1 في اللحظات الأخيرة تم تغيير عنوان هذه المقالة، فبعد أن كان العنوان هو «تعريب باريس» أو «عرببة» باريس، تحول العنوان إلى «بربسة»! قد يبدو للقارئ للوهلة الأولى حدوث تحول عكسي في مغزى العنوان من حيث أن «العرببة» تلمح إلى اصطباغ باريس بالملامح العربية، بينما «البربسة» تؤكد تمسك باريس بباريسيتها النقية، أما الذين يفهمون المعنى العامي لكلمة «بربسة» الخليجية فسيدركون أنها رديف للعرببة... وبالتالي فلا تحوّل في مضمون العنوان المبتغى!. 2 تقاطر على باريس، خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عدد من الرحالة والأدباء العرب، الذين أرّخوا لزياراتهم تلك في كتب ما زالت متداولة للمهتمين، وإن كان قد طغى عليها شهرة وانتشاراً كتاب الطهطاوي «تحفة الابريز في تلخيص باريز». تناقل أولئك الزوار / الكتّاب النكهة الخاصة بمدينة باريس، التي منذ ذلك الحين كانت رمزاً للثقافة والفنون والغرور الارستوقراطي. كتب أولئك عن باريس وكأنهم يكتبون عن إحدى حارات القمر التي طالما حلم العشاق باستئجار غرفة فيها مطلة على الفضاء. عندما يتعذر على العاشق، آنذاك، السكن في القمر، فإنه يخفف من طموحه شيئاً قليلاً ويبدأ بحلم السكن في باريس. 3 لكن باريس الآن ليست باريس الطهطاوي ورفاقه. باريس الآن لم تعد أكثر شبهاً بإحدى حارات القمر من شبهها بإحدى حارات العرب. الحلم العربي بسكنى باريس يوشك أن يكتمل! «مقاهي» باريس توشك أن تتحول الآن إلى «قهاوي» عربية تفوح منها رائحة المعسل الفاخر والبخشيش الفاخر والمقاعد المحجوزة بدون قاعدين، والأحاديث المفخخة بالامتيازات الخرافية... وبقية لوازم القعدة في الشانزليزيه! باريس التي كانت مدينة الأناقة والموضة، تناقش الآن في برلمانها ظاهرة انتشار النقاب والبرقع في شوارعها، والموقف القانوني من منعه في أماكن العمل والأماكن العامة والطرقات، هذا إذا استطاع البرلمان الفرنسي إنجاز لوائح القانون قبل أن تتبرقع مليون امرأة مسلمة في فرنسا من أصل خمسة ملايين مسلم فيها كأكثر تعداد إسلامي في دولة أوروبية. عندها قد تفوز امرأة مبرقعة بعضوية البرلمان الفرنسي! وإذا كان حقاً ما يقال بأن مطعم «مثلوثة» سيفتح قريباً في الشانزلزيه، فإن رئيسة البرلمان الفرنسي ستكون قريباً أيضاً «مبرقعة»! باريس المهووسة بكرة القدم، لم يحتفل أهلها في الشوارع والأحياء بانتصارات المنتخب الفرنسي في تصفيات كأس العالم مثلما احتفل الجزائريون فيها بتأهل المنتخب الجزائري. طوال السنوات الثلاث الماضية من إقامتي في باريس، لم أسهر أو أمتنع عن النوم بفعل الجماهير الفرنسية، لكن الجمهور الجزائري فعلها مرتين، حتى الآن، وقلب باريس عاليها سافلها حتى ساعات الفجر في ليلة يوم عمل وليس إجازة. الأولى عندما تأهل إلى كأس العالم عبر الحرب «العربية» الأولى مع مصر، والثانية قبل البارحة حين تأهل إلى نصف نهائي كأس أفريقيا، وسيقابل مصر غداً في الحرب «العربية» الثانية. وهو ما يفرض عليّ أن أبحث من الآن عن وسيلة للغياب أو الغيبوبة حتى لا أستعيد الكابوس المخيف للكلام السكاكيني الذي سمعناه في البرنامج المصري الشهير «البيت بيتك». (ملفت أن يكون اسمه البيت بيتك ويتبنى طرد بعض العرب من البيت المصري الكبير!). ولا أريد أن استعيد أفراح «الفتح» الجزائري بالتأهل، وما وصفه أحد الاعلاميين الجزائريين بأنها فرحة أكبر من فرحة استقلال الجزائر عن فرنسا! (ملفت أيضاَ أن الجزائريين يتحدثون بالعربية عن مآسيهم وقضاياهم ومشكلاتهم، لكنهم عند أفراحهم واحتفالاتهم يتحدثون بالفرنسية... ولا عزاء للعربية!). 4 هكذا «تبربست» باريس، وأوشكت أن تفقد نكهتها التي كان العرب، نخبة العرب، يذهبون إليها ليذوقوا فيها طَعماً أو طُعماً باريسياً خالصاً... كالذي وجده رفاعة الطهطاوي وزملاؤه. وقد يصدق عندها ما أقلق إحدى المؤرخات الأوروبيات من أن أوروبا باتت تتخلى أكثر فأكثر عن مبادئ وتقاليد عصر التنوير، وأنه مع هذا التزايد الديموغرافي للمهاجرين والمسلمين الأوروبيين فان أوروبا باتت تنكفئ عن وسماتها المتقدمة لكي تتحول من أوروبا إلى (أورابيا EUROABIA)! يبدو أني وصلت باريس متأخراً، بل أخشى أن أكون أحد عناصر «بربسة» باريس... من حيث لا أدري! كاتب سعودي [email protected] («البربسة» مصطلح خليجي عامي، يعني تشويه الأشياء المرتبة أو بعثرة ما هو منظم أو جمع غير المتجانس في إناء واحد!).