محطات على ضفاف السين في باريس للتأمل في ثقافة وعيش بشر متعددي المنشأ، في مسار كوسموبوليتي يطرح يومياً لقاء الهويات وتعارضها. صباح الجمعة في 25 نيسان ابريل المنصرم، قصدت كشك الصحف القائم في وسط ساحة "كليشي"، في دائرة باريس الثامنة، على بعد امتار من الفندق الباريسي الهادئ الذي قضيت وعائلتي فيه عطلة الفصح. بائع الصحف ذو الملامح العربية الذي اعتاد رؤيتي في الحي، فهم مرادي لدى سؤالي عن صحيفة عربية، فأرشدني الى موضع جريدة "الحياة" فسحبت النسخة الأخيرة منها على عجل، ودسستها تحت معطفي، اتقاء لمطر ربيعي غادر. اللكنة العربية الركيكة - ذات الأصول اللبنانية - التي استعملها بائع الصحف في مخاطبتي، لفتتني. وبحكم فضولي الألسني، بادرته بالسؤال: هل انت لبناني؟ فكان جوابه العفوي، تقريباً! الجواب اثار رد فعلي، فاستوضحته مجدداً عن السبب. فأجاب بأنه مهاجر يعيش في فرنسا منذ 28 سنة. وهي مدة كافية، برأيه، كي تتراجع طريقة نطقه الأصلية. وهذا التفصيل اللغوي الاجتماعي جاء ليتوج جملة خواطر لفتتني في المشهد الباريسي الذي تسنى لي معايشته خلال اسبوع من الزمن قضيته، على غير عادتي، محتفظاً بكامل هدوئي، وبعيداً من اية ارتباطات مسبقة، منصرفاً الى انتهاج السياحة الثقافية الفنية التي ساقتنا إليها راضيين مرضيين - زوجتي هدى وأنا - ابنتنا الكبرى سارة. وسأشرك القارئ في خواطر انسانية ثلاث، منشؤها ثقافي، وأبعادها تتصل بشكل او بآخر بتجاذبات الانتماء وتداعيات التمسك بالهوية الثقافية في المجتمعات الشديدة التنوع والثراء والتطور. الحديث عن تعاقب الهويات الثقافية او التشديد عليها، على ضفاف السين، مذاقه مختلف. فهذه الهويات تتخذ وجوهاً وأشكالاً متعددة. وتمظهراتها المعيوشة التي نلحظها في مختلف مناحي سلوكنا اليومي تعبر بشكل او بآخر عن معالم موروثنا الثقافي وسعينا الحثيث لاحتضانه والحفاظ عليه حياً في النفوس، وجلياً في منظومة ممارساتنا وأعرافنا. ابدأ بالمطبخ الفرنسي الذي يتباهى به الناطقون بلغة راسين، ويشكل معلماً اساسياً في مندرجات الثقافة الفرنسية. وقد شكل محطتنا الأولى في المشهد الباريسي الربيعي. المنطلقات الآنفة الذكر لم تغب عن خاطر الصديقة الباريسية التي احتفت بنا في اجواء حافلة بتداعيات ثقافة الأكل الأثيرة عند الفرنسيين. زميلتنا السوربونية، والسيلفية - نسبة الى SILF اي "الجمعية الدولية للألسنية الوظيفية"، لا الى السلف - السيدة كوليت فيّار Colette Feuillard وزوجها غاستون Gaston ذو الأصول الأنتيلية - اختارا لاستضافتنا مطعماً عريقاً يعود الى القرن السابع عشر. إذ تأسس مطعم "لو بروكوب" Le Procope في العام 1686، وهو يعتبر بحق المقهى الأقدم في العالم، ويحمل اسماً رديفاً هو "ملتقى الفنون والآداب". هذا المقهى الأدبي الذي يحفل ببصمات الماضي الأدبي التليد يقع في دائرة باريس السادسة، وتحديداً في شارع Lصancienne Comژdi، الذي كان يجاور في الماضي مبنى "الكوميدي فرانسيز". لم يكن المكان بمنأى عن سيرة عاصمة الفنون وحيويتها. بل كان في الحقيقة "مسرحاً" لأحد تجلياتها الإبداعية. اشتهر المطعم بأصنافه ومشروباته، فأمسى بحق ملتقى "العقول الكبيرة". وهكذا ولد "المقهى الأدبي الأول" في العالم. وعلى مدى اكثر من قرنين، ارتاده اصحاب الأسماء المرموقة والطامعون الى حمل اسماء مماثلة، في عوالم الآداب والفنون والسياسة. وقد ضمت لائحة الزبائن الاعتياديين لهذا المقهى لوامع العصر امثال لافونتين وأناتول فرانس، مروراً بفولتير وروسو وبومارشي، وبلزاك وهيغو وفرلين وكثيرين غيرهم... وخلال القرن الثامن عشر، شكل هذا المقهى الأدبي الفريد منطلقاً لأفكار الليبرالية، وتلازم مساره مع مسار محطات ثقافية رائدة. فتاريخ "الأنسيكلوبيدي" يرتبط مثلاً بشكل وثيق، بتاريخ "البروكوب" الذي كان يتردد إليه كل من ديدرو ودالمبار وبنجامان فرانكلين. وخلال الثورة الفرنسية، شهد المقهى زبائن ارتبطت اسماؤهم بمسار ثورة 1789، امثال روبسبيار ودانتون ومارا. كما ان الليوتنانت نابليون بونابرت نفسه ترك يوماً قبعته في المقهى بمثابة رهن. ولكنها لم تكن ضمن المعروضات المتاحة للزبائن. واليوم يرفل "البروكوب" بحلة جديدة تتناغم مع عراقة المحطات السياسية وتقاليد الضيافة التي عرفها عبر تاريخه. وكرمز للماضي العريق الذي يشهد بخلود هذا المكان، يُعرض مكتب فولتير الخشب الخاص في الطابق الأول، حيث يتسنى للرواد ان يمتعوا انظارهم بمرأى هذا الأثاث التاريخي العائد الى واحد من عظماء الإنسانية، بعد ان يكونوا ملأوا بطونهم بأطايب المطبخ الفرنسي، وتلذذوا بشرب النبيذ الفرنسي المعتق. شؤون الثقافة والسياسة والألسنية وشجونها لم تغب عن عشائنا ذي النكهة التاريخية. فحديث الألسنية الذي باشرناه في افياء الغوادلوب - مع مضيفينا - خلال الخريف المنصرم، تواصل في ليل باريس الربيعي. ولكن مواضيع الساعة طغت. غزو العراق ونهب آثاره ومخطوطاته كانت بالطبع في طليعة المواضيع التي اقلقت مضيفينا. والمعلومة اللغوية الجديدة التي حملها إلينا غاستون هي ان الشارع المجاور للمطعم، والمعروف ب"سانت اندريه دي زار" St. Andrژ des arts تعدل اسمه مع الزمن، بفعل تغير هوية شاغليه. فهو في الأصل كان شارعاً يضم صانعي الأقواس arche. ومع اندثار هذه المهمة، حرّفت arches الى arts. وصناعة ادوات الصيد والقتل اخلت ساحتها امام مجالات الإبداع والفنون. وهكذا طويت صفحة "الأقواس" لتحل محلها صفحة "الفنون". للمطاعم والمقاهي والشوارع في مدن العالم قصص تنبض بتواريخ المجتمعات، وترتبط مسمياتها وتفاصيلها وأحداثها بمسارات الحراك الاجتماعي والتطور الاقتصادي التي عاشها مختلف الشعوب والأمم. وتؤثر الشعوب عادة ان تخلد هذه الأماكن العامة ضمن موروثها الثقافي الذي يذكّر كلاً من المقيم والسائح بأن للمكان المرتاد عبقه التاريخي وجذوره الراسخة وحضوره الإنساني. وهي بمجملها روافد تنعش ذاكرة المقيم، وتؤكد انتماءه، وتستثير في آن معاً فضول السائح وإعجابه، ولا تني تروي قصة تطور الثقافة الإنسانية في ارقى مظاهرها المعيوشة. نخرج من مقهى "بروكوب" الى جادة "سان جرمان" المجاورة، متدثرين بنسيج تاريخي ثقافي فرنسي راق، يراودنا الأمل في ان يلتفت ابناء جلدتنا - اكثر فأكثر - الى رموزهم الثقافية التاريخية من معالم تراثية او دور عبادة او مقاه ومطاعم شعبية. للهويات الثقافية جوانب اخرى معيوشة، تتداخل مع حميميات المرء وتعنون مظاهر وعيه لوجوده ورؤيته للآخر. وهي تشكل ثابتاً من ثوابت انتمائه القومي وحضوره الانساني. وزيارة باريس تكون عادة مناسبة لتذكر الاصدقاء الذين غادروا الديار الى ضفاف السين، ويعيشون مسألة تداول الهويات. فصديقنا اللبناني عامر الذي يعيش منذ ما ينيف عن عشرين عاماً في باريس التي قصدها طالباً، ووفرت له فرص العمل في مختلف المجالات، تزوج من فرنسية، ويقطن حالياً ضاحية باريسية شبه راقية. هو نموذج واقعي وعصري للبناني الذي حصل على الجنسية الفرنسية. ناجح في حياته المهنية، مرتاح لوضعه العائلي، ومنصرف الى تأمين مستقبل آمن لعائلته. توافق صديقي البيروتي مع زوجته الفرنسية - ذات الاصول المغاربية - جميلة على انتقاء اسمين عربيين، يسهل نطقهما بالفرنسية، لطفليهما سامي وفادي. لاحظت انهما لا يخاطبان البتة ابنيهما بالعربية. الأم اعتذرت، وأسفت لهذا الامر، وأعادته الى الوالد، وذكرتنا بأنها لا تحسن العربية. فهي تنتمي الى الجيل الثالث من المهاجرين. جدها نزل فرنسا مطالع القرن، ووالداها من مواليد فرنسا. وجميعهم لا يتكلمون العربية إلا في ما ندر، وبخاصة لدى تمنع الأبناء أو إعراضهم. أما بالنسبة الى الولدين، فهما يدركان انهما فرنسيان من اصل لبناني، وانهما يدينان بالاسلام - إسوة بوالديهما - بمعناه الثقافي او الحضاري لا الشعائري اليومي. وهذه المسألة لا تطرح اشكاليات يومية في تفاصيل الحياة الفرنسية على وجه العموم. اتصال الأب بمظاهر الحياة اللبنانية اليومية لم ينقطع. فهو يتمثل بمشتريات محدودة من بقال لبناني قريب. فالخبز العربي حاجة يومية، وكذلك الخيار والكوسى - ذات المقاسات اللبنانية - الى جانب اللبنة والجبنة الحلوم. وهي تشكل بمجملها وجهاً من وجوه الارتباط بالبلد الأم، وجانباً من جوانب ثقافة المطبخ اللبناني التي تغلب على اطباع اللبنانيين، والتي تتجاوز في نهاية المطاف المسألة اللغوية إلا في ما اتصل بمسمياتها! إصرار الأب على تنشئة ولديه، في اجواء صحية ومنفتحة، باعتبارهما مواطنين فرنسيين يؤمنان بقيم الجمهورية، يسهّل من ثم مسألة اندماجهما في المجتمع الأكبر مع اقرانهما الفرنسيين، ويدرجهما في شكل سوي في مستقبل واعد ومتساوي الفرص. إنه احد المساعي التي ينهجها بعض العرب لتجنيب الأجيال الجديدة تداعيات أو إشكالات الهوية المزدوجة التي طالما عانوا منها، وتحملوا مفاعيلها. اتقان العربية، كلغة أم، قراءة وكتابة، قد لا يبدو في نظر هؤلاء حاجة عصرية ماسة. فعوالم "البزنس" والمعلوماتية والشركات المتعددة الجنسيات التي تستقطب الخريجين الجدد، تنفتح آفاقها امام حاملي الشهادات ومتقني اللغات الاوروبية الحية - والانكليزية في مقدمها - ولا تحتاج بالضرورة الى العربية كأداة اتصال حيوية وعصرية تصلح لخوض معارج المستقبل. هذا المشهد العائلي الذي توقفت عنده يشكل نموذجاً معيوشاً لصراع الهويات الثقافية الذي باتت حسابات المصالح العملية وتأمين سبل العمل والارتقابات المستقبلية هي التي تحكمه وتحدد مساراته. انتحاء العربية جانباً وخفوت قدراتها الاتصالية والتعبيرية ضمن الأطر العائلية العربية المهاجرة - تحت شتى الذرائع والظروف - مسألة جوهرية لا تتصل بالشأن اللغوي البحت بقدر ما تطرح تساؤلات ثقافية جوهرية. تناول الافطار في الفنادق الباريسية فسحة صباحية لالتقاط الأنفاس وتبادل الأحاديث، ومتعة يومية يستقطع فيها الوقت، لتذوق اصناف "الكرواسان" والمربيات الشهية ورشف القهوة الفرنسية. وتقوم على خدمة الزبائن عادة سيدات من ذوات البشرة السوداء وصاحبات الصيحات الرنانة والاحاديث الصاخبة، او من بنات جلدتنا العربيات المنطويات والمبتسمات. وقلما يخلو قسم الاستقبال في فندق باريسي من شبان ذوي اصول مغاربية او شرق اوسطية. ترحابهم بك حينما يعرفون جنسيتك اللبنانية لا توازيه إلا بشاشة وجوههم وتهذيبهم الملحوظ الذي يحكم طرائق تعاطيهم مع سائر الزبائن. مصطفى، الشاب ذو الطبيعة المحافظة والمتدينة، الذي يحمل اجازة في التغذية، من الجزائر، قصد باريس للدراسة العليا ولالتقاط فرصة عمل ملائمة. وانتهى به المطاف مداوماً في الفترة الليلية في فندقنا ذي الثلاث نجوم. دماثة خلقه وتفانيه في اداء مهماته يعبر عنهما بفرنسيته التي لا تزال مطعمة بلكنة جزائرية واضحة. وبدورها، فإن خادمة الغرف هدى او "أُدى"، كما تلفظت اسمها بلكنة جزائرية - فرنسية، هي سيدة جزائرية خمسينية حطت الرحال - إسوة ببنات جيلها - في باريس منذ 1980. عرض الزواج "الأبيض" الذي تلقته من الفرنسي ذي الاصول الالمانية وقع لديها برداً وسلاماً. لكن معتقداتها الدينية دفعتها للاصرار على زواج ديني. واشترطت على رفيق دربها اشهار اسلامه. وأثمر الزواج ابناء اربعة. كبيرهم احتفظ باسم عربي "سفيان"، والبنات اتخذن اسماء اجنبية الايقاع والدلالة: "صربينا وصوفي وساندرا". والأخير اختير بسبب وله الأم، في الايام الخوالي، بمغنية فرنسية مشهورة تحمل الاسم نفسه. ولكنها لم تدرك يومها ان هذا الاسم سيسهم في تشكيل شخصية الابنة وسيؤدي مفاعيله مستقبلاً! التزاوج بين شخصين ينتميان الى ثقافتين مختلفتين لم يحل دون قيام قنوات اتصال بين افراد الاسرة. فحاجات الاتصال اليومية تذلل عادة مختلف العقبات اللغوية. الزوج الذي يتقن الالمانية، يستخدم الفرنسية لمخاطبة اسرته. وهو لا يعرف من العربية سوى بعض عبارات التحية السلام عليك... والشكر والمجاملة التي يداعب بواسطتها زوجته، ويتفاهم بها مع اهلها. والأم التي تتوجه الى ابنائها باللهجة الجزائرية، يبادرها هؤلاء بفرنسية باريسية. لم يقطعوا سبل التواصل مع العربية، ولكنها ليست القناة اللغوية الاساسية في تواصلهم اليومي او الانساني، وحالهم في الحقيقة تنسحب على غالبية ابناء الجاليات العربية. التكلم بالعربية هو ما لفت انتباه هدى الينا. فقد اطمأنت الى جانبنا حينما تبينت جنسيتنا اللبنانية. فتمنت علينا مكالمتها بالعربية، لأنها ترغب في التعبير عن نفسها بلغة قومها. وتشجعت لاحقاً في مد الاحاديث. ولكنها تعجبت حينما لاحظت ان ابنتنا سارة التي تشاركنا الافطار تقيم في غرفة منفصلة، وفي طابق آخر. ردنا العفوي هو اننا اصطحبنا سارة التي تجاوزت الستة عشر ربيعاً معنا لقضاء عطلة الفصح، ولإفساح المجال امامها كي تعيش حالاً جديدة بالنسبة الى نمط حياتها الاعتيادي في بيروت. فهي الآن في مدينة كبيرة، وعليها ان تتحمل مسؤوليتها الشخصية وتتنقل وتستخدم المترو وتقوم بمشترياتها، وتعتمد على نفسها بعيداً من اي تدخل او توجيه. الجواب المطمئن فجر غضباً مكبوتاً لدى سيدة الفندق. فانطلقت تتكلم بحنق عن ابنتها ساندرا ذات الاربعة عشر ربيعاً التي تذيقها الويلات. فهي تعيش مراهقة صعبة، وتتبع سلوكاً متحرراً، إسوة بأقرانها الفرنسيين. ولا تصغي الى كلام شقيقها أو نصائح أمها التي تذكرها بأن الفتيات الجزائريات - الأم نموذج لهن في نظرها بالطبع - لم يكنّ يتصرّفن على هذا المنوال، ولم يسمح لهن بهذا القدر من التحرر. الإبنة كانت في السابق تطلب الإذن من الأهل وتنتظر الجواب بالطبع، ولا تكتفي بإبلاغهم كما هي الحال اليوم. هدّأنا من روعها، ونصحناها بمحاولة تفهم عقلية الجيل الجديد ومجاراته والقبول به والاعتراف بخصوصياته وباختلافه الثقافي والاجتماعي عن جيلها. فالحوار والاقناع والتنازلات المتبادلة هي السبل الوحيدة للوصول الى تفاهم ضمني واعتماد قناة مرنة مع الأبناء. عبارة "الله يعطيك العافية" التي تخرج تلقائياً منا - نحن اللبنانيين والمشارقة عموماً - لم تصطدم بها مضيفتنا الجزائرية، التي تقع مفردة "العافية" في قاموسها اليومي موقعاً سلبياً. اذ ان مدلولها يعني "النار" بدلاً من "الصحة والنشاط". ابتسمت هدى لأنها على دراية بهذا الالتباس المفهومي المغاربي - المشرقي. وهي اعتادت على سماع التعبير من افواه المصريين. لذا، فهي تجيب تلقائياً: "الله يعافيك". فضولي اللغوي ورحابة صدرها لم يتنابذا. فقد شرحت لنا، ونحن بصدد تناول طعام الافطار، ان مفردة "الجبنة" في قاموسهم اليومي هي fromage. اما المصطلح العربي الذي نستخدمه نحن المشارقة، فهو ينتمي الى عالم الفصاحة. وجلّ علاقتهم به أنهم درسوه وقرأوه في المدرسة. "الملعقة" تسمى "المغرف"، وكذلك الامر بالنسبة الى السكين التي يقولون عنها "الموس"، لدى استخدامهم اياها في المنزل. والغرفة أو La Piece هي "البيت". اما "الدار" فهو "البيت بأكمله"، و"البندورة" اللبنانية أو "الطماطم" المصرية تتعرّب في لغتهم فتصبح "طوماتيش". اما "الطاولة" ذات القوائم، فثمة تعريب حرفي طريف لها هو "طابلة" tabla، في حين ان المايدة أو mida هي الطاولة الواطئة التي تجلس العائلة أرضاً لتناول الطعام حولها. هموم التربية وثقافة الأكل ومفرداته التي تتمايز بين بيئة لغوية عربية وأخرى، كانت مدار حديث باريسي صباحي "جمع النافع واللذيذ" كما يقول المثل الفرنسي الشائع. هوية مواطني اللبناني "التقريبية" صدمتني، ودفعتني لكتابة هذه المقالة التي ضمنتها بعض المشاهدات ذات المنحى الثقافي. وزبدة القول ان ثمة مشاعر متناقضة تتملك بعضنا في غربته. فمن جهة، لا يمكن واحدنا الا ان يقدر ما يتلمسه من وجوه احترام ابناء الأمم الاخرى لمعالم موروثهم الثقافي، واعتزازهم بالانتماء الى هوية مجتمعية تعددية وتوحيدية، تؤكد مواطنيتهم وتحفظ خصوصياتهم في آن معاً. ومن جهة أخرى، ثمة "لعبة" هويات متأرجحة تخضع لمؤثرات المكان والزمان، ولا تخرج في الحقيقة عن نطاق تجاذبات المصالح الصغيرة وأحلام الانضواء في فضاءات العوالم الكبرى والاندراج في اقتصاداتها وثقافاتها. وهذه الاخيرة التي تساور بعض مواطنينا المهاجرين هي نتائج نوازع القلق واللاإستقرار والبحث عن الخلاص الفردي والتطلع نحو انتماء "كوني". ومن شأنها ان تجعل ثوابتهم الثقافية ووعيهم بذاتهم وبالآخر مجال تساؤلات دائمة، عفوية حيناً ومصيرية أحياناً كثيرة. وأختتم بالاشارة الى خبرين لافتين نشرا اخيراً، ويندرجان في سياق افكار هذه المقالة. الأول هو: "فرنسا تريد من جاليتها المسلمة قبول فصل الدين عن الدولة وتحدث الفرنسية" الشرق الأوسط 8/5/2003، وهو يؤشر بجلاء الى الصراع الدائر في الساحة الفرنسية في شأن ماهية الهوية وتمظهراتها ومستلزماتها. ومن الآثار المترتبة على ذلك ان دخول ثقافة العصر واستخدام تقنياته والتنعم بمنظومة خدماته الاجتماعية ورخاءه الاقتصادي تحتم على المهاجرين العرب ان يكونوا، "فرنسيين أولاً ثم مسلمين ثانياً"! اما الثاني فهو: بريجيت باردو تنتقد "الصبغة الإسلامية لفرنسا" السفير اللبنانية 12/5/2003. وهو تصريح ينتظر ان يثير جدلاً في أوساط الجالية العربية الإسلامية في فرنسا، كما هي حال التصريحات التي تطلقها نجمة الإثارة الفرنسية، سابقاً، من آن لآخر. وهو يعبر عن بعض ردود الفعل العنصرية تجاه تنامي الحضور العربي والاسلامي في المجتمع الفرنسي. واستتباعاً لهذا الخبر، نشرت صحيفة "النهار" اللبنانية 14/5/2003 خبراً بعنوان "باردو الثائرة على المجتمع تصب جام غضبها على المهاجرين". وقد خصت بفظاظة "المحتلين" المسلمين، وكتبت "ان الفن أضحى تفاهة" ساخرة من وصول كاتب جزائري مثل كاتب ياسين الى مسرح "الكوميدي فرانسيز" ترافقه ألحان اسلامية ولهجة محلية". وثارت المدافعة عن الحيوانات على نحر الخراف في عيد الأضحى". بين حدّي المواطنية بمفهومها الجغرافي السياسي والانتماء الى معتقد ديني، ثمة معالم هوّة تغريبية ثقافية، لم تردم بعد، وتتجلى مفاصلها وتداعياتها في الخطابات التبريرية والتوفيقية وحتى التحريضية التي لا تزال تدور حالياً في أفق الهوية العربية. وهذا ما يدفعنا اخيراً الى التساؤل: ترى، هل المواقع الجغرافية والانتماءات الكونية المنحى والبيئات الثقافية المنفتحة والشديدة الخصوبة والتنوع هي الأقدر من سواها على منح الافراد طمأنينة مأمولة وإقراراً بالكفاية العلمية والمهنية وشعوراً بالاستقرار المجتمعي المنشود؟ * كاتب لبناني.