"أيها القوم... إن الجشع يحيط الآن العالم بدائرة من الحقد، الجشع جعلنا ندخل خفافاً في البؤس والدم. ولكن لا تيأسوا. فالطغاة الديكتاتوريون سينتهون، أما السلطة التي اغتصبوها فستعود الى الشعب. وطالما أن البشر يعرفون كيف يموتون ولماذا يموتون، لن تفنى الحرية أبداً. أيها الجنود، أنتم لستم آلات ولا قطعان ماشية، لذا كونوا من دون أصفاد. قاتلوا من أجل الحرية وباسم الديموقراطية فلنوحد صفوفنا جميعاً. ولنحارب من أجل عالم أفضل، من أجل عالم نظيف يعطي لكل انسان منا إمكانية أن يعمل". من يمكن أن يكون قائل هذا الكلام؟ جورج بوش؟ صدام حسين؟ أبداً... إنه هتلر، أو على الأقل هتلر كما صوره شارلي شابلن في فيلمه "الديكتاتور". بل بالأحرى، ليس هتلر على الإطلاق، بل بديله، الذي هو الحلاق اليهودي البائس الفقير الذي أُحل في الاجتماع النازي الكبير، محل هتلر. ومع هذا فإن هتلر لا يحمل في "الديكتاتور" اسمه الحقيقي، بل اسم كنكل. أما حليفه موسوليني فيحمل اسم نابولوني. وأما شابلن نفسه، وهو يلعب في الفيلم دورين، فإنه في دوره الآخر يعلب شخصية هنكل، إضافة الى لعبه دور كنكل. وهنكل وكنكل في الفيلم متشابهان متطابقان كتوأمين، مع فارق أساسي: أولهما هو ذلك الحلاق اليهودي، أما الثاني فالزعيم النازي الكبير. ولقد كان هذا هو الأسلوب الذي ارتآه شابلن صالحاً، منذ العام 1938، للتعبير عن موقفه من النازية ومن زعيمها، وذلك في وقت كان فيه كثر من الأميركيين يناصرون هتلر على رغم ما هو بيّن من استعداداته لغزو أوروبا وتدمير العالم. وهكذا، حين قرر شابلن أن يحقق فيلماً يسخر من زعيم النازية، وينبه العالم الى خطره، تعمّد - إضافة الى استخدامه أسماء مستعارة للشخصيات - أن يصور الفيلم وسط تكتم تام. ومع هذا ما إن انتشر الخبر، حتى راحت رسائل التهديد والاحتجاج تنهال على رأس شابلن آتية من التنظيمات الفاشية والنازية الأميركية، كما ان لجنة النشاطات المناهضة لأميركا استجوبت الفنان وعرقلت مساعيه. والحال أن فيلم شابلن كان الفيلم الأول والفيلم الوحيد الذي طلع ليهاجم النازية في الولاياتالمتحدة، ذلك أن الأميركيين وحتى كارثة بيرل هاربور لم يكونوا يرون أن الخطر النازي مسألة جدية بالنسبة إليهم: اعتبروها مسألة أوروبية لا تعنيهم. واعتبروا بالتالي أن كل من يحاول الخوض في الموضوع شيوعياً فوضوياً معادياً لأميركا. ومن هنا بدأ اضطهاد السلطات لشابلن. وبدأ أيضاً هجوم الصحافة الكبيرة والرأي العام عليه. لكن الرجل صمد جيداً وحقق فيلمه لينجزه في وقت كانت القوات الألمانية قد بدأت فيه غزو فرنسا. الموضوع في "الديكتاتور" بسيط وطريف، بساطة وطرافة معظم أفلام شابلن الأخرى. وهو كان، على أية حال، واحداً من الأفلام القليلة التي لا يمحورها شابلن من حول شخصية الشريد "شارلو". ومن هنا فإننا في الفيلم، وعلى مدى ساعتي عرضه، نتابع مسار حياة ومغامرات ذلك الحلاق الفقير، الذي يعيش في غيتو يهودي، بعدما كان فقد ذاكرته خلال الحرب العالمية الأولى. والحال أن احداث الفيلم تبدأ عند نهاية تلك الحرب، في مشهد شابليني رائع يرينا المجند هنكل وهو يتعامل مع مدفع "برتا" الضخم... ثم تمضي الأيام، ويتحول الجندي الى حلاق، يفيق ذات يوم من فقدان ذاكرته، وأوروبا أصبحت غير أوروبا، وها هو الزعيم كنكل يلهب الجماهير حماسة بعدما وصل الى السلطة، ويوصل العالم الى شفير الحرب. غير أن هذا كله، لا يثير اهتمام هنكل الحلاق في البداية، فهو منكب على عمله مغرم بحبيبته الحسناء. ولكن مع بدء اضطهاد النازيين لليهود، تبدأ المشكلات تتراكم في حياة هنكل، ثم يوضع في معسكر اعتقال مع مناضل ضد الفاشية. بعد ذلك فيما يكون الديكتاتور كنكل منهمكاً والبلد والشعب معه. في استقبال الديكتاتور الفاشي الآخر حليفه، يتمكن الحلاق من الهرب وقد تزيا هذا المرة بزي مناضل فاشي. ويعتقد النازيون أن من أمامهم زعيمهم نفسه، فيقتادونه الى الستاد الكبير حيث من المفترض أن يلقي الزعيم خطاباً صاخباً. وإذ يأخذ الحلاق البائس الكلام، وقد ارتدى هذه المرة ثياب الزعيم، حتى يلقي خطاباً يدعو العالم الى السلام والمحبة والأخوة، والى مقارعة الديكتاتورية والسعي الى الحرية والديموقراطية، وذلك وسط دهشة وذهول ألوف الحاضرين، ولا سيما معاوناه الأساسيان هيرنغ وغاربيش. كان هذا الفيلم الذي سيحقق، على رغم اضطهاد السلطات الأميركية له ولصاحبه، نجاحاً كبيراً، كان الموقف الذي اختار شارلي شابلن أن يقفه مما يحدث في أيامه. كان يعرف أنه يجازف مجازفة كبيرة بتحقيق فيلمه في بلد بالكاد يفرق أهله بين النازية والديموقراطية، وبالكاد تهتم سلطاته بما يحدث في أي مكان من العالم خارج حدود بلادها. كان موقفاً كونياً وراهناً من شابلن، من المؤكد أنه عاد ودُفّع ثمنه لاحقاً، وحتى من بعدما خاضت أميركا الحرب مع هتلر. والفيلم كلف في ذلك الحين مليوني دولار، ما كان يعتبر مبلغاً ضخماً قلما أنفق على فيلم من الأفلام. أما بالنسبة الى شابلن فإن ضخامة الفيلم ليست ما كان يهمه حقاً. كان همه أن يدخل تلك التفاصيل الصغيرة التي تسخر من الطغاة وتقول كم ان القضاء عليهم سهلاً لو أن ثمة إرادة لذلك. وهذا ما جعل "الديكتاتور" في المقام الأول فيلم تفاصيل صغيرة ومشاهد تكاد تكون مستقلة عن بعضها البعض. ولقد توقف الناقد الفرنسي جورج سادول الذي كان سباقاً في إبداء إعجابه بالفيلم وتوقع أن يعيش طويلاً ويعتبر مع مرور الوقت تحفة سينمائية استثنائية، عند أبرز تلك المشاهد، إضافة الى مشهد خطاب "هنكل" النهائي الذي يدوم عشرة دقائق كاملة. ومما توقف عنده سادول، مشهد المدفع في حرب 1918، ومشهد سفر هنكل بالطائرة، ثم خطاب كنكل بلغة غامضة لا يفهمها أحد هي اليديش في بعض الأحيان ولكن يصفق لها الجميع، ومشاهد أنصار كنكل وهم ينتحرون من أجله، ومشهد الحوار المبتذل بين الديكتاتوريين كنكل ونابولوني، ثم خصوصاً مشهد هنكل وهو يلهو ببالون عليه خريطة العالم، وما الى ذلك... وهي مشاهد لا تزال حتى اليوم محفورة بتفاصيلها في أذهان وذاكرة المتفرجين. فيلم "الديكتاتور" الذي عرض للمرة الأولى في العام 1940، كان واحداً من آخر الأفلام التي حققها شابلن خلال مساره الفني الطويل على رغم انه عاش من بعده ما يقرب من أربعة عقود، إذ انه لم يحقق بعده سوى "مسيو فيردو" و"أضواء المسرح" و"ملك في نيويورك" وأخيراً "كونتيسة من نيويورك" في العام 1966، وهي كلها أفلام ابتعد فيها شابلن عن شخصيته المعهودة "شارلو" حتى وإن كان قد أبقى على ملامح الحلاق اليهودي، سمات عدة من سمات المتشرد الشهير، انطلاقاً مما كان قاله هو نفسه، منذ ظهور هتلر، من أن هذا يقلده بالأحرى. وشابلن، الذي ولد 4 أيام "قبل مولد هتلر" بحسب تعبيره هو نفسه، أي يوم 16 نيسان ابريل 1889، فنان مسرح وميوزكهول انكليزي الأصل، انتقل في صباه الى الولاياتالمتحدة إذ سرعان ما انخرط في سينماها الصامتة، ليصبح خلال سنوات واحداً من أكبر فناني السينما في العالم. وهو حقق طوال مساره، وكتب ومثل، وكتب موسيقى عشرات الأفلام الطويلة والقصيرة، والصامتة غالباً، التي لا تزال تعتبر تحف فنية ومنها الى ما ذكرنا "البحث عن الذهب" و"الأزمان الحديثة" و"الصبي" و"السيرك" و"أضواء المدينة"...