من حق سورية ان تراهن على تعديل الموقف العربي من العدوان الاميركي على العراق. بل أكثر من ذلك فإن سياق الأحداث أثبت صحة تلك المراهنة، ولو ان هذا التعديل ما زال خجولاً، خصوصاً انه لم يقترن بموقف عملي او يترجم الى خطوات واضحة. والنتيجة التي انتهى اليها مؤتمر وزراء الخارجية العرب الاثنين الماضي في القاهرة دليل الى ذلك، لمجرد انه انتهى الى ادانة الحرب التي تخوضها اميركا واعتبارها عدواناً، والدعوة الى وقفها، والتحرك في اتجاه مجلس الأمن الدولي والساحة الدولية لتمتين التحالف الدولي المناهض لاستخدام واشنطن قوتها الهائلة من اجل اذلال شعوب بأكملها، وتحجيم قوى كبرى وصنع تاريخ جديد على انقاض تحالفات تاريخية مع دول "قديمة" كبرى. وما من شك في ان المقاومة العراقية للغزو الاميركي، انعشت الموقف السياسي السوري الذي لقي صعوبات في الاشهر الماضية، في اقناع دول عربية عدة في اتخاذ موقف الممانعة امام الاندفاعة الاميركية العمياء نحو إعادة صوغ الشرق الاوسط والانقلاب على طبيعة العلاقات الدولية وتهميش الأممالمتحدة اذا رفضت دولها سياسة الالتحاق بلا مناقشة. لكن على المرء ان يتصور بعد ان بدأت الحرب فعلياً وعلى الارض، كيف فكّر بعض القادة العرب بما سيليها من استهداف محتمل، من الاميركيين انفسهم، لدولهم وأنظمة حكمهم وأدوارهم وامتيازاتهم. فالأمر لم يعد مجرد نظريات يطلقها الصقور في الادارة الاميركية، والمحافظون الجدد المرتبطون باللوبي الاسرائيلي الليكودي المتطرف، عن التغييرات التي سيسعون اليها في دول محيطة بالعراق بعد احتلاله. ففي مرحلة التحضير للحرب كانت وزارة الخارجية والبيت الأبيض أحياناً تنفي صحة تلك النظريات لقادة تلك الدول من اجل ضمان تأييدهم او تعاونهم او تحييدهم. أما الآن فإن هذه النظريات بدأت تخضع للتطبيق الميداني، امام أعين هؤلاء البعض وعلى مقربة منهم... ومع ذلك، فإن على المرء ألا يتوقع حصول هذا التعديل في موقف بعض القادة العرب سريعاً، بل ان هذا التعديل يحتاج الى عمل دؤوب طويل النفس، وستتحكم به عوامل كثيرة... منها الضغط الأميركي المتواصل والزيارات المفاجئة لمساعد وزير الخارجية الاميركية وليام بيرنز او غيره الى المنطقة قبل كل لقاء او اجتماع عربي، للحؤول دون اي بوادر تعديل. فحكام واشنطن يطبقون قاعدة "إما معنا أو ضدنا"، حتى في المواقف "اللفظية" للدول الأخرى. لقد حاكم بعض المسؤولين العرب موقف سورية، وحتى البيان الأخير لوزراء الخارجية العرب على انه مزايدة لارضاء المواطن العربي، وان الواقعية تفترض السعي الى مواقف تتجاوز لغة دمشق وبيان الوزراء، باعتبارها لغة قديمة "لا تأخذ في الاعتبار المتغيرات"... وواقع الأمر ان دمشق لا تخفي ان موقفها ينسجم مع ما يأمله المواطن العربي من القادة العرب، حتى ان الرئيس بشار الأسد اعتبر ان تقويم موقفه يتحدد "من خلال قبوله من المواطنين او رفضهم له"، في حديثه أمس لجريدة "السفير". وبالتالي لم يعد وصم أي موقف سياسي بأنه لارضاء المواطن العربي تهمة. فثمة دول تضطر لاعتماد مواقف حيادية او مهادنة لواشنطن، دفعها عدم تجاهل مشاعر مواطنيها ومواقفهم الى وضع حدود واضحة وصارمة لتعاونها مع العدوان الاميركي... ومع ان منطق "الواقعية" يكاد يصبح قديماً وخشبياً هو الآخر، فلا بأس من محاكمة الموقف السوري على أساسه: كيف يمكن عاقلاً ان يطلب الى سورية ان تتصرف باطمئنان أو تشيح نظرها الى أن جارها العراقي سيصبح بين ليلة وضحاها، اميركياً - اسرائيلياً ما دام صديق شارون جاي غارنر سيكون الحاكم المدني للعراق وليس "عربياً"، على حدودها الشرقية - الشمالية التي يبلغ طولها 600 كلم، إضافة الى الجار الاسرائيلي في الجولان على حدودها الجنوبية التي يبلغ طولها 70 كلم؟ ثم الا تقتضي الواقعية ايضاً ان نلاحظ ان لغة دمشق لم "تخوّن" أياً من العرب على رغم الخلافات الواسعة القائمة حتى الآن بين بعضهم وبينها؟ ومع دعوة دمشق الى مقاومة احتلال العراق أليس لافتاً ان تفضل انتظار ما سينجم عن مقاومة العراقيين له؟ ان بعض "التوتر" العربي، في مواجهة الممانعة السورية "الهادئة" غير مبرر.