لدى إيران ما يدعو إلى الاحتفال. ولديها ما يبرر القلق. احتفالها بغياب الدّ أعدائها تنغّصه ظروف سقوطه ورؤية القوات التي أطاحته ترابط على حدودها. باستطاعة قادة الثورة الإيرانية عقد مقارنة بين الساعة الحاضرة على المسرح العراقي والأحداث الكبرى على المسرحين العراقيوالإيراني في سنة 1979 وهي سنة استثنائية في حياة البلدين. في شباط فبراير من تلك السنة وبعدما تجرع شاه إيران كأس المرارات وغادر، عاد الإمام الخميني. انتصرت "الثورة الإسلامية" وبدا للوهلة الأولى أن الدوي الوافد من انتصارها سيخترق الحدود الدولية من دون استئذان أحد. اضطربت أميركا وقلق الاتحاد السوفياتي على جمهورياته الآسيوية وارتبكت دول المنطقة بتطاير شرارات النار قرب الآبار. لن تكون السنة العراقية عادية. لم يفعل صدام حسين كل ما فعل ليدخل التاريخ تحت عنوان "السيد النائب". في 16 تموز يوليو انحنى أحمد حسن البكر لإرادرة الرجل الثاني. لقب الرئيس السابق أفضل من لقب الرئيس الراحل. بدأ صدام حسين عهده في الرئاسة وعينه على الزلزال الإيراني. لن يغفر للخميني كلامه على "البعث" الكافر وبعد ما يزيد على العام ستندلع "قادسية صدام". الثورات معهد الافراط. ذهب الإيرانيون بعيداً. في 4 تشرين الثاني نوفمبر كان المشهد غير عادي. تحول الأميركيون رهائن في سفارة بلدهم في طهران. راح العالم يتفرج على اذلال "الشيطان الأكبر". بدت الولاياتالمتحدة رهينة في يد الطلبة الذين استعذبوا اهانتها على مدى 444 يوماً. ردت أميركا العميقة بانتخاب رونالد ريغان الذي دخل البيت الأبيض حاملاً مشروع قوة وضع الأسس لدحر "امبراطورية الشر". وفي الثمانينات اقتيد الأميركيون والغربيون في بيروت إلى "أقفاص صغيرة" حجزت حريتهم لتحتجز قرار بلدانهم وتستدرجها إلى الأقفاص. لدى إيران ما يدعوها إلى الاحتفال. لم يعاقب أحد ثورة الخميني كما عاقبها صدام. دفعها إلى داخل حدودها واستنزفها وناب عن "النظام الدولي" في تحجيمها وشطب مخاطرها. لكن الاحتفال نفسه يطرح علامات استفهام. غياب صدام وأجهزته يضع قم مجدداً أمام عودة النجف ومرجعياتها. وانضواء الشيعة العراقيين في نظام لا يحرمهم حقوقهم يبطل الحاجة إلى إيران كملجأ أو سند. وخروج العراق من عزلته العربية والدولية وبعلاقات قوية مع الولاياتالمتحدة يشكل رسالة لإيران وتركيا معاً. ولدى إيران ما يدعوها إلى القلق. فأميركا جورج بوش الإبن تختلف تماماً عن أميركا جيمي كارتر. وبين الصورتين لجوء الاتحاد السوفياتي إلى التاريخ وولادة أميركا أخرى من ركام هجمات 11 أيلول سبتمبر. لم تعد أميركا بعيدة. صارت موجودة تقريباً في كل مكان بحراً وجواً وبراً في الجمهوريات الآسيوية السوفياتية سابقاً فضلاً عن الساحتين الأفغانية والعراقية. لم تعد أميركا تبحث عن وسطاء لاطلاق مواطنيها المحتجزين في طهران أو بيروت. استعاد "الشيطان الأكبر" أظافره وأسنانه. ادرج إيران في "محور الشر" وها هو يطالبها بكشف حساب حول ترسانتها وعلاقتها ب"الإرهاب". يطالبها بالعودة دولة عادية تصدر البضائع لا الثورة وتوفد إلى العالم الديبلوماسيين ورجال الأعمال بدلاً من "الحرس الثوري". ما أبعد المسافة بين تواريخ 1979 ورؤية رامسفيلد يجوب المنطقة تاركاً للمؤرخين والخبراء مهمة دراسة الخطة التي أودت بنظام صدام حسين. إنها حقائق جديدة قاسية وباردة أمام القيادة الإيرانية بشقيها المحافظ والإصلاحي. فقد بات لإيران جار جديد صعب اسمه القوة العظمى الوحيدة أو "الشيطان الأكبر".