2.5 % مساهمة صناعة الأزياء في الناتج المحلي الإجمالي    القوات البحرية تدشن عروضها في شاطئ الفناتير بالجبيل    رئاسة اللجان المتخصصة تخلو من «سيدات الشورى»    «النيابة» تحذر: 5 آلاف غرامة إيذاء مرتادي الأماكن العامة    خطيب المسجد النبوي: مستخدمو «التواصل الاجتماعي» يخدعون الناس ويأكلون أموالهم    "مدل بيست" تكشف مهرجان "ساوندستورم 2024" وحفل موسيقي لليوم الوطني ال 94    الاتحاد السعودي للهجن يقيم فعاليات عدة في اليوم الوطني السعودي    الأخضر تحت 20 عاماً يفتتح تصفيات كأس آسيا بمواجهة فلسطين    "أكاديمية MBC" تحتفل بالمواهب السعودية بأغنية "اليوم الوطني"    "تعليم جازان" ينهي استعداداته للاحتفاء باليوم الوطني ال94    مجلس الأمن يعقد اجتماعا طارئا لبحث التطورات في لبنان    شرطة نجران تقبض على شخص لحمله سلاحًا ناريًا في مكان عام    بيع جميع تذاكر نزال Riyadh Season Card Wembley Edition الاستثنائي في عالم الملاكمة    رياض محرز: أنا مريض بالتهاب في الشعب الهوائية وأحتاج إلى الراحة قليلاً    الدرعية تحتفل بذكرى اليوم الوطني السعودي 94    حاملة الطائرات الأميركية «يو إس إس ترومان» تبحر إلى شرق البحر المتوسط    «لاسي ديس فاليتيز».. تُتوَّج بكأس الملك فيصل    النصر يستعيد عافيته ويتغلّب على الاتفاق بثلاثية في دوري روشن للمحترفين    الناشري ل«عكاظ»: الصدارة أشعلت «الكلاسيكو»    وزارة الداخلية تحتفي باليوم الوطني ال (94) للمملكة بفعاليات وعروض عسكرية في مناطق المملكة    السعودية تشارك في اجتماع لجنة الأمم المتحدة للنطاق العريض والتنمية المستدامة    هزة أرضية جنوب مدينة الشقيق قدرها 2.5 درجة على مقياس ريختر    رئيس جمهورية غامبيا يزور المسجد النبوي    أمانة القصيم توقع عقداً لمشروع نظافة مدينة بريدة    ضبط مواطن بمحافظة طريف لترويجه أقراصًا خاضعة لتنظيم التداول الطبي    برعاية وزير النقل انطلاق المؤتمر السعودي البحري اللوجستي 2024    وزارة الداخلية تُحدد «محظورات استخدام العلم».. تعرف عليها    ب 2378 علمًا بلدية محافظة الأسياح تحتفي باليوم الوطني ال94    أمين الشرقية يدشن مجسم ميدان ذاكرة الخبر في الواجهة البحرية    المراكز الصحية بالقطيف تدعو لتحسين التشخيص لضمان سلامه المرضى    نائب الشرقية يتفقد مركز القيادة الميداني للاحتفالات اليوم الوطني    جيش إسرائيل يؤكد مقتل الرجل الثاني في حزب الله اللبناني إبراهيم عقيل    زعلة: ذكرى اليوم الوطني ال94 ترسخ الانتماء وتجدد الولاء    "الصندوق العالمي": انخفاض معدلات الوفيات الناجمة عن مرض الإيدز والسل والملاريا    حركة الشباب تستغل النزاعات المحلية الصومالية    الذهب يرتفع بعد خفض سعر الفائدة.. والنحاس ينتعش مع التحفيز الصيني    بعد فشل جهودها.. واشنطن: لا هدنة في غزة قبل انتهاء ولاية بايدن    «الأرصاد»: ربط شتاء قارس بظاهرة «اللانينا» غير دقيق    حافظ :العديد من المنجزات والقفزات النوعية والتاريخية هذا العام    خطيب المسجد النبوي: يفرض على المسلم التزام قيم الصدق والحق والعدل في شؤونه كلها    خطيب المسجد الحرام: أعظم مأمور هو توحيد الله تعالى وأعظم منهي هو الشرك بالله    محافظ حفرالباطن يرأس المجلس المحلي    أمطار متوسطة على منطقة المدينة المنورة    محمد القشعمي: أنا لستُ مقاول كتابة.. ويوم الأحد لا أردّ على أحد    وظيفةُ النَّقد السُّعودي    جمعية النشر.. بين تنظيم المهنة والمخالفات النظامية المحتملة    إسرائيل - حزب الله.. هل هي الحرب الشاملة؟    حصّن نفسك..ارتفاع ضغط الدم يهدد بالعمى    احمِ قلبك ب 3 أكوب من القهوة    احذر «النرجسي».. يؤذيك وقد يدمر حياتك    على حساب الوحدة والفتح.. العروبة والخلود يتذوقان طعم الفوز    قصيدة بعصيدة    قراءة في الخطاب الملكي    أدب تختتم ورشة عمل ترجمة الكتاب الأول بجدة    صحة جازان تدشن فعاليات "اليوم العالمي لسلامة المرضى"    أكثر من 5 ملايين مصلٍ يؤدون الصلوات في المسجد النبوي خلال الأسبوع الماضي    برعاية خادم الحرمين.. «الإسلامية» تنظم جائزة الملك سلمان لحفظ القرآن    اليابان تحطم الأرقام القياسية ل"المعمرين"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الصراع على مستقبل العراق ثلثا الشعب العراقي في المدن بتمثيل قليل ... والشخصيات السياسية في حال ارتباك 2 من 2
نشر في الحياة يوم 10 - 05 - 2003

نشرنا امس عرضاً وتحليلاً للقوى الدينية والعشائرية في المجتمع العراقي الراهن، وهنا نتابع عن قوى المجتمع المدني والتنظيمات السياسية.
كانت هناك مبالغات في تقدير اعتماد النظام على العشائر. كما يبدو ايضاً انه كانت لهؤلاء الشيوخ علاقات لم تنقطع بالنظامين السعودي والأردني. ويبدو انه من هذه الطريق اتصل بهم البريطانيون قبل بدء الحرب، وعينوا واحداً من شيوخ تميم والياً على البصرة بعد دخولها. وسيلجأ الأميركيون لذلك مع عشائر الفرات الاوسط، لأن التعامل معهم أسهل من التعامل مع رجال الدين الذين لا يحبون الأجانب. ويظهر ان المغري في العشائر ان البطون تنتظم من وراء شيوخها في العادة، كما يظن البريطانيون، لكنني أحسب ان الوضع تغير الآن، فلا يحدث اضطراب من جهة، وتستطيع الجهة السلطوية التي تكسب شيوخهم استخدامهم في قمع اضطرابات المدن، وتأمين الاتصالات، ومنع التعديات الا ما يريدونه هم ان يحصل.
يستدعي هذا التحليل التساؤل عن أدوار المواطنين في المدن، وهم يبلغون اكثر من ثلثي الشعب العراقي، كما يستدعي السؤال عن "المجتمع المدني" الذي لا يتحدث عنه حتى الآن غير أحمد الجلبي! والواقع ان المدينيين سنّة وشيعة، هم الذين صنعوا تاريخ العراق الحديث، ودولته. وستبدأ المقاومة ولا شك من المدن. لكن الصراع صراع على انتماء العراق ومستقبله، وستشارك فيه الحاضرة والعشائر والأرياف.
وقد أعلن الأميركيون على لسان الرئيس بوش تفضيلهم الفيديرالية. وتصورهم لها - في ما يبدو -: الفصل العملي للأكراد منذ الآن، كما تجلى في تمكينهم للعامة والبشمرغة أتباع الطالباني بالذات من غزو المدن السنّية في الشمال والوسط: كركوك والموصل وتكريت والقرى والبلدات المؤيدة اليها والمحيطة لها لتسعير الخصومات والاحقاد، التي ما قصّر النظام السابق على اي حال في إثارتها. وتجلى خيار الفصل ايضاً بين العرب والاكراد في طريقة دخول الجنرال جاي غارنر الى بغداد، ودخوله الى المنطقة الكردية. فقد دخل الى بغداد دخول الفاتحين، بينما دخل الى الشمال الكردي ليشارك الناس فرحتهم بالتحرير والاستقلال ؟، وبدا في صورة للتلفزيون منتفخاً يملأه الحبور، ومن حوله الطالباني والبرزاني، اللذان يلتصقان به، ويكادان يحملانه على الأكف!
وفي المناطق العربية اراد الأميركيون اقامة ادارات مدنية محلية شبه منتخبة، كما حدث في الموصل أخيراً. وترسل تلك المدن والمناطق في مرحلة لاحقة مندوبين الى العاصمة يشكلون مجلساً تأسيسياً وتشريعياً؟، هو الذي يوافق على الحكومة الانتقالية، التي من مهامها وضع مشروع الدستور الموقت، وعرضه على المجلس التأسيسي، فتجرى على اساس منه الانتخابات العامة خلال سنتين، لبرلمان من غرفتين، يضع الدستور الدائم للفيديرالية، ويوقع المعاهدة مع الولايات المتحدة، لتبدأ بعدها القوات الأميركية أو أكثرها بالانسحاب.
لكن ظهرت مشكلة مؤداها عدم النجاح حتى الآن في إقامة الادارات المحلية، ولذا ما أمكن ارسال مندوبين عنها الى بغداد، فضلاً عن حيرة الأميركيين، ماذا يفعلون بالمعارضين الذين أتوا بهم معهم، وقد صاروا الآن آلافاً؟ ولهذا لجأوا من اجل السرعة في اقامة الحكومة التي يحتاجونها الآن لتخفيف التماس مع المواطنين، ولتسهيل الاعتراف العربي والدولي الى عقد الاجتماعات المتوالية، للمعارضة المجلوبة معهم، ولبعض شيوخ العشائر والوجهاء، من أجل التشاور في اقامة الحكومة العتيدة. وقد استجابت القوى الموالية لايران للدعوة اخيراً. وواجه مؤيدو الحوزة اجتماعات "المعارضة الأميركية" بالدعوة لمؤتمر وطني عام. وهناك ثلاثة تصورات للرئاسة او للرئيس العراقي للادارة الانتقالية: الأول يريدها شكلية، ما دام نظام البلاد فيديرالياً، والثاني يريدها قوية، لأن الدولة فيديرالية بالذات، والثالث يريد رئاسة الجمهورية، ورئاسة الوزارة، ويكون هناك توازن في تقاسم السلطة بين المؤسستين.
هذا التصور العام للأمور هو تصور احمد الجلبي ومعاونيه. وكنعان مكية، وبعض اليساريين شديدو الحماسة له، لكنهم يريدون استعجال الامور، ليس من اجل خروج الأميركيين، بل من اجل وضع الدستور، وتشكيل الحكومة من طريق هيئة غير منتخبة هي لجنة التنسيق التي تشكلت بين بريطانيا واجتماع صلاح الدين في شمال العراق قبل الغزو، والتي يمكن توسيعها دونما اصرار بنفوذ احمد الجلبي وإياد علاوي والاطراف الكردية، والشيعية الموالية لايران فيها. هم يقولون انهم لا يثقون بالوعي الديموقراطي للشعب العراقي، ويخشون من تسلل انصار صدام للهيئات الجديدة. والحقيقة انهم يخشون ان لا يصلوا من طريق الانتخابات، لسيطرة "المتخلفين" من رجال الدين والعشائر على الجمهور!
ان "العيب" الرئيس لهذه الخطة وسواها من افكار المعارضين القادمين مع الاميركيين، انها لا تقدر حركيات الناس وامكاناتهم في المدن والبلدات. صحيح انه لم تبرز حتى الآن زعامات محلية جديدة، ولذلك يعرض شيوخ العشائر ومشايخ الدين انفسهم على الجمهور وعلى الاميركيين والبريطانيين لحكم المدن والبلدات والسيطرة عليها. لكن المسألة لا تستقيم في هذا السياق حتى بحسب المقولة الخلدونية لعلائق القبيلة والدعوة الدينية بالمدينة والدولة. فالعصبية القبلية ذات الشوكة - بحسب ابن خلدون - تستعين بالدعوة الدينية المستجدة لعالم كاريزماتي، للاستيلاء على المدينة، وإقامة الدولة فيها. وليست هناك عصبية عشائرية بارزة وقوية في العراق اليوم، كما انه لا نموذج للدعوة الدينية غير ولاية الفقيه الايرانية التي لا تجتذب الكثيرين بعد اشتداد الصراع من اجل ازاحتها او اصلاحها في داخل ايران بالذات. اما مقولة "الدولة الاسلامية" القائمة على تطبيق الشريعة، والتي تقول بالشورى، وبنوع من ديموقراطية اسلامية، فهي فكرة الاحيائيين السنة من الاخوان المسلمين في الاساس، وقد تبناها حزب الدعوة اولاً، ثم انصرفت اكثر تنظيماته عنها بعد قيام النموذج الايراني. وربما عاد اليها بعض الشيوخ الليبراليين الشيعة، لكن الجمهور غير مهتم بها الآن تطورت لدى الشيعة السعوديين والبحرانيين على الخصوص - وهم الذين كانوا خمينيين في الأصل - في التسعينات افكار ليبرالية حول ديموقراطية اسلامية أو محايدة، تتجاوز احياناً في عصريتها افكار معتدلي الاخوان المسلمين المصريين والعراقيين الموجودين بالمنافي.
ومن ابرز هؤلاء الشيخ حسن الصفّار من القطيف، وتوفيق السيف، وزكي الميلاد، ومحمد محفوظ، والجمري. وأحسب انه سيكون لهؤلاء وأمثالهم تأثير بالعراق، لكن في المدى المتوسط، فلدى العراقيين الآن شيعة وسنّة حساسية عالية حيال التدخل في شؤونهم حتى من جانب العراقيين العائدين من المهاجر والمنافي. ولذلك فأكبر دعاة الديموقراطية الاسلامية في العراق الآن الحزب الاسلامي العراقي السنّي الذي عاد فافتتح مراكز له على عجل في الموصل وبغداد والانبار. وقد تأسس الحزب في الاصل فرعاً للاخوان المسلمين في الخمسينات على يد الشيخ محمود الصواف. ومنع تكراراً من جانب السلطات ابتداء بالعام 1960. وارتاح هؤلاء قليلاً - دونما شرعنة معلنة - ايام العارفيين عبدالسلام وعبدالرحمن. لكن علاقات عبدالسلام عارف بمصر الناصرية حالت دون اراحتهم كثيراً. ثم عاد المنع والتشدد والسجن والتهجير ايام حكم البكر وصدام. وقد اعتقد الاخوان العراقيون في المنافي والسجون اواخر السبعينات - عندما دعم صدام حسين تمرد الاخوان المسلمين في سورية، ولجأ بعضهم الى العراق - ان فرصتهم اتت لمطالبة السلطة بالتخفيف عنهم، لكن كان ذلك دون جدوى، على رغم تدخل القطب الاخواني السوري اللاجئ ببغداد سعيد حوا لمصلحتهم، وهو الرجل الذي يقال ان صداماً كان يحبه ويعتقد فيه الصلاح والولاية. وقد حضرت المؤتمر الاسلامي الذي أقامته وزارة الاوقاف العراقية في بغداد قبل انطلاق "عاصفة الصحراء" لتحرير الكويت عام 1991، وفي المؤتمر طالب راشد الغنوشي زعيم الاسلاميين التونسيين الرئيس العراقي الذي كان حاضراً في القاعة، باطلاق سراح الاسلاميين الشيعة والسنّة، ما داموا جميعاً معه في حربه على الولايات المتحدة، اذ ان الاحرار فقط هم الذين يستطيعون مقاومة الهيمنة والاستكبار والاستعمار. وأخبرنا الغنوشي في اليوم التالي ان صداماً قابله في تلك الامسية هاشاً باشاً، لكنه لم يستجب طلبه. عاد الحزب الاسلامي العراقي للعمل اذاً، ويبدو انه يتمتع بامكانات من اعضائه في المهاجر الخليجية والاميركية. وقد يستفيد موقتاً من حركته الخدماتية الحاضنة للناس. لكن لا يبدو ان التغيير الجذري الذي ينال من السنة ودورهم الآن في المستقبل، يمكن ان يستوعبه، ويفيد منه الاسلاميون في المديين المتوسط والطويل. فقد أصابت السنيين الآن "رضة" - بالمعنى النفسي، ستتركهم في حال ضياع لزمن قد يطول، في المدن بالذات. إذ كانت نسبة كبيرة منهم عاملة في الدولة وأجهزتها، وفي الجيش وإدارات الأمن. وقد تعودوا على ذلك منذ اجيال، فهم "أهل الدولة" إذا صح التعبير، وقد دالت الدولة الآن. وهناك من يريد اقامة تمييز من نوع آخر، بين اهل الدولة في الموصل وبغداد، و"أهل النظام" في تكريت والرمادي والأنبار والأرياف السنية الفلاحية والعشائرية. وقد يكون ذلك صحيحاً، لكنه لا يشكل فارقاً كبيراً الآن.
ثم ان هناك مجتمعاً مدنياً مدينياً واسعاً بالعراق هو جوهر الوطنية العراقية العريقة، وهو يتجاوز الطوائف والحمولات والإثنيات. ويمتزج فيه التركماني بالكردي بالعربي. ولا معنى للأفكار السائدة حول عروبة السنة. فحتى العشائر العراقية السنّية والشيعية ليست صافية اثنياً. وكما تلاعب النظام العراقي بعد ثورة تموز يوليو 1958 بأعداد السنّة والشيعة والأكراد، دأب الأميركيون والبريطانيون وبعض السذّج من السنّة والشيعة والأكراد على فعل ذلك منذ سنوات. وعندما كان الأميركيون يظنون ان الشيعة سيرحبون بهم في الجنوب على الخصوص، أوصلوا عددهم في العراق الى نسبة 70 في المئة. لكنهم الآن، عادوا لتخفيض النسبة الى 55 أو 60 في المئة، اما الباقون فأكثرهم من الأكراد في نظرهم. ولا معنى لنتائج دراسة حنا بطاطو الشهيرة عن العراق. فهي تغصّ بالمعلومات المفيدة، والقصص التفصيلية عن التكوينات العشائرية والسياسية والحزبية، لكنها تتجاهل النخبة الدينية، وتعظّم من شأن الحزب الشيوعي، وتحقّر من شأن القوميين، والأهم من ذلك انها لا تقول بوطنية عراقية، ولا بمجتمع ودولة في العراق! تماماً مثل الذين درسوا الوضع اللبناني في الحرب الأهلية، وانتهوا الى انه مجتمعات وثقافات وميليشيات، ولا أمل في قيامته وسلامته. وليست هناك خشية من فتنة طائفية في العراق وإن حاولها الأميركيون. لكن الانقسام العربي - الكردي حقيقي، ويثير الخوف. ومع ذلك لا نعرف ما حصل للفئات الاجتماعية المدينية الوسطى من التجار والفنيين والحرفيين والصناعيين والكوادر العلمية في الثمانينات والتسعينات. فالمعروف ان نسبة 50 في المئة من هؤلاء تقريباً سنّة بما في ذلك ذوو الأصول التركمانية والكردية، ومن مدن وبلدات الشمال والوسط. وأذكر ذلك هنا لأن الأيام التالية على سقوط بغداد والموصل، ما شهدت ظهوراً لهذه الفئات باستثناء بعض الإسلاميين الذين ذكرناهم من السنّة، والشيوخ الملحوظي الحركة من الشيعة لا من السنّة ولا من الشيعة. وحتى التركمان ما بدوا متحمسين لتدخل الأتراك لحمايتهم من الأكراد! أين هم هؤلاء؟ ولماذا لا يتحركون لحماية انفسهم وممتلكاتهم؟ هل لأن المدن لا تتحرك إلا ببطء؟ او ان "عامة" المدن وحرافيشها تسيطر في الأزمات وأوقات الاضطراب في الشارع، ولا تملك الفئات الوسطى في المدينة "عصبية" مماثلة؟! او ان "المجتمع المدني" الذي نعرفه تحطّم، ولا بد من وقت، كما لا بد من عون العائدين من المهاجر؟ ومرة اخرى أذكر ذلك هنا لأن ما شاهدناه وأُخبرنا به طوال الأسابيع الماضية تقارير عن شيوخ عشائر ورجال دين يتولون الإدارة في المدن والبلدات والأحياء، ولا وجود للمواطنين العاديين بين اعضاء اللجان التي تتولى الشؤون الحياتية. فالذي يبدو انه مع انزياح السلطة العراقية نتيجة الغزو، سيطرت على المدن الكبرى والصغرى امام اعين الفاتحين عصابات للسلب والنهب، وربما لم تكن كلها من داخلها. وتستتبّ الآن مرحلة ثانية من التطورات قوامها سيطرة احد شيوخ العشائر والعشيرة هنا تساوي الريف المجاور للمدينة عندنا يعاونه احد رجال الدين على "اللجنة المحلية" التي تشرف على ضبط الأمن، وتنظيم الشؤون الحياتية. وعندما نتحدث عن "المدن" فلا ينبغي التفكير بالكثرة الصافية. فليس في العراق مدينة يزيد عدد سكانها على ربع المليون، وفيها اكثرية صافية، بل الاختلاط هو السائد، باستثناء المدن الشيعية المقدسة. والعرب والمتعربون، الذين يعتبرون العربية لغتهم الأم يزيد عددهم على ال85 في المئة من مجموع العراقيين. وهكذا فقد يفرح الإسلاميون الجدد من ثبوت نظرتهم حول "المجتمع الأهلي" في مقابل "المجتمع المدني"، باعتبار الأول يمثل التكوينات التقليدية، والثاني يمثّل التكوينات الحديثة. وعندما تنهار التنظيمات الحديثة يعود الناس الى الرابطة التقليدية. المشكلة هنا ان سكان المدن ليسوا هم من استدعى "الأقارب" والأقارب أحياناً عقارب! للحماية والإدارة، فيبقى ان ننتظر بعض الوقت لنرى كيف تتطور الأمور، وكيف يعبّر المجتمع المديني عن نفسه.
وبانتظار ذلك نروي هذه الطرفة التي نرجو ان تعكّر صفو دعاة "المجتمع الأهلي"! مدينة سامراء التي تبعد عن بغداد حوالى 125 كلم، ذات سمعة بسنيتها، لكنها في الحقيقة مختلطة الى حد كبير، وفيها مزارات لأهل البيت، و"حوزة" تشبه على صِغَر حوزة النجف. تميزت سامراء في الأسبوعين اللذين تليا سقوط بغداد بأن سكانها حالوا دون السلب والنهب بتنظيمات مشتركة بين السنّة والشيعة في كل الأحياء. لكن ذلك لم يمنع "اقاربهم" من العشائر المجاورة من دخول المدينة بحجة الحماية والتنظيم، وأنشأوا لجنة ترأسها شيخهم. وتظاهر اهل المدينة بالسرور وسلّموا امرهم الى الله. لكن الأميركيون الذين سهّلوا لشيخ العشيرة الدخول، سهّلوا ايضاً دخول اللواء فائق السامرائي، ابن المدينة، والذي كان مديراً للاستخبارات العراقية، ثم فارق صدّاماً عندما احسّ انه سيوقع به عام 1995، لجأ للأردن، فانزلقت رجله فوجد نفسه في احضان رجالات العم سام، بل يقال ان رجله او يده انزلقت قبل الخروج من العراق. على اي حال، عاد اللواء السامرائي - يحرسه ويرافقه اكراد خصّصهم لحمايته جلال طالباني - فوجد اللجنة قائمة ولم يرد الإزعاج فعيّن نفسه محافظاً سامراء لواء وليست محافظة على المدينة وضواحيها، وانصرف لخدمة ابناء بلدته الأعزاء، فعلّق رئيس شرطة المدينة المتقاعد على هذه "الوقائع الغريبة" بالقول: "لقد كان انشقاقه عن صدام نقمة علينا، إذ ادى الى تنحية كل الضباط والموظفين الكبار من اهل سامراء، كما الى سجن وإعدام بعضهم خوفاً من هربهم مثلما فعل، ونحن نرجو الآن ان تكون عودته "نعمة"، لأنه عاد مع حكّامنا الجدد وليس ضدّهم!
ويرى حنا بطاطو وسائر اليساريين ان الأحزاب هي من تكوينات "المجتمع المدني" الحديثة. لكن، لا يفيدنا كثيراً الآن التساؤل عن الدور المحتمل للأحزاب والشخصيات الحزبية قديمها وجديدها. فللعراقيين تجربة مريرة مع الشيوعيين والقوميين، وسينقضي وقت طويل قبل ان تستطيع احزاب جديدة او متجددة ان تجد لها موطئ قدم حقيقياً في الشارع العراقي. لكن، ماذا عما يسمّى بالشخصيات المدينية المستقلة، ممن عملت بالسياسة في الخمسينات والتسينات؟ لقد شهدنا من قبل نموذج حزب الوفد، وشخصيات العهد الملكي التي عادت للظهور ايام السادات بمصر. قد تكون لبعض هؤلاء ادوار وسطى وقصيرة في العراق، لكنهم لن يعجبوا الأميركيين في المدى المتوسط، ثم انهم كبار في السن، وقضوا عقوداً في الخارج، وإن لم تكن لهم سمعة الجلبي السيئة. لا أحد يريد العودة الى الوراء، صدام خرّب ما استطاع، والأميركيون يتابعون العملية، ولا مجال لنوستالجيا الماضي، إلا على سبيل الإيهام أو الحيرة او تغطية الأهداف الحقيقية.
ولهذا فإن المتصور ان تشتد وتتعاظم حركة فريقين: الفريق المدني المدعوم من الأميركيين، والذي يملك ان يعطي ويمنع، ويقدم الخدمات في هذه الظروف الصعبة على الناس، والفريق المقاوم للاحتلال، والذي ما تبلورت معالمه بعد، لكن هناك اقتناعاً عميقاً لدى الغالبية العظمى من الشعب العراقي ان ما جرى ويجري غزو واحتلال وخراب وتجويع وإذلال. والمتصوَّر ان تبدأ ممانعة مدنية خلال بضعة أشهر تتطور الى تظاهرات وأعمال احتجاج منظمة ومتواصلة ضد المحتلين والمتعاونين معهم في المدن الكبرى التي يسهُلُ النشاط والتنظيم فيها. وتعتمد المعارضة الداخلية حتى الآن عباءة وعمامة رجال الدين، للميول الدينية الجارفة لدى الجمهور، ولأن الأميركيين يتهيبون قتل رجال الدين او سجنهم او دخول مساجدهم ومنتدياتهم. وقد برز بين رجال الدين خارج النجف وكربلاء حتى الآن شيخان يمتلكان مزاجاً خطابياً جماهيرياً: الشيخ محمد الفرطوسي الشيعي وأحمد الكبيسي السنّي، الذي كان صوته يلعلع الى ما قبل شهرين في الفضائيات الخليجية. والأمر هنا يستدعي شيئاً من التأمل في حركيات الجمهور. فتصدّر رجال الدين التظاهرات الاحتجاجية والمطلبية يعني أيضاً ان الجمهور يفضّل لأسباب مختلفة التحرك شبه السلمي، ويغلب عليه - من خلال متابعة الشعارات والهتافات - همّ الوحدة الوطنية، وهمّ خروج الأميركيين بأقل كلفة ممكنة، وهمّ الاستقلال دونما تدخل او وصاية من جانب المعارضين الواصلين مع الأميركيين بالقرار السياسي. ويبقى الرهان على وطنية الشعب العراقي، وعلى قدرة النُخب والناشطين - وبينهم عشرات الألوف من المعذّبين العائدين من المنافي - على تمثيل القواسم المشتركة بين فئات الناس، في وعيهم بوطنهم ومصالحهم، وعشقهم للحرية التي دفعوا ثمنها غالياً في نظام صدام، وفي الغزوين الأميركيين الأول والحالي.
وكما لن يسلّم الشعب العراقي بالاحتلال، لن يسلّم ايضاً بالانفصال الكردي - العربي. فالأكراد عراقيون عراقيون، وأمثال الطالباني قليلون. لكن إغراءات الاستقلال، وسنوات المنطقة المحمية في الشمال، وتصرفات النظام السابق، كل هذه الأمور، ولّدت فئات صار الانفصال من مصلحتها. فينبغي ان تأتي المبادرة من الوطنيين العرب لرأب الصدع، وصون المصالح من ضمن الوحدة. وهناك معلومات متقاطعة عن اتصالات تجرى في بغداد والموصل، للوصل وتصحيح العلاقة، والتفكير المشترك بالمستقبل.
اما دول المحيط العربي ودول الجوار للعراق، فلا مصلحة لأي منها بانقسام العراق، ولا باستمرار احتلاله. بيد ان الأتراك والإيرانيين اكثر قدرة على الحركة من العرب. الأتراك بسبب وجود التركمان، وعلاقاتهم بالأميركيين. والإيرانيون لأنهم يملكون انصاراً في الداخل. وصحيح ان اجتماع دول المحيط والجوار في الرياض ما ادى الى نتائج ملموسة، لكن تكراره ضروري لمتابعة متغيرات الظروف. وحتى الآن لا يملك احد بديلاً مقبولاً يمكن اقناع الأميركيين به، او يمكن إنفاذُه عملياً بموافقتهم. فدعوة الأميركيين لمغادرة العراق لا تحظى بقبولهم، بل لا تقدّم جواباً في المسألتين الأمنية والإنسانية. ولو كانت الإدارة الأميركية عاقلة او تحسن الإصغاء لأطراف النظام الدولي، لكانت الأمم المتحدة هي الحل في المدى المتوسط: تبدأ قوات لحفظ السلام بالدخول بعد شهر او شهرين، لتقوم بمهام الأمن وحفظ النظام، وتنظيم المساعدات الإنسانية، وترميم المرافق، وينسحب الأميركيون بالتدريج مع تكوّن الإدارات المدنية، وإجراء الانتخابات. هذا السيناريو ممكن لو ان الأميركيين دخلوا العراق بقرار دولي لنزع اسلحته وتحريره، كما يقولون! اما الحقيقة فهي انهم دخلوا للاحتلال والاستغلال، ولذلك يريدون ان يبقوا لفترة طويلة منفردين من اجل تحقيق المصالح، وإرعاب الآخرين. فحتى فرق التفتيش عن اسلحة الدمار الشامل، ما عاد الأميركيون يريدونها هناك. وهكذا لا يبقى لدول الجامعة العربية الآن إلا تقديم المساعدات لتخفيف المعاناة عن الشعب العراقي وبموافقة الأميركيين طبعاً. وقد بادرت لذلك حتى الآن كلٌّ من الكويت والسعودية. ويمكن للسعوديين والمصريين والأردنيين والكويتيين الذين يملكون صلات وعلاقات بالداخل العراقي وبأطراف المعارضة العائدين، تشجيع هؤلاء على تجاوز الحساسيات الإثنية والطائفية من اجل التضامن والتوافق لتجاوز المأزق، والتفكير الجماعير بالمستقبل. كما يمكن في مرحلة لاحقة - وعندما يحتاج الأميركيون لتنظيم انسحابهم الى الأمم المتحدة، ويجرى البحث في نظام الأمن الجماعي او امن منطقة الخليج - ان يبادر العرب لاحتضان العراق بإدخاله في مجلس التعاون الخليجي. وأعود للقول إن ذلك رهن بالتعقل الأميركي، الذي لا يبدو شيء منه الآن، وكيف وهم يعارضون البحث عن اسلحة الدمار الشامل التي زعموا انهم يدخلون العراق لنزعها؟ وكيف وهم يريدون معاقبة فرنسا الآن لأنها عارضت الحرب على العراق خارج القرارات الدولية؟! وأرى من جهة اخرى ان انتظار التعقل الأميركي مسألة قد تطول، ليس بسبب طبيعة الإدارة الأميركية وخططها للمنطقة فقط، بل لأن المقاومة العراقية للاحتلال، والتي يُنتظر ان تمتد وتتصاعد، ستقضي على البقية الباقية من عقل او لا عقل بوش ومحافظيه الجدد. ويبدو ارتداك الإدارة الغازية واضحاً من خلال الإقبال على تعيين بول بريمر بديلاً لغارنر او رئيساً له، للأخطاء الكبرى التي ارتكبها الأخير، في ما يقال.
القوة الأميركية ساحقة الآن وطليقة من كل قيد اخلاقي او دولي. والعراقيون متعبون متعبون. والعرب ضعفاء ضعفاء. وآخر ما نحتاج إليه اليأس او الشماتة او نفض اليد او الكفر بالله وبأمتنا: ]ولا تَهِنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلَون إن كنتم مؤمنين. إن يمسَسْكم قَرْحٌ فقد مسّ القوم قرحٌ مثله. وتلك الأيامُ نُداولُها بين الناس، وليعلَمَ الله الذين آمنوا، ويتخذَ منكم شُهداء، والله لا يحبُّ الظالمين[ سورة آل عمران: 138- 140.
بيروت، 30/4/2003
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.