يبدو التلفزيون في أيام الحرب البشعة على العراق كالنافذة التي تعبرها رياح الفضائيات من كل مكان، فلا مجال لإغلاق الشاشة وتلافي هذا الكم الهائل من الأخبار، أو التعامل بعقلانية مع تلك الفضائيات التي تشعرنا وجوه مراسليها الحزينة وصور القتلى والجرحى بالدوار وارتفاع الضغط. "سقى الله أيام زمان، أيام كانت الحرب تصير عالساكت، نسمع بعض التعليقات والإنذارات، ولا نحس إلا والصاروخ ينفجر"، هذا الكلام سمعته عشرات المرات، بل إن إحدى المسنات قالت: "حرب 1967 وحرب 1973 كانتا عالراديو، سبحان الله السنة التي يكون فيها حرب عالعرب يكون الموسم فيها تمام والمطر غزير، والحمد لله لأن العرب لا يستطيعون تحمل غضب السماء و غضب أميركا معاً". لكن الوضع مختلف حالياً، والحرب صارت في البيوت وعلى التلفزيونات، فقد نجحت الفضائيات ومنذ الساعة الأولى للحرب على العراق في تعميم حال الذعر والقلق وصارت الحرب بالإجمال كائناً قائماً يدخل في حسابات الأحداث اليومية والنشاطات الاعتيادية للأفراد. ففي المقاهي والملاهي يصادفك الكثير من الشباب والصبايا يرقصون و يشربون، وفي الطرقات يتابع الباعة الجوالون وسائقو الحافلات والتاكسيات وأصحاب المحال نشاطهم اليومي، لكن أجواء الحرب تخيم على ساعات النهار والاهتمام بتطورات الأحداث لم يعد فضولاً أبداً. ولم تعد الجلسة أمام التلفزيونات نوعاً من الترفيه والتسلية، فمع تصاعد الأحداث صارت العائلات تعيش حال طوارئ غير معلنة، تؤجل بعض المناسبات العائلية والاجتماعية لتوفير ما تيسر من مال للأيام الصعبة. حتى ان نوع الطبخ تغير وكذلك مواعيد الاستيقاظ والطعام. فإلى غرفة الجلوس صارت تنتقل النشاطات كافة كتقشير الفواكه وتحضير الطبخ وغسيل الملابس حتى حمام الأطفال والكثير من الاستقبالات، وقد تكررت أمامي ظاهرة نقل التلفزيون من مكان الى مكان لتظل الأسرة بكامل أفرادها جاهزة للتلقي. بل إن أحد الزملاء أخبرني أن التلفاز لم يعد يصلح أبداً للتواجد في غرف نوم الأزواج، فالصواريخ والقنابل العنقودية تقض مضاجعهم كما تقض مضاجع الجميع في البصرة وبغداد. التغطية الإعلامية لهذه الحرب البشعة مميزة ومنافسة، لكنها بشهادة الكثيرين أمر لا تستحق عليه الكثير من الفضائيات وفي الكثير من الأحيان الشكر والامتنان، فخلال ساعة واحدة يقفز جهاز التحكم ما بين المحطات كافة، وتعبر إلى عيون العائلة بأكملها وأذانها عشرات الأخبار المتناقضة والمتوافقة وعشرات الصور المقززة، فالحرب في العراق انتهاك بانتهاك وهي كذلك على التلفزيونات. فالفضائيات تبدو كما لو أنها في مباراة لانتقاء الصور ذات الوجوه والصدور الأكثر تمزيقاً، أما المشاهدون فيبدون وكأنهم يتوسلون المزيد من الأخبار والصور. والقصص التي أشيعت حول الحرب جعلت الجميع يتوقع حدوث الكثير من الامور في يوم واحد، وحال الانتظار هذه جعلت الكثير من الأسر في حال من الترقب والتأمل، وصارت الحرب في نظرهم هماً يضاف إلى كل ما لديهم من عوامل البؤس والشقاء. وأمام الشاشة تبكي الكثير من الأمهات وترتفع الحرارة في عروق الأبناء، وقد تصير سهرة الام خلف باب الدار أطول بانتظار ابنها الشاب ريثما يفرغ من التظاهرات، فتطمئن إليه. التظاهرات صارت في بعض المدن وخصوصاً في دمشق نشاطاً يومياً، أما تغيير خط السير إلى طرق فرعية بسببها فهو يضاعف توتر أصحاب الميكروباصات وراكبيها على حد سواء، ومع هذا الانفعال تسمع من الركاب الكثير من التعليقات والأخبار القديمة والجديدة والإشاعات عما يجري في العراق، وعن أسطورة الجيش العراقي وغباء الاميركان، وأحيانا الهتاف والسباب بل الكثير من مفردات الوزراء العراقيين وتعابيرهم المميزة. ومن اللافت للنظر قيام الكثير من المقاهي والمطاعم والملاهي في دمشق وعلى اختلاف درجاتها بتخصيص مكان للتلفزيون ليتمكن مرتادو هذه المطاعم من متابعة الأخبار. وإلى المدارس الابتدائية كما الإعدادية والثانوية انتقلت صور الحرب التلفزيونية و تعابيرها الاستثنائية، وصارت الحرب على العراق عنواناً عريضاً للكثير من مواضيع التعبير والرسم الإضافية. أما صور الجنود الاميركيين أثناء الحرب فهي تبدو تماماً كما لو أنها لعبة إلكترونية، وان لم يكن تتبع سلوك الأبناء من عادات معظم الآباء والأمهات لدينا، إلا أن الكثيرين لمسوا تزايداً في مقدار العنف والضرب والرغبة في تقليد ما يجرى على شاشات التلفزيونات. حتى أن مفردات الحرب وأدواتها انتقلت إلى أماكن لعب الأطفال في الحارات والحدائق. أما التحكم في ما تبثه الشاشات فيبدو أمراً مستحيلاً وتخمين المشاهد المقبلة أمراً غير متوقع. حتى أن بعض القنوات توقف بث برامج الأطفال لإذاعة أنباء عاجلة عن المعارك الدائرة في العراق وصور الضحايا في المستشفيات من دون سابق تحذير أو إنذار، ليتحمل الطفل المزيد من الإرهاق النفسي الذي يوصله إلى حالات التوتر والعنف. و كعادتهم يسأل الأطفال عن كل شيء، عن الكثير من المصطلحات مثل صدام الحضارات ونهاية العالم والجهاد والعلوج والعكاريت والخاسئون، وهنا يسكت الكثير من الآباء والأمهات عن الإجابات التي لا يعرفون معظمها، وتتفاقم حال عدم ثقة الأبناء بآبائهم وأمهاتهم كمرجع للمعلومات.