أن لا أحد من محيطه يفكر على هذا النحو. فقد بدا انهم يعتبرون الملك وعائلته ملكية عامة. ان هذا الانبهار بالشخصيات ذو طابع عالمي، غير أنني لم أرغب بالمساهمة فيه، خصوصاً في الأردن. وفي بلد صغير كهذا، لا بد من أن يتحول كل نبأ يخص العائلة الملكية، لا سيّما الملك، فينشر بنسخة مبالغة أو مشوهة. ووصل الأمر ببعض الناس أن يخبروا بثقة تامة انهم شهدوا حدثاً ما، ليتبين لاحقاً ان الأمر قد حصل خلال غيابهم عن البلد. من جهة أخرى، كان للمحافظة على الخصوصية وجهها السلبي. فاكتشفت ان التكتم يدفع الناس الى الحذر أكثر فأكثر. وفي غياب المعلومات، كانوا يخترعون بكل بساطة أخباراً لترك انطباع بامتلاكهم مصادر داخلية موثوقة. فاضطررت للتوفيق ما بين إشراك الآخرين قدر الامكان في حياتنا وميولي الطبيعية إلى الخصوصية، حتى يدركوا ما نحاول تحقيقه. غير انني لم أنفك أقاوم التحدث مع الصحافة. اضافة الى شعوري بأن زواجي ليس من شأن العامة، أردت أن أحوّل الحوار الى مسار أكثر دلالة وأهمية، في ظل الوضع الحساس للشؤون الاقليمية. طبعاً، لم أرغب في التركيز على الأمور الشخصية، التي بدا انها تستقطب اهتمام معظم وسائل الإعلام. على رغم ذلك، لم أبدأ بالشكل الصحيح. استعجلني الناطق باسم الديوان الملكي لإجراء مقابلة مع مجلة "بيبول"، إلا أنني لم أقتنع بملاءمة المجلة المذكورة لمقابلتي الأولى. فقلت له: "لا أعتقد أنها نقطة انطلاق جيدة"، لكنه أصرّ على موقفه. فظننت أنه نظراً لكونه مسؤولاً عن الصحافة، لا بد من أن يكون ملمّاً بهذه الأمور. إلا أنني صعقت عندما قرأت المقابلة تحت عنوان: "أميركية ترتدي الجينز الأزرق في الأردن" وتقول عن ملكها: يسرّني أن أنجب طفله. حين كان الصحافي يهمّ بالخروج من القصر، أجبته قائلة: "ان شاء الله" عندما بادرني بالسؤال حول ما إذا كنت والملك نرغب بإنجاب الأولاد. إنه لأمرٌ مخز ان ترى ملاحظة ارتجالية من هذا النوع تتحول الى عنوان رئيسي. ارتبك الناطق الاعلامي حين شاهد ردّ فعلي، وكان أصبح صديقاً مقرباً، وغادر لاحقاً ليشغل منصب سفير متميز في الخارج. وهو لم يفهم سبب استيائي. اثر أحداث أخرى من هذا النوع، قررت أن أتبع حدسي. نظراً لأنني كرّست نفسي لنشاطاتي العملية، بدأت أدرك ان وسائل الإعلام المحلية كانت تؤمن تغطية كاملة لكل ما أقوم به علناً. لذا، شرعت في اختيار الأمور التي أرغب بالتركيز عليها، فأخطط لجدول أعمال يحقق التوازن بين أدواري الاحتفالية التقليدية ورغبتي في التركيز على المبادرات المهمة من أجل تطوير الثقافة والمجتمع والبيئة. ومع ذلك، لم أكن متأكدة من المجالات التي يجب أن أركز مجهودي عليها. كنت أعي حاجتي الى مكان أدعو فيه الناس الى الاجتماع، اضافة الى فريق عمل صغير يساعدني في متابعة طلبات المساعدة وتطوير برامج جديدة. وشجعني الحسين على اقامة مكتب في "المأوى"، على قمة التل المجاور لمكاتب الديوان الملكي، لاعتباره سكناً لجده الراحل ثم لنا، منذ خطوبتنا، وبالتالي كان ذا قيمة عاطفية. كان المكتب الأول من نوعه لشخص في مكانتي، إذ لم يعتد الكثير من أعضاء الديوان الملكي على أن تعمل الملكة بنوع من الاستقلالية عن مكاتب الديوان الملكي المؤسساتية، التي كانت تركّز حصراً على الملك. وقد أثار اهتمامي اعتبار الكثيرين انه من المستحيل أن أحدد اولوياتي وأقوم بمشاريع وآخذ المبادرة في التكلم علناً. اعتقد ان ذلك عكس الشكوك حول المرأة وقدراتها المهنية، الأمر الذي ادهشني كوني تعرفت الى عددٍ من النساء الأردنيات ذوات الكفاءات العالية. لم يكن في نيتي أبداً أن أتصرف من تلقاء نفسي في أمور ذات تبعات سياسية، أو أن أتدخل في ادارة الديوان الملكي. غير أنني كنت أرغب في سد الثغرات في برامج التنمية وإطلاق تفاهم دولي حول تاريخ الشرق الأوسط. وفي حين كان الديوان الملكي مسؤولاً عن التغطية الإعلامية، تولّى مكتبي وظيفة شبه مستقلة في كل المجالات الأخرى. فآثرت مواضيع جريئة من دون استشارة زوجي، وحاولت اطلاقها من خلال جدول أعمال على نطاق أوسع وأكثر انفتاحاً وتحرّراً. استخدمت دوري للتخفيف من عبء المسؤولية الذي كان على عاتقه. ولم أطلب أي مساعدة أو تأييد. جل ما فعلته هو الشروع في الأمر بمساعدة أصدقائي وزملائي. فانتقلت واعتمدت مراكز "المأوى" لتخدم كمكاتب. منذ البدء، أصبح المكان مميزاً بالنسبة إليّ، إذ كان مخصصاً لي وحدي. وأردت أن ينتج المكتب أفضل ما في الأردن ليعكس صورة البلد الغني بتنوعه. وكنت أعلم أهمية استخدام أشخاص من مختلف الجماعات والمجتمعات في البلد. فكانوا مسلمين ومسيحيين، رجالاً ونساءً من الضفتين الشرقية والغربية، اضافةً الى الشركس بعائلاتهم المتحررة والمحافظة. وتشكل ذكرياتي حول الأوقات العصيبة التي مررت بها عقدة واحدة مع تلك التي تورطنا خلالها بمأساة سياسية. قمنا بزيارة ايران عام 1978. وكانت الرحلة مميزة بالنسبة إلي، إذ أنني لم أطأ تلك البلاد منذ أن أقمت وعملت هناك عام 1976. وقد وصلنا اليها قبل بضعة أشهر من نشوب الثورة التي حولت البلاد الى جمهورية اسلامية وأرسلت الشاه الى المنفى. وحين أقمنا زوجي وأنا مع العائلة الامبراطورية في منزلهم على ضفاف بحر قزوين، لم تكن مؤشرات العاصفة واضحة. وكانت الحركة الثورية تخضع دائماً لمراقبة ال"سافاك"، أي الشرطة السرية الاستخباراتية والجيش الايراني، وبدت ايران هادئة نسبياً. وكان أصدقاء مقربون من الشاه يتهامسون بقلق حول زوجي ومن يحيط به بسبب التململ الشعبي، إلا أننا قليلاً ما شعرنا بالأحداث المضطربة التي لن تلبث أن تهزّ البلاد. واذكر انني حاولت ان أساعد زوجي في فهم الأوضاع. فنظرتي لما يحدث داخل ايران كانت مختلفة بعض الشيء، اذ اقتصرت معرفته للوضع باتصاله مع الشاه وعائلته، اضافة الى مصادر عسكرية رسمية واستخباراتية. اما أنا، فكنت عملت في طهران قبل سنتين، وشعرت بدرجة عالية من الاستقطاب والتفكك داخل المجتمع الايراني. خلال زيارتنا تلك، بدت الامبراطورة فرح اكثر حيوية ونشاطاً من زوجها، ربما لاصابته بالسرطان المميت الذي بقي طيّ الكتمان لبعض الوقت، أو لأنه بكل بساطة انسان خجول. فقد أمضى فترات استراحة طويلة، لعب خلالها لعبة النرد مع طبيبه، فيما مارس اصدقاؤه وعائلته السباحة، والتزلج على المياه، والركمجة وحفلة راقصة صاخبة تتكرر كل ليلة. أمضينا بضعة ايام في مركب العائلة، ما أتاح لنا الفرصة لتمديد شهر عسلنا في أجواء مريحة ومسلية. ودللنا الثنائي الامبراطوري بحسن ضيافتهما، فآلت بنا الحال احياناً الى نسيان همومنا. ونظراً الى ان العائلة كانت تستخدم مدرباً للعبة كرة المضرب، طلبت من الحسين ان يمارس اللعبة، وهو أمر أحببته منذ صغري. فقبل بروح مرحة وتابع ذلك خلال معظم سنوات زواجنا. في الواقع، لم نقلق خلال تلك الزيارة على الأمور السياسية، بل على المشاريع المسلية. من بين النشاطات التي خططت لها العائلة الملكية التحليق بالمروحية فوق بحر قزوين، حيث تشجعنا للقفز منها الى أمواج شاهقة الارتفاع. وبما انني ترعرعت على المحيط الهادئ، لم أشعر قط بالخوف من ركوب الأمواج طالما ان الشاطئ على مرأى مني" الا ان التمايل على تلك الأمواج القزوينية كاد يكون مرعباً. وكان حجمها هائلاً الى درجة اننا عجزنا عن رؤية الشاطئ عند المنخفضات. اما نقطتنا المرجعية الوحيدة، والتي لم تغب عن أنظارنا في الغالب، هي مركب البحرية المجاور الذي كان ينتظر ليقلنا. ومن أكثر اللحظات اضطراباً عندما قامت شقيقة الشاه، الأميرة فاطمة، بدعوة الحسين للانضمام اليها فيما تحلق بالمروحية فوق المنطقة. كانت الأميرة أرملة قائد في القوات الجوية الايرانية، وبالتالي متمرسة في قيادة الطائرة. الا ان الموجودين شعروا بأن أسلوبها بالتحليق كان عفوياً وغير مبالٍ. ونجحت ذات يوم باقناع الحسين بمرافقتها في رحلة في المروحية فوق المركب. وكنا نستمع الى هدير الطائرة فوق رؤوسنا لفترة بدت وكأنها ساعات، يساورنا القلق عليه وداعين الله ان يحط بسلامة. بعد عودتنا الى الأردن، تتبعنا عن قرب الحال المتدهورة في ايران. وكنا نملك آلات "تلكس" في كل من الهاشمية والعقبة، حتى انني أذكر كيف رحت أراجع صفحات لا متناهية من اخبار التلكس كل يوم. استمتعت بهذا المصدر الفوري لاخبار المنطقة والعالم. ففي تلك السنوات التي سبقت آلة الفاكس ومحطة ال"سي ان ان"، شكلت تلك الأوراق الملفوفة جزءاً لا يتجزأ من حياتنا، خلال سنوات زواجي الأولى، اذ كنت أتصفحها كل ليلة موجزات الاخبار وانتقي منها ما قد يثير اهتمام زوجي. الا ان اخبار ايران في خريف 1978 ظلت تزداد سوءاً. وعقب زيارتنا الى ايران ببضعة اشهر، عادت الأميرة وجدان، ابنة خالة الحسين، من هناك وقالت لي ان اربعة عشر شخصاً لقوا حتفهم في اعتداء على القصر، بينما كانت في الداخل برفقة اعضاء آخرين من البعثة، يشاهدون فرقة رقص شعبية. ولم تتعرض البعثة التي ضمت الأمير حسن، والأمير رعد وعقيلته الأميرة ماجدة للاعتداء، الا في اليوم التالي، لدى صعودهم على متن طائرة متوجهة الى الأردن. وفي أيلول سبتمبر 1978، أي في نهاية شهر رمضان المبارك، شهدت طهران بداية تظاهرات مكثفة. فطالب المتظاهرون برحيل الولاياتالمتحدة عن ايران وعودة النظام الديني، نتيجة لما زوّدهم به آية الله الخميني من خلال عظات سجلها على أشرطة وأرسلها من منفاه في العراق. فما كان من الحكومة الا ان ردت باعلان القانون العرفي. وبعد فترة وجيزة، فتحت قوات الشاه المسلحة النار على متظاهرين في طهران، مودية بحياة اكثر من مئة شخص ومصيبة مئات آخرين بجروح. وبات زوجي مكروباً من اراقة الدماء في ايران وغاضباً من تلاعب آية الله الخميني السياسي، الذي غادر في تشرين الأول اكتوبر 1978 العراق ليذهب الى فرنسا، حيث تابع بث عظاته الى ايران. لم يتمكن الحسين والكثير من الشرق الأوسطيين من فهم السبب الذي يدعو فرنسا الى القبول بنشاطات علنية عدائية وسياسية على ارضها موجهة ضد بلد آخر. فأثار ذلك شكوكاً معيّنة: لماذا كان الفرنسيون يتساهلون مع الخميني؟ وتبيّن لاحقاً ان الدوافع قد تكون تجارية وسياسية. واذا صحّ ذلك، فإنه تحقق، ولكنه كبّد المنطقة خسائر فادحة. عدنا أنا وزوجي وقمنا بزيارة اخيرة الى ايران في نهاية عام 1978، وذلك قبل أسابيع من رحيل الشاه والشاهبانو النهائي في 16 كانون الثاني يناير 1979. تناولنا العشاء نحن الأربعة، وكانت تلك الليلة محبطة. بالكاد نطق الشاه ببضع كلمات، فيما حاولت الامبراطورة فرح بكل شجاعة ان تحافظ على رباطة جأشها. كان الحسين مقتنعاً ان الفرصة لا تزال سانحة امام الشاه ليتغلب على الكارثة السياسية التي تلوح في الأفق، ونصحه ان يتوجه الى الشعب مباشرة، كما فعل بنفسه في الأردن في الماضي: "تكلم الى الشعب، تكلم الى علماء الدين، تكلم الى الجيش لإقامة حواراً وطنياً لتبديد الغضب". الا ان الشاه لم يرد، أو لم يقدر فعله. في غضون ذلك، كانت بعثتنا تتناول العشاء مع سفير ايران في الأردن، الذي بدا مضطرباً خلال الحديث وقال: "طلب مني جلالته الامبراطوري ان أذهب الى قم وأقابل القائد الملاّ في محاولة لتهدئة الأوضاع. أرجوكم ان تساعدوني. لم يسبق لي ان تحدثت الى اي من هؤلاء المتدينين. ماذا يجب ان أفعل؟". ثم اقترح السفير ان يقوم الملك الحسين بزيارة اهم الفقهاء برفقة الشاه، ليتوصلا معاً الى حل ما. فأجابه الأمير رعد، قريب زوجي: "أنا واثق من ان جلالته سيسرّ لذلك". لم تكن الفكرة محالة. فالايرانيون من المسلمين الشيعة، وهم بالتالي يكنّون احتراماً خاصاً للملك الحسين لتحدره من سلالة الامام علي، صهر النبي، الذي يوقره الشيعة على انه وريث النبي الشرعي. وحين جاء الينا كل من الشريف زيد بن شاكر والأمير رعد في وقت متأخر من تلك الليلة لنقل طلب السفير، وافق الحسين على الفور. وعلى رغم تأخر الساعة، دعا زوجي الى اجتماع مع الشاه في محاولة لاقناعه بمرافقته الى قم لبذل الجهود الاخيرة في التوسط مع العلماء. الا ان الاجتماع لم يعقد. ان كان من شخص يستطيع التأثير على الشاه، فهو الحسين. فخلال سنوات مضت، بينما كانا يتناولان العشاء في المركب العائلي عينه الذي زرناه عام 1978، اقنع زوجي الشاه بالتريث قبل اعلان الحرب. في تلك الأيام، كان البريطانيون يخططون للانسحاب من مختلف دول الخليج. وما كان من الشاه الا ان اعلن فجأة نيته احتلال البحرين فور مغادرة البريطانيين، وقال للحسين: "البحرين جزء من ايران، ولن نتخلى عنه". وأدى ذلك الى جدل طويل، انتهى بقول زوجي: "لا يمكنك فعل ذلك، فالبحرين بلد عربي مستقل. وسكانه كلهم من العرب، على رغم وجود بعض الشيعة. لن يسمح لك العرب بذلك". ويذكر زوجي ان الشاه أجاب قائلاً: "ليذهب العرب الى الجحيم"، فرد الحسين: "ولكنني عربي". وقال الشاه: "آه، لا، لا، لا اعنيك أنت. فأنت أردني". لطالما أحب زوجي ان يردد هذا الحوار امام العائلة والاصدقاء المقربين، اذ اعتبر تمييز الشاه بين كون الملك عربياً واردنياً من الامور المضحكة. لكن حقيقة الأمر ان هذه الحادثة ولّدت تأثيراً مهماً، وحافظت البحرين على استقلالها. ولسوء الحظ، لم يتمكن زوجي من مساعدة الشاه على انقاذ بلده من تلك المأساة كما انقذ البحرين من احتلال الشاه. غداً حلقة تاسعة.