صدمة بغداد أظهرت في مقدم الصورة مواصفات غريبة للديكتاتور العراقي ووطأته على الانسان وانزراعه في الكلام اليومي وفي الذاكرة المتداولة عن التراث، وتنذر صدمة بغداد برحلة عراقية أخرى لها صعوبتها الخاصة في المستقبل القريب والمتوسط. أرسلها أهلها من بغداد الى عائلة صديقة في بيروت، خوفاً على أعصابها الحساسة من عراضات الرجال المستعدين هناك لهزم الأميركيين الرابضين في قواعدهم وحاملات طائراتهم يهددون. كانت الفتاة وهي تسمع حديث العائلة اللبنانية شبه اليومي عما يُبيت للعراق، تحرص على تسمية الرئيس العراقي بأنه "السيد الرئيس صدام حسين"، وكانت وهي تلفظ اللقب الرسمي تتلبس سمت الرصانة والاحترام والتهيب، كأنها، هي الجالسة في غرفة بيروتية مطلة على زرقة البحر المتوسط، تقف بين الجموع هناك في بغداد وقد أطلّ صدام حسين من عليائه، ينظر إليها شخصياً فتغض من بصرها وتلفظ اسمه الرسمي الثابت في وجدانها ثبات تماثيله المعدن في قواعدها الإسمنتية. وحين ظهرت ملامح هزيمة النظام العراقي كانت تجلس مع بنات العائلة البيروتية في أمسيات التلفزيون حتى الهزيع الأخير من الليل، وكلما توضحت الملامح تتمسك أكثر بلفظ الاسم المهاب "السيد الرئيس صدام حسين" ولا تلجأ الى الإيجاز، وربما أحست في دخيلتها، ولم تصرّح، بأن "السيد الرئيس" يراقب ردّ فعلها من هناك، وأن ما يحدث من هول وتدمير إنما هو امتحان لولاء فتاة عراقية في مقتبل العمر تستضيفها في بيروت عائلة لبنانية صديقة. قالت في دخيلتها انها ستنجح في الامتحان غير المسبوق، وأن "السيد الرئيس" لا يقهر وسيهنئها في النهاية، ولن يتعرض لها أحد من عناصر أمنه المنتشرين كالهواء في هواء العراق، وستعود الى بيتها العائلي في بغداد آمنة راضية مرضية. كان صباح سقوط بغداد فاجأ بنات البيت، ورأتهنّ رأي العين مصدومات بالهزيمة السريعة، سمعتهن يترقبن مفاجأة صدّامية من تحت الأرض تقلب الأرض على الغزاة وتدفنهم أحياء بآلافهم المؤلَّفة، لكنها أحست بشكوكهن في حدوث مثل هذه المفاجأة. فالصديقات البيروتيات يفترقن عنها بعض الشيء. إن ولاءهن لا يصمد في التجارب الصعبة وإن مهابة الرئيس هناك في بغداد يبهت شيء منها في بيروت، كأن "سيدها الرئيس" لا يتحمل التصدير الى أمكنة قريبة أو بعيدة، فيفقد بعض ألقه وبعض تأثيره. احتاج الأمر الى أكثر من يومين ليجمع أهل البيت البيروتي على أن نظام صدام حسين مُنيَ بهزيمة مدوية وأنه لم يقاوم الغزاة أبداً، وما استطاعوا أن يعلنوا حتى أمام أنفسهم شكوكهم بحدوث خيانات كبرى. وفي حال الإحباط التي سادت البيت لم يتنبه أحد الى أن الضيفة العراقية الشابة بقيت في موقعها الأثير تلفظ الاسم الرسمي "السيد الرئيس صدام حسين" وقد رددته مرات بعدد تماثيله التي تتهاوى في مدن العراق وصوره التي تمزق أو تمحى أو تضرب بالحذاء، بقي هو هو "السيد الرئيس صدام حسين" حتى انهارت الفتاة التي لم تصدق. وفي المستشفى تعب أطباء الأعصاب حتى نجحوا في "إقناعها" بأنها آمنة في بيروت وأن السيد الرئيس لم يبق هناك حاكماً مطلقاً للعراق. وعادت الى بيت مضيفيها صامتة، وتم لها الشفاء فجأة في إحدى السهرات حين سألت: أصحيح انني أستطيع القول "صدام" و"صدام" فقط؟! حياً كان ام ميتاً، فإن صدام حسين علامة الذهاب بعيداً في الضلالة والوهم والكسل. وليس من ذريعة لضلالة العراقيين لأن الرجل صعد امام اعينهم الى قمة السلطة ووحدانيتها على رغم "مرضه" وضآلة مؤهلاته لتحمل مسؤوليات كبرى، ولأنهم يعرفون جيداً ان المبالغة في شعار العروبة في العراق، والتي تقارب الفاشية، هي طريق يؤدي حتماً الى الاحتراب الداخلي وانحلال المؤسسات العامة. فالحضارة العراقية قبل الإسلام وخلاله كانت حضارة اقوام متنوعين، حتى إذا استتب الأمر لقوم واحد تبخرت الحضارة ودخلت البلاد في سويّة البؤس والعزلة والجهل... بغداد حاضرة الاختلاط يقتلها حكم بسيط "نقي". وليس من ذريعة لضلالة العرب الآخرين لأنهم، من جمال عبدالناصر الى غيره من الزعماء العرب المتوهجين خارج حدودهم وأبرزهم صدام حسين، لم يهتموا بسياسات الزعيم الداخلية في بلده بالذات، لذلك اختفى العراق خلف صورة صدام حسين كما كانت مصر مختفية خلف صورة جمال عبدالناصر. لم يرَ العرب مصر إلا بعد 1970، وها هم يرون العراق فيصدمهم وسيصدمهم كما فعلت مصر الساداتية. حياً كان ام ميتاً، فإن صدام حسين فتح جروح العقل الأصلية عندنا. إنه ولي الأمر، وإنه الجائر. وفي تقاليدنا يجب ان نطيع الأول حفظاً لبيضة الأمة، وفي تقاليدنا ايضاً ان طاعة الحاكم الجائر امر مكروه إن لم يكن محرماً، وكم افتخر العرب والمسلمون بذلك الأعرابي الذي خاطب الفاروق عمر بن الخطاب الشهير بعدله قائلاً: "لو رأينا فيك اعوجاجاً لقوّمناه بسيوفنا". كانت اعماق العرب والمسلمين وربما لا تزال تعاني الازدواج في موقفها من صدام حسين. ليس ديكتاتوراً بل هو أسوأ: "ولي الأمر الجائر"، لأنه يتقدم إلينا في وجه من وجوهه على أنه رمز سلام الأمة ووحدتها وعلى ان طاعته درء للفتنة، فيما الديكتاتوريون، كهتلر وموسوليني وستالين، كانوا يتقدمون من خلال التراث الغربي كقادة مفوضين من الشعب او من الحزب باسم الشعب. الطبعة العراقية من الديكتاتورية تعتمد ثقافة أهل الكهف، إذ توضع الأجساد والأرواح والعقول في كهف وتوقف عند نقطة لا تتعداها، تتلقى غذاءها ومعرفتها من الديكتاتور، من مجرد وجوده، فهي تلي أفكاره فلا تحتاج الى آلية تفكير، وهي تلي مزاجه فيتعطل مزاجها. وفي حين ان الديكتاتور الغربي والروسي يتقدم الحزب ويمرره يومياً في عمليات تنقية تصفية لضمان الولاء، يلجأ الديكتاتور العراقي الى تنقية من نوع آخر: تحويل أعضاء الحزب الى عبيد، يساعده في ذلك أن قراره الشخصي هو مصدر الرزق المتميز للحزبيين وفتات الرزق لسائر العراقيين. لذلك لا حاجة الى فكر، أيّ فكر، في الحزب، بل الى الولاء وحده، ففيه حفظ الانتماء الذي هو حفظ الوجود والنجاة من القتل. لم نشاهد في الصور الفوتوغرافية والسينمائية في عصر هتلر وموسوليني وستالين أن أعوان الثلاثة ومؤيديهم كانوا يتماهون معهم في الشكل، ويتعذر أن نرى نازياً غير هتلر يترك شارباً صغيراً في وسط شفته العليا، الى حدود فتحتي الأنف فقط. أما في العراق، فإن مؤيدي صدام حسين والمتظاهرين بتأييده، أي غالبية الشعب المقيم، يتركون شارباً كثاً مثل شارب صدام حسين، كما أنهم يلبسون جاكيت "دوباتة" مثلما يلبس، ويقلدون مشيته الهوينى مع تحريك الجذع ذات اليمين وذات اليسار. وكم كان ولا يزال يبدو مضحكاً مشهد عراقيين قصيري القامة يتمايلون بإهابهم الصدامي غير المناسب لحجمهم، كما كان يبدو غريباً وجريئاً مشهد الفريق عامر السعدي مستشار صدام حسين للشؤون العلمية ومشهد وزير الإعلام الشهير محمد سعيد الصحاف لمجرد أنهما حليقا الشاربين. والديكتاتور العراقي الذي يفيض على اتباعه ورعاياه بنعمة وجودهم لم يكن في الحقيقة مكتفياً بذاته، إذ يحتاج الى ما هو أهم من المرآة، الى اعتباره القائد الحاضر في الناس، في مجال عملهم القليل، في بيوتهم، في حديثهم المتبادل، في الهمس، وفي التأمل الشخصي الحميم. ويمكن أن نتصور حيرته غير المعلنة بين حضوره الكلياني المتغلغل في نسيج الأتباع، وبين جسده ومزاجه كشخص، فيمكن أن نتصوره وحيداً يدرك أن صورته تغلبت على شخصه وأنه يختفي لمصلحة هذه الصورة، وأنه قتيل صورته فيكرهها من حيث يطلب من الناس أن يحبوها ويحس أنها تضغط عليه وتحبسه في الكهف مع الآخرين. كم سيبدو صعباً التغيير في العراق، ليس فقط بسبب حرب المصالح عليه، بل لأن خروج العراقيين من الكهف ومدى قدرة أعصابهم على التكيف مع شمس الحياة أمران يتطلبان وقتاً، وربما لا يتمان إلا بعد خروج صدامات كثيرة يحتاج المجتمع العراقي وقتاً طويلاً الى إزاحتها بعدما احتاج أعظم جيشين في الكرة الأرضية لإزاحة صدام حسين الأول. * كاتب لبناني من أسرة "الحياة".