البزنس حتماً مربح. والفوائد من دون شك لا تعد أو تحصى إلا بمساعدة ماكينة العد الموجودة في البنك. والأصداء تظل تتردد من دون هوادة. أما الرأي العام وآثار القيل والقال وكل ما من شأنه أن ينزل وبالاً أو يحط خراباً على رؤوس الجميع فلا محل له من الإعراب على الشاشات، على الأقل لحين يصل الخراب إلى باب القناة. قنوات تلفزيونية باتت أشبه بدور السينما «درجة ثالثة». تعرض مادة ترفع شعار «الجمهور عاوز كده» على رغم أن ذلك ليس صحيحاً بالضرورة. تستعين ب «نجوم شباك» معروف عنهم قدرتهم على جذب الجمهور والأقوى في تأمين العدد الأكبر منه وإن لم يكن ذلك لفترات طويلة. فهذه سمة «نجوم الشباك». «نجوم شباك» الفضائيات هذه الأيام – وما سبقها من أيام وما سيتلوها لحين إشعار آخر- هم المتفوهون بفتاوى مثيرة للجدل أو النقاش أو الاختلاف، بل مثيرة لتأجيج النيران وتوليع المشاعر واحتقان الجميع بين مؤيد تأييداً شديداً ورافض رفضاً رشيداً. مرحلة الرشد المرجوة في اختيار البرامج التلفزيونية لمحتواها تحوم في مكان ما بعيداً من الإستوديوات وعلى مقربة من الهيئات الحكومية والكيانات الرسمية التي تعتبر تحقيق الرشد مسؤوليتها بحكم الوظيفة. وظيفة الإعداد التي قلما يدرجها أحد باعتبارها العقل المدبر والتكتيك المحرك لكثير من المفرقعات المدوية التي تصدر عن الشاشات مساء كل ليلة، تقف اليوم لا حول لها أو قوة في ما هو مثار حول ما تنضح به الشاشات. وفي الأيام القليلة الماضية اشتعلت نيران مضاجعة الزوجة بعد وفاتها عبر أثير التلفزيون. نطق العالم «الجليل» أستاذ الأزهر العتيق وليته ما نطق. نطق أستاذ الفقه المقارن بما كان ينبغي أن يصنف 118+ وليس 18+. فالإنسان السوي الذي يجلس أمام الشاشة الفضية مساء ليلم بأخبار الوطن والعالم مع قليل من الترفيه وبعض من التحليل، حتماً سيصيبه الدوار حين يجد «عالماً» في الدين «يطمئنه» بأنه «يجوز مضاجعة زوجته بعد وفاتها». «مضاجعة الوداع» التي نزلت على رؤوس الملايين نزولاً مدوياً فجرت ينابيع الإثارة وأججت مكامن العجب تارة والغضب تارة والدوار دائماً. ف «مضاجعة الوداع» التي أخرجها العالم على ما يبدو من ينابيع التراث لم يكن لها محل من التعليل أو التحليل في هذا الوقت تحديداً. فقد هل العالم على جموع المشاهدين ينبئهم بأن من ماتت زوجته وأراد أن يودعها فلا مانع شرعاً من مضاجعتها على سبيل الوداع. وقد أودعت الآلاف من المشاهدين رابط فيديو لمشاهدة هذا الجزء العجيب من اللقاء الذي جاء في برنامج «ديني» اعتاد الترحال من قناة إلى أخرى حتى استقر في قناة «إل تي سي» التي لا تحظى بنسب مشاهدة مرتفعة مقارنة بقريناتها من الفضائيات المصرية الخاصة. ومن منطلق الحاضر يعلم الغائب، قام «يوتيوب» بالمهمة على أكمل وجه. وبدلاً من مشاهدة مليونين أو ثلاثة ملايين للحلقة المذاعة على الهواء مباشرة، حققت الحلقة في الإعادة أضعافاً مضاعفة، وذلك استجابة لنداء تدوينات «فايسبوك» الصداحة وتلبية لتغريدات «تويتر» الرنانة». وفي الأيام التالية حققت الفقرة ما يحلم به كل مذيع ومذيعة «توك شو» في عصر السماوات المفتوحة والفضائيات المجروحة. أصبحت سيرة برنامج «عم يتساءلون» على كل لسان. وعلى رغم أن صاحب الرأي حول مضاجعة الزوجة الميتة الدكتور صبري عبدالرؤوف قال إنها (المضاجعة) أمر شاذ، لكنه لا يندرج تحت بند الزنا، إلا أن الدنيا قامت ولم تقعد بعد. وزاد عبدالروؤف طين مضاجعة الزوجة الميتة بلة مطالبة «ولي الأمر تعزيز الزوج إن فعل ذلك»! وبينما ذلك لم يبرد بعد في مجتمعات وجدت في الفتاوى الجنسية التلفزيونية والأحاديث التي ظاهرها دين وباطنها أبعد ما يكون عن أي دين على الفضائيات ومنها إلى وسائل التواصل الاجتماعي ملاذاً تارة ومهرباً تارة وملهاة دائماً، دق البرنامج على حديد الشعبية وهو ساخن. سخونة الحديد استعرت بخروج أستاذة الفقه المقارن أيضاً ونجمة الفضائيات الدكتورة سعاد صالح لتتحدث عن مضاجعة البهائم. وعلى رغم أن صالح استهلت حديثها بما بدا وكأنه إصلاح للشرخ الذي أحدثه زميلها في مجتمعات تعاني شروخاً اجتماعية وسلوكية وأخلاقية وازدواجية عدة، اذ قالت إنه لا يجوز للزوج أن يضاجع زوجته بعد وفاتها لأنه بالوفاة تنقطع العلاقات الإنسانية، وأن الزوجة بموتها أصبح لها حرمة، إلا أن بعضهم رأى في الاستمرار في تقليب مياه الفتاوى المريبة في وقت عجيب غريب، أمراً عجيباً غريباً مريباً. لكن الريب حان بتطرق أستاذة الفقه المقارن إلى مضاجعة أخرى، ألا وهي مضاجعة البهائم. وعلى رغم أنها نعتت مثل هذه المضاجعات ب «الغرابة»، فإنها أكدت أن بعض الفقهاء أباحها. وبين هذه وتلك، وجد المصريون وقطاعات عريضة من المشاهدين في دول عربية أنفسهم أسرى لفتاوى تصنف تحت بند «فتاوى رفع نسب المشاهدة» أو «زيادة أرباح الإعلانات» أو «تحسين تصنيف المشاهدة». وعلى رغم أنها ليست صرعة جديدة، أو هجمة فريدة، فإن استمرار ظهورها وفرض نفسها على المجتمعات العربية التي تعاني اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً ومعيشياً أمر يستحق التحليل. وقد سار جانب من التحليل في حيز التعليل. نقابة الإعلاميين أصدرت قراراً بوقف مذيع البرنامج أحمد عبدون بسبب ما تناوله برنامجه عن مضاجعة الميتة، وهو القرار الذي اعترض عليه عبدون بقوله إن الفتوى موجودة في كتب الفقه، ومنع البرنامج أو وقف المذيع لن يزيل الفتوى والرأي من الكتب والمراجع. ومن الكتب والمراجع ينهل المعدون ويوافق المذيعون وربما يسعد المالكون بما ينتج منه ذلك من نسب مشاهدة عالية وجدل شعبي وتوسع جغرافي كبير لهذا البرنامج أو ذاك. لكن الآثار المجتمعية تظل بعيدة عن الاهتمام وغير خاضعة للقلق أو الاتهام. تشكيل الوجدان الشعبي وتوجيه الرأي العام وتحديد مسار الأمم – بخاصة في عالم ثالث غارق في حروب أشبه بحروب القرون الوسطى- لا يشغل حيزاً كبيراً (وربما لا يشغل حيزاً من الأصل) في أدمغة القائمين على الرأي العام. وقرارات اختيار محتوى البرامج وأفكار الفقرات وتوجهات القضايا المطروحة متروكة على ما يبدو في أياد تعكس أولويات محددة، هي على الأرجح تختلف عن أولويات نهضة الأمم. هذه النهضة لن تتحقق كذلك بفرض الوصاية على القنوات أو عودة الرقابة على المحتويات أو تعيين جهة ما شرطة أخلاقية هنا أو مراقباً سلوكياً هناك. المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام يطرح نفسه بين الحين والآخر وصياً على الفكر الإعلامي وراعياً للتوجه الفضائي، وهو أمر لو يعلم الإعلاميون خطير. رئيس المجلس الكاتب الصحافي المخضرم السيد مكرم محمد أحمد قال في بيان قبل أيام إن «المجلس سيطارد كل قنوات تحت السلم»، وأنه «سيبحث بكل السبل طرق إيقافها على المستوى المحلي والإقليمي والدولي». ومضى المجلس متوغلاً في العقوبات، وقال إنه نظراً لما قام به بعض الفضائيات من عرض لفتاوى دينية تتنافى مع الذوق العام ومع الدين الإسلامي، فإنه تقرر منع ظهور الدكتور صبري عبدالرؤوف على القنوات التلفزيونية. ولكن يشار إلى أن غرف الجلوس لا تبث فقط ما تذيعه القنوات المصرية. كما أن حجب هذه القناة أو تلك يمكن خرقه عبر التقنيات الحديثة. ويبقى السؤال مطروحاً حول أخلاقيات العمل التلفزيوني ومدونات السلوك والخيط الرفيع بين نضج القنوات وبحثها عن الربح والشعبية والانتشار والزج بنفسها تحت بند «الأكثر مشاهدة». كما يبقى حال العالم العربي معلقاً بين سماء القرن ال21 حيث العلم والبحث والتقدم وأرض القرن الذي حبس نفسه فيه حيث مضاجعة الموتى ومعاشرة البهائم وإعادة تدويرها كلما خفت نجم هذه القناة أو فترت شعبية هذا المذيع في فضائيات مغلقة في عصر السموات المفتوحة.