على رغم أنه يصعب تصور أن تكون سورية هي الهدف التالي للقوة الأميركية الجارفة الموجودة في العراق، على الأقل في ظل الظروف الراهنة، فإن ذلك لا يعني أن دمشق ستكون في مأمن من الاستهداف الأميركي في شكل أو آخر. ولعل التلميحات الأميركية باحتمال فرض عقوبات على سورية يشير من جهة إلى أن الأمر تخطى مسألة الحرب النفسية التي كانت تديرها الولاياتالمتحدة في الأيام الأولى للحرب على العراق، ويشير من جهة ثانية إلى إصرار واشنطن على استهداف سورية في شكل ما. وهنا يصعب جداً القياس على حال العراق الذي وضع لفترة لا بأس بها تحت مقصلة العقوبات الاقتصادية. والمعضلة الحقيقة لدمشق حالياً هي المتغيرات الجديدة التي تمخضت عن الحرب الأميركية على العراق، فالموقف الراهن في الشرق الأوسط يبدو سيئاً للغاية من وجهة نظر المصالح السورية، لا سيما في ظل الاعتبارات الآتية: - إن الولاياتالمتحدة أصبحت أقرب ما تكون إلى سورية. فوجود القوات الأميركية في العراق يعني في شكل أو آخر أن الولاياتالمتحدة أصبحت "الجار" الشرقي لسورية، سواء من خلال وجودها المباشر أو من خلال الحكومة العراقية التي ستكون على الأرجح موالية لواشنطن، وهو الأمر الذي يضع تحدياً جدياً أمام سورية يتمثل في كيفية التعامل مع الجار الجديد الذي طالما اختلفت معه ودانت مواقفه. - إن حزب البعث الحاكم في سورية، الذي أسس منذ عام 1947، فقد جناحه الآخر عبر الانهيار المخزي لحكومة الحزب في العراق. ومن المؤكد أن ذلك سيرتب تداعيات سلبية عدة على موقع الحزب في الخريطة السياسية في سورية، اذ من المرجح أن يتعرض الحزب الى ضغوط كثيرة لتعديل الكثير من سياساته سواء في ما يتعلق بالداخل أو الخارج. - إن العلاقات بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل أصبحت منذ أحداث أيلول سبتمبر، وستظل على الأرجح، أقوى من أي فترة ماضية، وأن الأوضاع الأخيرة في العراق ستعمّق هذه العلاقات، الأمر الذي سينعكس سلباً على وضع سورية في إدارة صراعها مع إسرائيل، عموماً كما أن ذلك يفرض على سورية ضرورة البحث في تطوير صيغة جديدة للتعامل مع "إسرائيل ما بعد الحرب الأميركية على العراق". - إن الولاياتالمتحدة أصبحت، كما عبّر الناطق باسم البيت الأبيض آري فلايشر، أكثر حساسية وقلقاً في مجال أسلحة الدمار الشامل والنشاطات الإرهابية بصرف النظر عن الاختلافات في تعريف تلك الأنشطة، ومن ثم فإن التأكيد السوري أن الأسلحة البيولوجية والكيماوية والنووية الوحيدة في المنطقة هي التي تملكها إسرائيل لا يفيد كثيراً في ضوء العلاقات الأميركية - الإسرائيلية. كما أنه من جهة ثانية ربما يشير إلى أن سورية تمتلك تلك الأسلحة وتطالب بأن تعامل مثل إسرائيل. وربما يكون مفيداً بدلاً من محاولة النفي بتلك الطريقة التركيز على أن من حق سورية، شأن أية دولة، أن تمتلك تلك الأسلحة لحفظ أمنها وأنها لن تستخدمها إلا في هذا الإطار، ولا يوجد ما يشير إلى عكس ذلك في الحال السورية، وذلك خلافاً لما كان عليه الوضع في الحال العراقية التي سبق لها أن استخدمت تلك الأسلحة، وهو الأمر الذي أخذته واشنطن ذريعة لنزع أسلحة الدمار الشامل العراقية. وبتعبير آخر، فإن التحدي هو كيف تقنع سورية الإدارة الأميركية بأنه لا قلق من امتلاكها تلك الأسلحة. - إن إسرائيل لن تفوّت تلك الفرصة لتحقيق أكبر المكاسب، ومن ثم فإنها تحاول تشكيل "فيلق" آخر للضغط على سورية وبالتالي قدمت لائحة مطالب لدمشق عبر الولاياتالمتحدة تدور أساساً حول ضرورة إزالة التهديد الذي يشكله حزب الله وضرورة إبعاده من جنوبلبنان ومنع وصول الإمدادات العسكرية إليه من إيران عبر الموانئ السورية، وضرورة طرد قادة "التنظيمات الإرهابية" من الأراضي السورية. وما لا شك فيه ان إسرائيل تهدف من وراء إثارة هذه المطالب إما تحقيقها أو على الأقل تثبيت الاتهام على سورية بتبني الأنشطة الإرهابية. ويمكن القول إن ما تقوم به إسرائيل إنما يأتي استناداً إلى ما جرت عليه العادة في مثل هذه الأزمات الكبرى في الشرق الأوسط من حصول الدولة العبرية على مكافأة من الولاياتالمتحدة نظير مساندتها الموقف الأميركي وعدم تدخلها المباشر في الحرب. ويبدو أن المكافأة هذه المرة تتمثل في الضغط على سورية في محاولة لعزلها لتمهيد الطريق لتسوية على صعيد الملف الفلسطيني. وفي هذا السياق يبدو من المهم لسورية في ظل الإصرار الأميركي على الضغط عليها سواء من أجل إسرائيل أو من أجل حرمانها من التدخل في ترتيب شؤون العراق ما بعد الحرب، إذ إنه لا يمكن إغفال مدى أهمية أو خطورة التأثير السوري في قطاعات واسعة من الشعب العراقي بحكم الروابط التاريخية والبعثية. وفي هذا السياق يبدو منطقياً أن تقوم سورية بما يأتي: - فتح ملف العلاقات السورية - الفلسطينية، إذ ان الظروف الراهنة تفرض على سورية ضرورة محاولة استعادة التنسيق بين المسارين السوري والفلسطيني في التسوية السلمية، لا سيما أن ما يحدث من جانب الولاياتالمتحدة وإسرائيل يشير إلى محاولة تحييد سورية للتفرغ لحسم الملف الفلسطيني. - السعي في شكل أكثر جدية لاستعادة الإطار العربي الذي كثيراً ما زايدت عليه سورية خلال الحرب الأميركية على العراق. وفي هذا الإطار يمكن فهم استقبال الرئيس بشار الأسد وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل في 14 نيسان أبريل 2003، والمكالمة الهاتفية التي أجراها الرئيس حسني مبارك معه. - استغلال الاختلاف النسبي في المواقف بين الولاياتالمتحدة وحليفتها بريطانيا في شأن استهداف سورية، اذ أشار وزير الخارجية البريطاني جاك سترو الى أن سورية ليست على لائحة الدول المستهدفة، لكنه أكد ضرورة تعاون دمشق لتسليم أعوان النظام العراقي الفارين، وأن تدرك أن ثمة واقعاً جديداً في العراق، وأن هناك أسئلة على السوريين الإجابة عنها. وكما هو واضح فإن سترو يحاول أن يضع لسورية "خريطة طريق" التي يرى أن اتباعها كفيل بتجنب التهديدات الأميركية. تمر سورية الآن بفترة غاية في الحرج والحساسية، وما يزيد من حساسيتها أن الخيارات المتاحة للتعامل مع الأوضاع المحيطة بها محدودة وصعبة للغاية أيضاً. فالإصرار على النهج "الصدامي"، وإن كان يلقى هوى السوريين، تبدو كلفته مرتفعة جداً، وربما لن يمكن احتمالها في ظل الظروف الراهنة، وما زالت رائحة ما حدث في العراق تزكم الأنوف. أما القبول بتغيير النهج والسلوك السوري لتفويت الفرصة على الولاياتالمتحدة ومحاولة الوصول إلى أقصى ما تتيحه الظروف الحالية، فعلى رغم أنه لا يلبي الطموحات القومية السورية، وربما يمثل قطيعة مع الإرث السوري، الا انه يمثل البديل العملي الوحيد المتاح والقادر على أخذ سورية بعيداً، وربما حمايتها من الوصول إلى الهاوية. وإذا كان من المؤكد أن سورية دخلت "دائرة" من دوائر الاستهداف الأميركي، فإن انتقالها من دائرة استهداف تقتصر على العقوبات وخلافه إلى دائرة الاستهداف العسكري، أو خروجها تماماً من دوائر الاستهداف الأميركية سيكون محكوماً أساساً برغبة دمشق وقدرتها على تغيير أسلوب إدارتها لعلاقاتها مع دول إقليمها ومع الولاياتالمتحدة. * باحث في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في "الأهرام".