لم يفعل الرئيس الأميركي جيمي كارتر أثناء الثورة الإيرانية 1978- 1979 ما فعل الرئيس دوايت أيزنهاور حين ساند في صيف 1953 انقلاب الجنرال زاهدي على رئيس الوزراء محمد مصدق وهو ما ساهم في استقرار الأوضاع لشاه إيران. خلال إقامة آية الله الخميني في باريس، بعد إبعاد صدام حسين إياه من العراق في تشرين الأول (أكتوبر) 1978، تحولت العاصمة الفرنسية إلى مركز قيادة للثورة الإيرانية تحت نظر واشنطن الصامتة. بعد تولي الخميني السلطة في 11 شباط (فبراير) 1979، كان هناك اثنان عبّرا عن توجّسهما علناً: ليونيد بريجنيف وصدام حسين. كان الأخير قلقاً من المدّ الخميني إلى بلاد الرافدين حيث الأكثرية الشيعية في ظل سيطرة السنّة العرب على السلطة منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921. فيما الأول كان يفكّر بالجمهوريات الإسلامية السوفياتية الخمس وفي أفغانستان حيث يحكم الشيوعيون منذ انقلاب 27 نيسان (أبريل) 1978. وجّه الخميني في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) 1979 النار نحو واشنطن من خلال احتلال السفارة الأميركية بطهران وأخذ دبلوماسييها رهائن. لم يكن هذا متوقعاً على رغم تصريحات الخميني السابقة عن «الشيطان الأكبر- الولاياتالمتحدة» و «الشيطان الأصغر- الاتحاد السوفياتي». عندما سأله محمد حسنين هيكل حين زاره في الضاحية الباريسية عن كيفية مواجهته الدولتين العظميين وهما تملكان القنبلة النووية أجابه الخميني: «هناك قنبلة نووية اسمها الإسلام». وقفت واشنطن على مسافة متساوية من طرفي الحرب العراقية- الإيرانية، وفي التسعينات في عهد كلينتون تبنّت سياسة «الاحتواء المزدوج للعراق وإيران»، ثم تخلت عنها عقب (11 أيلول/ سبتمبر 2001) لمصلحة تحالف واشنطن مع طهران في الغزوتين الأميركيتين لأفغانستانوالعراق. عملياً قاد سقوط صدام حسين، الذي سمّى العراق «حارس البوابة الشرقية للوطن العربي»، وما قاد إليه من نفوذ لطهران في بغداد إلى التمدُّد الإيراني الإقليمي في المنطقة، بحيث لم يكن بعيداً عن الوقائع قول الجنرال رحيم صفوي، القائد السابق ل «الحرس الثوري الإيراني»: إيران هي الدولة الإقليمية العظمى. دخل الرئيس جورج بوش الابن، الذي قاد تحالفه مع طهران ضد صدام حسين إلى تقوية إيران في المحصلة الأخيرة وليس مهماً هنا إدراك أو عدم إدراك صانعي القرار الأميركي لليوم التالي ل 9 نيسان 2003، في صدام مع طهران منذ آب (أغسطس) 2005 حين استأنف الإيرانيون برنامج تخصيب اليورانيوم مستغلين قوتهم الإقليمية الجديدة. حتى خروج الرئيس بوش الابن من البيت الأبيض في الشهر الأول من عام 2009، عاشت المنطقة على وقع الصدام الأميركي- الإيراني، بما فيها تقرُّب واشنطن من أنقرة والرياض اللتين فضلت واشنطنإيران عليهما في العراق المغزو والمحتل. كان رأي الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما، الذي دخل مفاوضات سرية مع الإيرانيين في مدينة مسقط منذ أيار (مايو) 2009، هو الدخول في صفقة تبادلية مع طهران تقوم على المعادلة التالية: «تفكيك البرنامج النووي الإيراني مقابل القبول الأميركي بالواقع الإيراني في إقليم الشرق الأوسط». كان سلاح أوباما في المفاوضات هو «العقوبات الاقتصادية الأميركية على إيران» وكان سلاح علي خامنئي هو «الجنرال قاسم سليماني قائد العمليات الخارجية في الحرس الثوري الإيراني». من هنا يمكن تفسير عدم استغلال أميركا «الثورة الخضراء» التي هزت أركان السلطة في طهران في حزيران (يونيو) 2009، والاتجاه الأميركي الانسحابي من المنطقة بما فيه الصمت الأميركي المشجع على سقوط صنعاء بيد الحوثيين الموالين لطهران في أيلول (سبتمبر) 2014، وعدم الصدام الأميركي مع الإيرانيين في عموم بؤر المنطقة المشتعلة. عملياً كان هذا هو المعنى العملي الجوهري لاتفاق فيينا في 14 تموز (يوليو) 2015 حول البرنامج النووي الإيراني الذي سمي (اتفاق 5+ 1). كان رأي اليمين الأميركي مناقضاً ومضاداً لاتفاق أوباما مع خامنئي، ولكن هذا الرأي لم يركّز على التفاصيل التقنية الخاصة ببنود اتفاق فيينا الخاصة بالبرنامج النووي الإيراني وإنما على «روحية الاتفاق»، وهو تعبير استخدمه الرئيس دونالد ترامب في خطاب 13 تشرين الأول (أكتوبر) 2017 الذي أعلن فيه عدم التصديق الدوري من قبله على اتفاق فيينا، هذه الروحية التي عنت القبول الأميركي الضمني بالتمدُّد الإيراني الإقليمي الذي يرى كل حلفاء واشنطن التقليديين بالمنطقة أنه على حساب مصالحهم أو أنه يشكل خطراً عليهم. لم يكن رأي اليمينيين الأميركيين، وهم ليسوا فقط في الحزب الجمهوري، يتعلق فقط بالحلفاء وإنما بالنظرة إلى المنطقة التي انبنت منذ «مشروع أيزنهاور» عام 1957 على نظرة أميركية تريد ملء فراغ القوة البريطانية- الفرنسية الآفلة عبر انفراد أميركي بالمنطقة لم تقبل من خلاله لا بالمنافسة السوفياتية ولا بقوة إقليمية مستقلة (عبد الناصر، مثلاً)، ولا حتى بإزعاجات موضعية من حلفاء إقليميين مثل محاولة رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن معارضة «مشروع ريغان» عام 1982 الذي طرحه الرئيس الأميركي لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي في اليوم التالي لخروج ياسر عرفات من بيروت. خلال تسعة أشهر من عمر إدارة ترامب، هناك اتجاه أميركي صريح نحو سياسة «إيران أولاً» كما طرح جورج بوش الابن سياسة «العراق أولاً» عقب «11 سبتمبر». على الأرجح لن تؤدي هذه السياسة إلى صدام عسكري بين واشنطنوطهران، ولكن، كما يظهر في الأشهر الماضية، هناك أساليب أميركية أخرى لتحجيم إيران: شق الصف الشيعي في العراق من خلال إبعاد حيدر العبادي ومقتدى الصدر وعمار الحكيم عن طهران -سياسة أميركية جديدة للانخراط السياسي والعسكري في المطبخ العراقي- والضغط على روسيا لتحجيم نفوذ إيران في سورية -التحالف مع الأكراد السوريين في شرق الفرات- والانخراط الأميركي في التحالف الدولي والعربي ضد الحوثيين في اليمن بخلاف لامبالاة أوباما والضغط على نتانياهو من أجل القبول بتسوية على أساس «حل الدولتين» لمنع إيران من استغلال الوضع المتأزم في المنطقة التي تظل القضية الفلسطينية بؤرة اشتعالها الأكثر قوة. كانت النقلة الأميركية الأكبر في رقعة الشطرنج الشرق أوسطية هو ما جرى في أيار (مايو) 2017 أثناء زيارة ترامب السعودية وما طُرح من مشروع لإنشاء «تحالف دولي- إقليمي» لإنشاء منظومة عسكرية- أمنية على امتداد المنطقة الممتدة من باكستان إلى المغرب لتشكيل حلف جديد تمكن تسميته «ناتو شرق أوسطي» على غرار حلف الأطلسي الذي يمتد الآن من المحيط الأطلسي إلى البحر الأسود وبحر البلطيق. كان التقارب الأميركي- الخليجي عنواناً لطي صفحة التوتر الخليجي- الأميركي في عهد أوباما، وعنواناً لبدء عملية تحجيم النفوذ الإيراني الإقليمي. هنا، وعلى الأرجح، كان تشجيع أوساط غربية على شاطئي الأطلسي لمسعود بارزاني في استفتاء 25 أيلول 2017، ليس ربما من أجل إنشاء «خرائط جديدة» ولكن من أجل قلقلة المركب الإيراني في وادي الرافدين. لم تنجح العملية ولم تؤت ثمارها. ولم يكن صدفة أن تأتي «عملية كركوك»، التي على الأرجح كانت بضغط من طهران على بغداد، لتكون أول رد نار إيراني بعد ثلاثة أيام من بدء إطلاق النار الأميركي المباشر على طهران في خطاب ترامب في 13 تشرين الأول 2017. * كاتب سوري