تحدثت الملكة نور في حلقة الامس عن تعرفها الى الملك الحسين في عمان ثم عودتها الى أميركا قبل ان ترجع الى الاردن حيث تغيرت مسيرة حياتها. واليوم تتناول الظروف العربية والدولية التي رافقت اقدام صدام حسين على احتلال الكويت، وكيف تحرك العاهل الاردني لاحتواء الازمة وايجاد حل سلمي عربي لانسحاب القوات العراقية... لكن السياسات العربية والاقليمية كانت تدفع باتجاه آخر أدى في نهاية المطاف الى الكارثة التي نعرفها جميعاً. عندما أنظر الى الماضي محاولة استرجاع السياق الأشمل لأزمة الخليج في 1990 - 1991، أجد نذراً مبكرة للمشاكل المقبلة تعود الى 1977. فقد زرت العراق للمرة الأولى تلك السنة للحصول على معلومات عن المرافق ودورات التدريب المطلوبة لمشروع اقامة جامعة عربية للطيران. كان ذلك قبل سنتين من تسلم صدام حسين الرئاسة، لكن أجواء الخوف كانت بارزة بوضوح. وشعر الكل بالخطر الذي تنطوي عليه مناقشة حتى أكثر القضايا براءة. واعتاد رجال الأعمال وممثلو الشركات الأجنبية تلمس ما تحت طاولاتهم للتأكد من خلوها من أجهزة التنصت، أما العراقيون فقد افترضوا دوماً أنها موجودة، ورفض المسؤولون العراقيون الذين التقيتهم في المطار الافصاح عن كل ما يتعلق بعمليات الطيران المدني العراقية. وعاملوا جداول الرحلات العادية وكأنها من أسرار الدولة، على رغم انها مسجلة دولياً. بعد 12 عاماً على ذلك، في 1989، استمعنا بقلق الى خطابات صدام حسين في اجتماع مجلس التعاون العربي في شباط فبراير من تلك السنة المجلس الذي ضم الأردن ومصر واليمن والعراق وتأسس السنة السابقة. وكانت نبرة صدام حسين وقتها تتصاعد في الحدة ضد اسرائيل والولاياتالمتحدة، وحركت مشاعر الحماس للمواجهة عندما أعلن أن لا مكان في صفوف العرب للذين يخضعون لإرادة الدولة العظمى أميركا. رد الكونغرس على ذلك كان وقف مبيعات الحنطة الى العراق. وفسّر كثيرون لهجة صدام حسين النارية على أنها محاولة لتسلم قيادة المنطقة أكثر مما هي هجوم حقيقي على اسرائيل أو أميركا. لكن الفلسطينيين شعروا في شكل متزايد بأن صدام حسين قد يكون القائد الوحيد الذي سيحرر وطنهم، ذلك الأمل الذي أصبح أكثر الحاحاً مع تكاثر المستوطنات الاسرائيلية في الأراضي المحتلة. وفي أوائل 1990 بدأ تدفق يهود الاتحاد السوفياتي على اسرائيل بعدما سمح لهم بذلك عند نهاية الحرب الباردة. وكان ذلك سيلاً مذهلاً - الكثيرون طلبوا تأشيرات الدخول الى الولاياتالمتحدة، لكن نظام حصص الهجرة هناك جعل أكثرهم يذهب الى اسرائيل - وأثار قلقاً عميقاً لدى زوجي وبقية القادة العرب. وبلغت النسبة الاسبوعية للهجرة 1400 شخص، وأسكنت اسرائيل الجميع في الأراضي المحتلة، منتهكة بذلك مواثيق جنيف. وبحلول 1991 زاد عدد المستوطنين في الأراضي المحتلة على مئة الف، اضافة الى 127 ألف مستوطن في القدسالشرقية. وأدى ذلك الى تغيير ديموغرافي سياسي خطير. على هذه الخلفية من هذا التأزم في اسرائيل والأراضي المحتلة شعر الملك الحسين باحباط متزايد. وبدا انه لا يملك وسيلة لتحريك عملية السلام المتوقفة أو مواجهة الأزمة الاقتصادية في الأردن. وزار المملكة العربية السعودية أواسط شباط فبراير لبحث نذر التدهور الاقتصادي في الأردن ومخاوفه الاقليمية. وسط هذا المأزق طرأت قضية كان لها أن تصعّد التوتر بين صدام والغرب. فقد اعتقل العراق الصحافي البريطاني فرزاد بازوفت، مراسل صحيفة "أوبزرفر"، واتهم بالتجسس، وحكم عليه بالاعدام. واعتقد كثيرون في المنطقة أن الصحافي الايراني المولد كان جاسوساً، إلا أن الحكومة البريطانية أصرّت على براءته وطلبت له العفو. واتصل الملك الحسين بالرئيس العراقي مرات عدة لإقناعه بعدم تنفيذ الحكم، محذراً بأن ذلك سيكون في صالح الذين يبحثون عن ذريعة لمهاجمته. لكن صدام لم يكن ينوي الاذعان لمطالب الغرب. ووصلنا في 15 آذار مارس 1990 نبأ اعدام بازوفت شنقاً، وهو ما أثار موجة احتجاج قوية طويلة الأمد في بريطانيا. وعبر نواب في مجلس العموم عن "اشمئزازهم التام" من "الوحشية التي لا توصف" في العراق، ووصفوا الإعدام بأنه "عنف متقصد من جانب ديكتاتور ملطخ بالدماء". وكان ما أغضب رئيسة الوزراء مارغريت ثاتشر في شكل خاص رفض صدام حسين التماسها الشخصي بالرأفة، وتزايدت شكوكها في نياته منذ ذلك الحين. وفي أجواء التوتر المتصاعد في المنطقة أصدر مجلس الشيوخ الأميركي في 22 آذار مارس قراره المفاجئ بوجوب بقاء القدس موحدة. وعلى رغم ان القرار لم يذهب الى حد الاعتراف بالقدس عاصمة لاسرائيل فقد كان هذا ما فهمه الشارع العربي، واعتبره حركة استفزازية جديدة من الولاياتالمتحدة، تهدف الى النيل من الحقوق الاسلامية في المدينة المقدسة. والقدسالشرقية حسب القانون الدولي مدينة احتلت بالقوة ولا تزال كذلك ضمن الأراضي المحتلة التي طالب مجلس الأمن في قراره 242 بانسحاب قوات الاحتلال عنها. ولقي قرار مجلس الشيوخ بعد اسبوع على اصداره ادانة شديدة من اجتماع عقدته الدول العربية، ضاعفت من حدة المشاعر المعادية لأميركا في الشارع العربي. وشعر زوجي بالاحباط من عدم اهتمام الولاياتالمتحدة بالسعي الى حل. وقال لي "لا شيء يتغير كما يبدو... المنافذ كلها مسدودة". لكنه شعر بتحسن عندما أدى مناسك العمرة في مكةوالمدينة خلال نيسان ابريل. وكما هي التقاليد فقد اصطحب كثيرين من أفراد العائلة الذكور، من بينهم ولداه الأمير فيصل والأمير حمزة وابن أخيه الأمير طلال الذي أبقى حمزة إلى جانبه خوفاً عليه من الزحام. كان عمر حمزة وقتها عشر سنوات، وبلغ من صغر حجمه أنه احتاج الى ثوب للاحرام صنع خصيصاً على قياسه. وقال لي طلال: "بدا حمزة وكأنه ملك صغير". وكانت عمرة حمزة الأولى هذه مغامرة كبيرة له. وذهب الجميع للصلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، ثم في ضريح سميّه عم الرسول. وتحدث حمزة بطلاقة خلال مأدبة العشاء مع الملك فهد، وتكلم بإنطلاق مع أميرين سعوديين يكبرانه سناً كانا يجلسان قربه. خلال ذلك استمرت نذر الشر بالتجمع في سماء الشرق الأوسط. وخشيت ان نكون - ما لم يدخل على المعادلة عنصر جديد - على وشك الانحدار الى دورة عنف جديدة تديم الاضطراب الذي يعيشه الشرق الأوسط منذ أجيال. وكنت مدركة في شكل مؤلم لنمط تاريخ المنطقة، كما لاحظه المحللون السياسيون، أي تعرضها كل عشر سنوات تقريباً لانفجار رئيسي. كانت تلك السنة الحادية عشرة على زواجي من الملك، ولم تشهد المنطقة خلالها حرباً. وما لبثت أحداث العنف أن بدأت بالتفجر. ففي أيار مايو 1990 أطلق مسلح اسرائيلي النار فجأة على عمال فلسطينيين جنوب تل أبيب، وقتل سبعة منهم وجرح تسعة آخرين. كنت وقتها في زيارة رسمية الى الولاياتالمتحدة لالقاء كلمة في مدرسة "ايست فرجينيا" للطب، التي دعمت برنامجنا الأردني للإخصاب الاصطناعي، وأيضاً لعقد لقاءات غير رسمية مع عدد من أعضاء مجلس الشيوخ. واجتاحت الأردن تظاهرات احتجاج على الجريمة التي بلغ من حدتها أنني هاتفت زوجي وسألته اذا كان من الأفضل ان أعود الى الوطن، لكنه أصر عليّ بالاستمرار في زيارتي. وتراجعت الاضطرابات بعد أيام قليلة، لكن لم يعرف أحد أي فتيل سيكون ذلك الذي سيفجّر المنطقة بأسرها. في طريقي الى عمان توقفت في الكويت في زيارة رسمية، من دون أن أدري ان الشرارة ستنطلق من ذلك البلد بعد شهرين. الزيارة نفسها كانت عادية. وسجلت في يومياتي أن "متحف الكويت الوطني رائع، خصوصاً مجموعة الصباح لتحف اسلامية لا تقدر بثمن"، هذا المتحف نفسه الذي نهبه العراقيون بعد ذلك وأضرمت فيه النيران. عدت الى الوطن لأجد ان زوجي أراد إستقبالي بمفاجأة أثناء غيابي. فقد اشترى بحماس طارئ بيتاً جديداً لسكنانا. كان في السيارة عندما مرّ بفيللا وأخبره أحدهم انها للبيع، وقرر شراءها فوراً كهدية في الذكرى الحادية عشرة لزواجنا. البيت كان قرب ثكنة الهاشمية للحرس، واعتقد أنه شعر بأنه يلبي احتياجاتنا اللوجستية. لكن ما لم يلبّه البيت الجديد كان احتياجاتنا الشخصية، اذ لم يكن فيه متسع لأطفالنا السبعة وللمكاتب وغرف الاجتماع التي كنا سوية بحاجة اليها. قلت له: "عندما نعمل مثل بقية الناس، أو اذا اتيح ذلك لنا في يوم من الإيام، يمكننا ان نسكن مثلهم". تأثرت بمبادرته الرقيقة وتوقه الى تبسيط نمط حياتنا، لكن التوقيت كان خاطئاً بالتأكيد. اذ لم نكن بحاجة الى مواجهة المتاعب الشخصية المترتبة على تغيير مكان السكن في الوقت الذي كان الشرق الأوسط يعج بالأزمات. وقمنا لاحقاً بتجديد المسكن ليقيم فيه ولده الأكبر الأمير عبدالله وزوجته الأميرة رانيا بعد زواجهما. مع بداية الصيف ذهب زوجي في زيارة روتينية الى بغداد للقاء صدام حسين، الذي كان وقتها يكسب شعبية متزايدة في صفوف الأردنيين بسبب دعمه المالي والسياسي للانتفاضة ومعارضته الصارمة لاسرائيل. كما كان هناك بعض الدعم في الأردن لشكوى صدام حسين من تزايد انتاج الكويت النفطي، الذي كان مخالفاً لاتفاقات "أوبك". وأدت الزيادة الى خفض الأسعار وبالتالي شل قدرة العراق على إنقاذ وضعه المالي من تكاليف الحرب مع ايران. كما كان هناك تعاطف مع اتهامه الكويت بأنها كانت تمد حفرياتها النفطية عرضياً وصولاً الى حقل الرميلة على الجانب العراقي من الحدود مع الكويت - الحدود التي كانت نفسها موضع خلاف. لكن لم يعتقد أحد بأن هذا الاحتكاك سيقود الى الحرب. وسط هذا التوتر المتصاعد في المنطقة جاء تيد تيرنر لزيارة الأردن. وكان كعادته مليئاً بالنشاط الذي لا يعرف التوقف والخيال الذي لا حدود له، والذي كان من نتائجه انشاء شبكة "سي ان ان". وأطلق خلال الزيارة سيلاً من الأفكار المتضاربة التي لم يكن أقلها غرابة تلك التي اختمرت في رحلتنا لصيد السمك في خليج العقبة. فقد نظر الى الساحل المصري المفتقر الى التنمية وقرر فجأة أن هذا يجب ان يكون الوطن الفلسطيني الجديد! وقال بحماس: "انظروا الى هذا العقار الساحلي. هل تعرفون قيمة العقارات الساحلية؟ اجلبوا اليه الفلسطينيين. هذا العقار الذي لا يقدر بثمن يعوضهم عن ترك فلسطين!". ما لم يضعه تيرنر في الحساب أن الفلسطينيين لا يريدون الرحيل، بل أرادوا حقهم في استعادة أراضيهم التي طردوا منها بالقوة. وقد أشارت اسرائيل مراراً الى اخراج الفلسطينيين واستيعابهم في البلاد العربية. لكن مع كل ما في فكرة تيرنر من السذاجة فقد كان من الممتع أن نقف على طريقته في التفكير. لم يحاول أبداً تبرير الأفكار التي كانت تفور من ذهنه، مذكّراً إيانا دوماً بأن واحدة منها أدت الى ولادة "سي ان ان". أما في هذه الحال فلم تؤد فكرته الى شيء، واستمر الصراع في الأراضي المحتلة في مجراه. في صيف 1990 استغل بعض المجموعات المتطرفة الاضطرابات في أنحاء المنطقة لكي تستهدف مهرجان جرش. ومارست ضغوطاً كبيرة على الحكومة لإلغاء المهرجان لأنها اعتقدت بان فعالياته الترفيهية منافية للاسلام. وقارنت صحيفة "وول ستريت جورنال" مهرجان جرش بمهرجان شيراز في ايران، الذي ألهب المشاعر الدينية المحافظة قبل عشر سنوات. لكن المقارنة لم تكن واردة، ولم نكن ننوي الاستسلام للمتطرفين مهما كانت ضغوطهم خطيرة ضمن الوضع السياسي الحرج. ودونت في يومياتي: "تم توجيه تهديدات، وعثر على متفجرات. لكن رئيس الوزراء صمد على موقفه". في تموز يوليو 1990 صعّد صدام حسين موقفه ضد الكويت وقال في خطاب علني: "علينا مواجهة الذين جاؤوا بخنجر مسموم وأغمدوه في ظهرنا". وزار الملك الحسين العراق في محاولة لخفض التوتر، وانتقل منه الى الكويت. وعندما التقى زوجي هناك مع ولي العهد الشيخ سعد، لم يحاول التقليل من مدى غضب صدام على الكويتيين، لكنه أخبر الشيخ سعد في الوقت نفسه انه لا يرى ان هناك خطراً عسكرياً عراقياً على الكويت. ذلك ان صدام حسين أكد لزوجي مراراً ان أي خلاف بين العراق وبلد عربي آخر سيحل بطريقة "أخوية"، واعطى التعهد نفسه الى الملك فهد والرئيس حسني مبارك. ولم يبدأ الشك في نيات الرئيس العراقي يتسرب إلى نفس الملك الحسين إلّا بعد أن أخبره الشيخ سعد عن الحشود العراقية على حدود الكويت. عاد زوجي من رحلته وهو يشعر بالقلق البالغ، وتحدث الى الرئيس بوش والسفير البريطاني ليحذر من أزمة كبرى متصاعدة بين العراق والكويت. وقال للطرفين بالحرف الواحد: "عليكم تشجيع الكويتيين على الجلوس مع العراقيين والسعوديين لحل قضية الحدود والزيادة في الانتاج وكل المشاكل التي تتطلب التفاوض". فقد كان يعلم ان القضايا المطروحة لم تكن مختلقة من جانب العراق بل هي مشاكل حقيقية تتطلب حلولاً سياسية. لكن الرئيس الأميركي والسفير البريطاني، لأسباب غامضة، لم يبديا اهتماماً كبيراً بالموضوع. بل ربما ذهبت الولاياتالمتحدة الى حد تطمين صدام حسين من خلال سفيرتها في بغداد ابريل غلاسبي أن واشنطن لن تتدخل اذا تحرك العراق ضد الكويت، وهي التهمة التي نفتها السفيرة لاحقاً. لكن اذا كان التطمين أعطي فعلاً فهو خطأ مدمر. وفي 31 تموز يوليو عبّر لي زوجي عن التفاؤل بأن الاجتماع "الحاسم" الذي سيعقد في اليوم التالي في جدة بين العراق والكويت سيكون "مثمراً". لكن ذلك لم يحصل. ولم يذهب الى النوم إلاّ في وقت متأخر تلك الليلة، وقال "أشعر للمرة الأولى بقلق شديد". ولم تمض سوى ساعات قليلة على خلودنا إلى الفراش حتى تلقى زوجي مكالمة هاتفية من الملك فهد أخبره فيها ان القوات العراقية أصبحت على بعد خمسة أميال فقط من وسط مدينة الكويت. تزامن الغزو العراقي مع عيد ميلاد الملكة زين الشرف والدة زوجي. وفيما ذهب زوجي بالطائرة الى مصر للتشاور مع الرئيس مبارك حول الأزمة، شاركت في لقاء عائلي في قصر زهران تكريماً للملكة زين. وبدا لي أننا كنّا الوحيدتين اللتين شعرتا بالقلق من التداعيات الكارثية المقبلة على الأردن والمنطقة عموماً. فقد أدركت الملكة زين بحكمتها مدى خطورة الوضع، لذلك جلسنا وتكلمنا طويلاً عن المخاطر التي قد نواجهها قريباً. ومع تفاقم أزمة الخليج وتزايد الضغوط على الأردن حثتني الملكة زين على المشاركة في الدفاع عن موقف الأردن، خصوصاً في الولاياتالمتحدة. وكانت تلك المرة الوحيدة التي شجعتني فيها على القيام بدور غير تقليدي. عندما عاد الحسين ذلك المساء من الاسكندرية الى عمان أخبرني انه حصل على تعهد من الرئيس مبارك بأن الجامعة العربية لن تدين أو تواجه الرئيس العراقي بأي شكل الى أن يقوم زوجي بزيارة بغداد لإقناع صدام حسين بالانسحاب من الكويت. وكان مبارك يعرف ان زوجي أكثر القادة العرب فهماً لجاره العراقي. وكان الوقت ملحّاً، فقد تزامن مع اجتماع الجامعة العربية في القاهرة، حيث مارست الكويت والسعودية - اضافة الى ادارة بوش ومارغريت ثاتشر - ضغوطاً قوية على وزراء الخارجية العرب لادانة العراق. لكن الملك الحسين كان يعرف ان صدام حسين لن يستمع الى صوت العقل اذا شعر بانه محاصر. ولذا كرر لجورج بوش ومبارك والملك فهد: "أمهلوني 48 ساعة". الرئيس مبارك لم يكتف بالموافقة، بل زاد قائلاً لوزير خارجيتنا: "خذ طائرتي الآن واذهب الى اجتماع الجامعة العربية في القاهرة لكي تكون مستعداً هناك". اجتماع الملك الحسين بصدام حسين صباح اليوم التالي، أي 3 آب أغسطس، كان ناجحاً. وأخبرني زوجي لاحقاً ان صدام حسين كان مسروراً بالهزة القوية التي أحدثتها خطوته لدى الدول الغربية، وقد بدأ بالفعل بالتخطيط لسحب قواته من الكويت. والبرهان على ذلك كان السحب الفوري لواحدة من الفرق العسكرية، في خطوة رمزية أكدتها وكالة الأنباء العراقية في بيان جاء فيه: "اذا لم تكن هناك تهديدات ضد العراق أو الكويت ستبدأ القوات العراقية بالانسحاب بدءاً من الغد. وقد تمت فعلاً الموافقة على خطة الانسحاب من الكويت". وعندما اتصل زوجي بمبارك لإبلاغه النبأ السار، فوجئ بأن وزير خارجية الأردن وجد لدى وصوله الى اجتماع الجامعة العربية أن نظيره المصري كان يقود الحملة لإصدار إدانة عربية للعراق. هناك تفسيرات متباينة قدمت لاحقاً لهذه الضربة التي إستبقت النجاح الذي حققه زوجي مع صدام حسين. لقد اصدر عدد من القادة العرب تعليمات الى وزراء خارجيتهم المجتمعين في القاهرة بإدانة العراق على رغم معرفتهم الكاملة بنجاح الاجتماع الذي عقده زوجي مع صدام حسين. وشهدت الأيام التالية تحرك الصحافة المصرية ضد زوجي وتصويره على أنه "شيطان"، وهو ما لم أفهمه مطلقاً. فقد كان المصريون أنفسهم التزموا لزوجي بعدم إدانة العراق قبل استنفاد مساعيه للتوسط، لكن ذلك لم يحدث. وعلى رغم أن الحسين عايش مراراً في الماضي هذا النوع من الاحباط، فقد آلمته الخطوة هذه بعمق. في النهاية اتخذت غالبية الدول العربية موقفاً متشدداً تجاه العراق في اجتماع الجامعة العربية، فيما حاول الأردن واليمن ومنظمة التحرير الفلسطينية عدم اغلاق باب التفاوض مع صدام حسين. وذهل زوجي، الذي كان واضحاً في معارضته للاحتلال العراقي للكويت، ودعا الى انسحاب القوات العراقية، عندما اعتبرت الولاياتالمتحدةوبريطانيا أن مساعيه للتوصل الى حل سلمي كانت تعني الموافقة على احتلال صدام حسين للكويت. وقد استمر هذا التشويه لموقفه سنين طويلة واستعمل ضده بشراسة. غداً حلقة ثالثة.