اعتاد المراقب للوضع العراقي أن ينتقل يومياً عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة إلى بعقوبة والخالدية وأسوان والحويجة وسامراء وتكريت والحديثه والموصل والفلوجة والرمادي وبغداد والحبانية ليرى أو يسمع أو يقرأ عن هجوم على قافلة أميركية، أو عن حصار لحي في مدينة أو قرية بأكملها تفرضه القوات الأميركية للقبض على مقاتلين أو مخططين لهذا الهجوم، وهي مدن وقرى يسكنها العرب السنة. ولا يسعنا إلا أن نتفق مع رؤية حازم الأمين في تقريره عن العراق الحياة 12/11/2003 بأن مقاومة الوجود الأميركي، وشن هجمات على القوات الأميركية في هذه المدن هو المظهر السياسي الأبرز الذي أنتجه العرب السنة في العراق في فترة ما بعد صدام، هذه المقاومة التي تضاعف من مأزق أهل السنة بدل أن تكون مخرجهم إلى الحياة العامة. هذه المدن، وإلى حد كبير، هي نفسها التي جهزت الكليات العسكرية في العراق منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 بالرجال الذين شكلوا على مدى عقود عدة نخبة الجيش العراقي. كما أنها المدن نفسها التي انخرط عدد كبير من شبابها في التنظيمات السياسية التي رفعت الشعارات القومية العربية مثل حزب البعث وحركة القوميين العرب وتنظيمات أخرى تشكلت استجابة للمد القومي العربي الذي انطلق من مصر في خمسينات القرن الماضي. وما بين الكليات العسكرية والتنظيمات الحزبية القومية تبلور الحكم في العراق شكلاً وطبيعةً خلال العقود الخمس الأخيرة. وعادة ما كان العسكريون يقودون الانقلابات ومن ثم العراق كله مزينين مجالس قيادات ثوراتهم أو وزاراتهم بمثقفين وتكنوقراطيين ينتمي كثير منهم إلى هذه التنظيمات الحزبية وإلى المدن والقرى التي ذكرناها. إلا أنه في العام 1968 وعندما تولى أحمد حسن البكر رئاسة الجمهورية وعين صدام نائباً له، وبعدما تمكن الثاني من السيطرة على أجهزة المخابرات، انقلبت العلاقة وأصبح المدنيون في حزب البعث في الصف الأول من القيادة. وفي عام 1979 انفرد صدام بالسلطة مع الذين قرّبهم اليه، وهؤلاء شكلوا المجموعة الأكثر دموية والأقل تعليماً وثقافة. وكان من أوائل ضحايا هذا النظام من العرب السنة عسكريون ومدنيون قضوا إعداماً واغتيالاً داخل العراق وخارجه. كانت تلك فترة لم تكن الأحزاب الشيعية قد شكلت بعد تحدياً للنظام. وكان الضحايا من العراقيين الشيعة من حزب البعث نفسه. وبعدما أُفرغ الحزب من نخبة أعضائه، وتحول من تنظيم سياسي إلى تنظمي إرهابي، ما كان لصدام إلا أن يعتمد على رجال قريته وما حولها لتأمين استمراريته في السلطة، وما كان معتمداً أبداً على قاعدة عربية عريضة من السنة من بغداد أو الموصل مثلاً. لكن لا شك أن العرب السنة بمن فيهم من عانى من بطش النظام كانوا الأكثر توجساً لعواقب امتداد الثورة الإيرانية خوفاً من سيطرة أحزاب طائفية موالية لإيران على السلطة في العراق، كما كانوا الأكثر حساسية لأن تتحول طموحات بعض الفصائل الكردية إلى انفصال كامل عن العراق. كان ذلك في أول الثمانينات من القرن الماضي، وهي فترة التقت فيها مصالح النظام العراقي مع مصالح أميركا التي وفرت دعماً لوجستياً ومخابراتياً كان له أبعد التأثير في تراجع الانتصارات الإيرانية. ولا شك أنه عندما قابل صدام رامسفيلد في أول الثمانينات مبعوثاً من الرئيس ريغان تأكيداً لدعم أميركا له، لم يخطر بباله أبداً أنه كان يقابل الرجل الذي سيقود الجيش الأميركي لهزيمته وجيشه خلال سنوات قليلة مخصصاً بعدها جائزة مالية للقبض عليه حياً أو ميتاً. لا شك أنه على رغم تجربة الحرب المريرة التي شنتها أميركا وعانى منها العراقيون، فإن سقوط نظام صدام يفتح مجالاً أوسع من الحريات للأفراد والتنظيمات ويوفر فرصاً كثيرة ونموا اقتصادياً وتحسناً في مستوى الخدمات الصحية والتعليمية وارتقاء بالعمل السياسي، لكن يبدو أن هذه المجالات والفرص لم تكن كافية لأن يعتبرها كثير من العراقيين تحريراً خصوصاً في المدن والقرى المذكورة أو لدى العرب السنة بوجه خاص. قليلون هم الذين يدركون التغيرات التي طرأت على استراتيجية أميركا في المنطقة "بعد 11 سبتمبر" والتي كان من نتائجها أن حضرت لإسقاط هذا النظام التسلطي، والتزمت العمل على دعم توجهات أكثر ديموقراطية في المنطقة. وكثير من العراقيين لا يزال يعتقد أن الولاياتالمتحدة ما قدمت إلى بلده إلا من أجل السيطرة على الثروة النفطية. هذا مع أن الواقع يشير إلى أنه من دون مساعدة اقتصادية من الولاياتالمتحدة ومن دون دعمها لخفض الديون العراقية وإعادة جدولتها، فإن إيرادات النفط العراقي لن تكفي لمشتريات العراق الضرورية ولدفع رواتب العاملين في الدولة. إن علاقة الأميركيين بالعراقيين بالغة التعقيد، فكل منهما يتعامل مع الطرف الآخر كعدو وصديق في آن خصوصاً في المناطق السنية. فالأميركان يتهمون أهل القرى في هذه المناطق بالسماح للمقاتلين بالانتشار بينهم، والسكان حاقدون لسوء معاملة الأميركان لهم ولاستخدامهم نيراناً كثيفة حصدت مئات من العراقيين الأبرياء في الفلوجة وبغداد وسامراء ومدن أخرى. وقد أظهر القتال الأخير الذي نشب في مدينة سامراء ووصف بأنه الأكبر منذ توقف الحرب، وأسفر عن مقتل 54 مقاتلاً عراقياً وفقاً لرواية جنرال أميركي رفيع المستوى من مقر حلف "الناتو" في بروكسل، مدى حساسية موقف هذين الطرفين المتقاتلين، ومدى حاجة الأميركان الى انتصار يعزز معنوياتهم. وقد شكك مراسل صحيفة "نيويورك تايمز" بالرقم الذي ذكره الجنرال، وأكد وقوع ضحايا أبرياء بينهم موظفة في مصنع أدوية وحاج إيراني، وأنه وفقاً لرواية أهالي المدينة كان مجموع القتلى ثمانية فقط. إن ما يجمع هؤلاء العراقيين الذين يسكنون المناطق السنية هو الإحباط، وشعورهم بالغبن ، لأن ليس هناك من يمثلهم أو يتحدث باسمهم معبراً عن تطلعاتهم. فربما هم يحاولون ممارسة السياسة بأدوات عنيفة كانوا هم أكثر المتضررين منها، اذ انهم ظلوا غير محضرين سياسياً لفترة ما بعد سقوط النظام مقارنة بالشيعة والأكراد، وهم وفقاً لوصف السيدة رنَد الرحيم التي عينت سفيرة للعراق في أميركا، المنتمية الى المؤتمر الوطني العراقي برئاسة احمد الجلبي، والذي ورد في تقريرها عن الوضع في العراق ترجم التقرير ونشر في المستقبل العربي عدد 11/2003 "كمعظم العراقيين لا يرون إلا الوجه السلطوي والعقابي غالباً للاحتلال الأميركي. قليلون هم الذين يرون الجانب المتمدن والإنساني، فهو يبقى بعيداً وفي غير متناول أحد". لذا فإنه مع البطالة المنتشرة وفقدان الأمل وغياب التواصل مع سلطة الاحتلال ومجلس الحكم ليس من الصعب تجنيد شباب لشن هجمات على القوات الأميركية أو غيرها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن كثيراً من العراقيين والعرب السنة خصوصاً أصيبوا بصدمة من التوزيع الطائفي والعرقي لمجلس الحكم بدلاً من التمثيل السياسي. وأن تم تبرير ذلك التشكيل الطائفي العرقي لعدم تشكل أحزاب سياسية مستقرة بعد، ولاعتباره مجلس انتقالي، فإن هناك خوفاً من أن يشرع لهذا التوزيع أو جزء منه في الدستور القادم. وترى السيدة رنَد الرحيم: "إن نظاماً للحصص قائم على الطائفة والعرق بتأكيد الهوية الطائفية والولاء على حساب الهوية العراقية يقوض الأمل بإنجاز مواطنه عراقية عامة". إضافة إلى ذلك فإن نسبة توزيع أعضاء مجلس الحكم إلى طوائف وأعراق والتي شغل فيه الشيعة 13 عضواً والعرب السنة 5 أعضاء والأكراد 5 أعضاء وواحد لكل من المسيحيين والتركمان، كانت مجحفة بحق العرب السنة ليس من ناحية العدد فقط، وإنما لافتقاد الأعضاء السنة للقاعدة السياسية والشعبية العريضة. فأبرز الأعضاء السنة في مجلس الحكم، عدنان الباجة جي، يناهز الثمانين من العمر مما لا يسمح بالتعويل عليه كقائد سياسي، وإن كانت لا تنقصه الخبرة السياسية فإنه لا يمثل تنظيماً مؤثراً داخل العراق. أن سوء تمثيل العرب السنة في المجلس أصبح واضحاً ومحرجاً حتى لأعضاء آخرين داخل المجلس، اذ صرح محمود عثمان العضو الكردي في مجلس الحكم ل "الحياة" قبل نحو شهر "أنه من الحكمة توسيع مجلس الحكم حتى يضم فئات سنية عربية جديدة، بينهم القوميون العرب وأطراف إسلامية كتجمع العلماء السنة". وعلى العكس من ضعف التمثيل لدى السنة، يلاحظ أن الشيعة والأكراد يمثلون بأفراد وأحزاب لها قواعد شعبية عريضة وثقل وتجربة سياسية كبيرة. فقد انضمت هذه الأحزاب إلى المجلس بعد علاقة وطيدة مع الأميركان سبقت سقوط النظام العراق بسنوات عديدة، كما أن الأحزاب الشيعية استفادت من دعم إيراني ظل مستمراً لسنوات عديدة. أما الأحزاب الكردية فلها تجربة طويلة إدارية وسياسية في كردستان، وتمكنت من تكوين ثروات من برنامج النفط مقابل الغذاء إضافة إلى إيرادات الجمارك، ولدبها جيش متكامل وحماية أمريكية منذ سنوات عديدة. لذا كانت الأحزاب الشيعية والكردية جاهزة لبسط نفوذها في مناطق واسعة بعد سقوط النظام لدرجة أن حضورها القوي في بعض مناطق العراق شكّل تحدياً للعرب السنة الذين وجدوا أنفسهم بعد هزيمة وحل الجيش العراقي بين مطرقة التنظيمات الشيعية والكردية المسلحة وسندان قوات الاحتلال الأميركية والبريطانية. وزاد من إحباط كثير من العراقيين أن بعض التنظيمات الشيعية المسلحة أخذت على عاتقها القيام بدور شرطة الأخلاق، متأثرة بالبيئة التي نشأت عليها في إيران. ففي البصرة مثلاً فرضت الحجاب على النساء بمن فيهن المسيحيات. وانتشرت شعارات في بعض الجامعات مثل "أن امرأة غير محجبة هي امرأة فاسقة". وهوجم محلات يملكها مسيحيون "وتعرض الصابئة المندائيون، وهم أقلية تعيش في العراق منذ آلاف السنين، للاستهزاء وسجن بعضهم باعتبارهم من أتباع الشيطان". هذا ويشعر السنة في البصرة بالخوف من تدهور أكبر للحالة الأمنية، وبعض أفراد هذه المدينة من العرب السنة والذين كانوا قد تمكنوا من الخروج منها منذ سنوات عديدة إلى خارج العراق هرباً من بطش النظام وطلباً للعمل، يفكر بجدية في أن لا يعود إليها أبداً، لئلا يعيش وسط مأتم كبير. لا شك في أن الشعور بالغبن والإحباط لدى كثير من العراقيين والعرب السنة خصوصاً، يجهد الذهن للبحث عن مخارج لهذه الحالة التي ستعيق استقرار العراق وازدهاره. ويزيد من حال الإحباط هذه غياب أو ضعف حضور التنظيمات السياسية والاجتماعية التي تضم العراقيين بمجمل طوائفهم وأعراقهم. ومما يزيد في أزمة المجتمع العراقي هو ضعف فعالية النقابات المهنية وذلك لتفشي البطالة التي بلغت من الحدة إلى أن شكلت نقابة للعاطلين عن العمل، يبلغ أعضاؤها في بغداد فقط 62 ألف عضو. وذكرت الأنباء أن السنة في العراق يفكرون في تأسيس مرجعية إسلامية سنية موحدة على غرار المرجعيات الشيعية، هذا وأن فهمت ظروف دعوتها، إلا أنها ليست المسار الأفضل الذي يعول عليه لحشد جهود العرب السنة والعراقيين أجمع لإعادة التوازن السياسي في المجتمع العراقي. فالعراق بحاجة الى تنظيمات سياسية ترتقي نوعاً لا كماً وأن لا تستثني البعض وتثير عواطف البعض الآخر. إن البحث عن دور أكبر للعرب السنة في بناء العراق الجديد سياسياً واقتصادياً لا يعدو كونه بحثاً في إشراك جميع العراقيين، كل حسب كفاءته وتعليمه لا عرقه أو طائفته في العملية السياسية والاقتصادية. وجدير الإشارة به هنا أنه بحكم ارتفاع نسبة المتعلمين بين العرب السنة وانتماء نسبة أعلى منهم إلى الطبقة الوسطى، يجعل ذلك قدرتهم وحجم مساهمتهم في بناء العراق الجديد سياسياً وثقافياً واقتصادياً أكبر من نسبتهم من إجمالي تعداد السكان. إضافة إلى ذلك فإن رؤيتهم السياسية لمستقبل العراق ووعيهم القومي العربي يؤهلهم لاستعادة دورهم الوسيط بين العراقيين أنفسهم وبين العراق والعالم العربي. فعلى مستوى العراق، يشكل العرب السنة حلقة الوصل بين شماله وجنوبه، بين عربه وأكراده، حيث يرتبطون مع الشيعة بالعروبة والدين ويرتبطون مع الأكراد بالانتماء الطائفي، لذا فهم يتشاركون مع الشيعة برفضهم الفيديرالية العرقية التي يطالب بها الأكراد، ويتشاركون مع الأكراد في رفضهم لهيمنة الإسلام الشيعي على الحياة السياسية والاجتماعية في العراق. وعلى مستوى العالم العربي كانوا هم دائماً الأكثر تواصلاً وتعلقاً بهموم الشعوب العربية وطموحاته. فعسى أن تتوفر الأدوات الأفضل للعرب السنة لممارسة السياسة في بلدهم العراق. * كاتب وباحث من الكويت.