هل هي ورقة التوت الأخيرة التي سقطت عن أجسادنا لتكشف المستور، وتفضح العورات، وتعري المواقف بعد سقوط العراق المشين وتاجه دار السلام مدينة الرشيد والحضارة وعاصمة الخلافة والعلم والتعايش؟ لقد سقطت أوراق كثيرة من قبل، وسقطت معها رموز مهمة، ولكن هذه السقطة الأخيرة كانت الأكثر إيلاماً والأشد وطأة على العرب والأوسع تأثيراً في حاضرهم ومستقبلهم. إلا أنه لا بد من الاعتراف أيضاً بأن العراق لم يسقط وحده، بل سقطت معه الشرعية الدولية وسيادة الدول المستقلة وسمعة الولاياتالمتحدة وصدقية الدول الكبرى وفي مقدمها روسيا والصين وفرنسا التي أدت قسطها للعلى بمعارضة الحرب ومنع صدور قرار دولي جديد عن مجلس الأمن لرفع غطاء الشرعية عن الحرب ثم وقفت تتفرج على مجرياتها ومآسيها وتنتظر فرصة سانحة لحفظ مصالحها ورفع الصوت عالياً للمطالبة بحصتها من "كعكة" اعادة إعمار العراق ونهب ثرواته. ولو أردنا الغوص أكثر في أعماق الجرح النازف لوجدنا ان هذا السقوط المدوي لم يكن سوى تحصيل حاصل لما شهدناه منذ بداية القرن الماضي واستمرار لمجريات الأمور في منطقتنا بعد اقتسام تركة الرجل المريض الامبراطورية العثمانية وتقسيم المغانم العربية على شكل حدود دول وفق اتفاقيات سايكس - بيكو وما تبعها من أمور معروفة من وعد بلفور الى نكبة فلسطين وإقامة دولة اسرائيل والعدوان الثلاثي عام 1956 على مصر الذي فتح أبواب مرحلة جديدة من المطامع الأجنبية. مرحلة تمثلت في دخول الولاياتالمتحدة بقوة الى المنطقة لتحل مكان الاستعمار البريطاني والفرنسي وفق اعلان مبدأ أيزنهاور عام 1957 الذي قيل إنه ضروري "لسد الفراغ" فيما اشتدت الحرب الباردة وبدأ الغزو الصهيوي للولايات المتحدة من أجل السيطرة على مفاصلها الرئيسة وبالتالي السيطرة على مقاليد العالم وهو ما تأمن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك المعسكر الاشتراكي فظهور تباشير نظام عالمي جديد أو نظام جديد للعالم تهيمن عليه الولاياتالمتحدة كقوة أحادية لا رادع لها. بمعنى آخر، إن سقوط العراق وكل سقوط آخر رافقه أو نجم عنه ما هو إلا سقوط ما هو ساقط أصلاً ولم يكن يحتاج ليهوي ويتداعى إلاّ لهزة صغيرة، وهو واقع علينا كعرب أن ندرك أبعاده ونتائجه ونستخلص منه الدروس والعبر وفق نظرة مستقبلية هادئة بلا شعارات ولا عواطف. فقد ولى عهد الدجل والتضليل والمتاجرة بمشاعر الجماهير وآلامها وأحلامها وتطلعاتها ثم المغامرة بدمائها وأرواحها وحاضرها ومستقبلها. فالجماهير التي دفعت ثمناً غالياً لهذه الارتكابات لم تعد قادرة، على تحمل المزيد من خيبات الأمل والصدمات والنكسات والنكبات، كما أنها لم تعد تقبل بمثل هذا التلاعب بمقدراتها وثرواتها وأوطانها وكرامتها ومصيرها. ولهذا لا بد بعد ما سمي ب"الصدمة والترويع" من اعادة النظر في كل الأمور والمواقف والسياسات والاستراتيجيات الوطنية والقومية، ولا بد من أخذ العبر مما جرى بتأمين أوسع قدر للمشاركة الشعبية في صنع القرار وتحصين الذات وعدم ترك مقادير الأمة والشعوب والمصائر بين فرد واحد وديكتاتور ظالم يتخذ وحده، وبتعسف وغرور وغباء وجهل وتسرع، قرار الحرب وقرار السلم، ويتصرف بالثروات بلا حسيب ولا رقيب ويهدر البلايين بجرة قلم، وقد سقط النظام العراقي بمثل هذه السهولة والسفه لأنه سار على طريق الضلال والخطايا بعد أن بني على باطل. وما بني على باطل فهو باطل، فانتهى هو ورئيسه ورموزه الى محكمة التاريخ ليحاسب على جرائمه وخطاياه بعد هذه النهاية المأسوية التي تشبه الى حد بعيد الملاحم الدرامية الإغريقية، نهاية العار: عار السقوط، وعار التخاذل وعار عدم مجابهة الغزاة بشرف وشجاعة وسط شكوك كثيرة وألغاز مريبة تتعلق بأسرار هذا السقوط المهين وصفقاته وأسباب "تبخر" السلطة بكل رموزها وجيشها وطيرانها واستخباراتها وفدائييها وأجهزتها التي تحولت كلها الى كيانات كرتونية تهاوت في لحظة عندما هرب "الزعيم الغائب" واختفت آثاره وغاب ظله وتلاشت سطوته وأيادي بطشه. ولا بد من أن تكشف الأيام خفايا هذا السقوط. لكن الواقعية تدفعنا الى القول انه سقوط ما هو ساقط أصلاً... فالنظام سقط قبل الحرب الدامية بعقود... أي منذ اليوم الأول لتمكنه من السطو المسلح على السلطة في ليلة مظلمة وأخذه الشعب رهينة بيديه... ثم سقط يوم شن الحرب على هذا الشعب في شماله وجنوبه ثم في جره الى حروب ومغامرات وغزوات أزهقت أرواح مئات الألوف من الأبرياء وشردت الملايين وأفقرت من لم يتمكن من الهرب من جحيم النظام، كما هددت ثروات العراق النفطية والمائية والحضارية والزراعية، وأغناها الثروة البشرية حيث يشهد الجميع للعراقيين بقيمهم وثقافتهم وعلمهم وشهامتهم وكرم أخلاقهم. ولم يعد مجدياً اليوم الحديث عن الماضي المعروف إلا من باب الدعوة الى أخذ الدروس والعبر منه، كما أنه ليس من المحبب سن السكاكين "لذبح البقرة" المذبوحة أصلاً، خصوصاً أن بعض السكاكين التي ظهرت أخيراً هي التي كان أصحابها يدافعون ويمدحون و"يطبلون ويزمرون" للنظام ويعتاشون من رشاويه المالية والنفطية!! والمؤسف أن النظام المنهار يكاد يسقط معه العراق الحضاري الموحد ويكمل ما بدأه في تدميره وقهر شعبه وتقديم الذرائع للطامعين في ثرواته بحصاره أولاً ثم بغزوه والسيطرة على مقاديره والتحكم بمصيره، وتهديد أشقائه وجيرانه. ولكن النظام العراقي لم يسقط وحده، بل سقطت معه أمور كثيرة في مقدمها الشرعية الدولية التي تحولت الى كذبة كبيرة أو أداة يستخدمها البعض لتنفيذ أغراض معينة ويتخلى عنها عندما تستعصي عليه أو تتسبب بإحراجه أو تعرقل أهدافه وغاياته المبيتة. وهنا أيضاً يمكن الجزم بأن هذه الشرعية ساقطة قبل أن تسقط بالضربة القاضية بعد الحرب التي شنتها الولاياتالمتحدة وأسقطت معها الصدقية الأميركية ومقولات الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان التي تتغنى بها، وأخذت في طريقها أيضاً سمعة الدول الكبرى وأوهام الاعتماد عليها أو انتظار الدعم منها. فالشرعية الدولية المزعومة سقطت مع وقع أقدام الاستعمار القديم وتوزيع مناطق النفوذ على الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، ثم سقطت عند دعم قيام اسرائيل على أرض فلسطين وتشريد ملايين اللاجئين الفلسطينيين، كما سقطت في عدم مجابهة الحروب التي شنتها إسرائيل ضد العرب، وتجاهل تنفيذ القرارات الدولية، وفي وضع حد لإرهاب الدولة الذي تمارسه اسرائيل. ولعل في سقوط العراق ومعه الشرعية الدولية عبرة للعرب ولكل المراهنين عليها، لأن من لا يتكل على الله ولا يعتمد على نفسه وبعدما استطاع من قوة للدفاع عن النفس أولاً لا مكان له في هذا العالم الذي كان محكوماً بشريعة الغاب ولكن في شكل خفي ثم جاءت الأحداث الأخيرة لتكشفه وتضع النقاط على الحروف. وينطبق مبدأ "سقوط ما هو ساقط أصلاً" على النظام العربي ككل، علماً أنه كان وما زال نظاماً وهمياً هشاً لا حول له ولا قوة ولا طعم ولا لون ولا رائحة. فهذا النظام الذي يترنح الآن بمفاعيل زلزال العراق ويستعد لاستقبال تردداته وآثاره السلبية وتهديداته لم يقو على مواجهة أية أزمة منذ استقلال الدول العربية وتجمعها تحت سقف وهمي. فقد توالت مراحل تدحرجه منذ نكبة فلسطين مروراً بنكبات وأزمات لا سيما هزيمة الخامس من حزيران يونيو 1967 وحروب اليمن وحرب لبنان ثم الانتفاضة الفلسطينية التي يذبح فيها الشعب الفلسطيني على يد جلاديه الصهاينة من دون أن يتمكن العرب من أن يقدموا له سوى الدعاء والدموع وبعض المساعدات والكثير من البكاء. وكما في الحروب كذلك في أوهام السلام تفرق العرب وانقسموا وتفردوا بالحلول. أما جامعة الدول العربية فحدِّث عنها ولا حرج. فهي تسير من سيئ الى أسوأ ومن انحدار الى انحدار ومن عجز الى شلل، ولم نر منها في الأزمات وآخرها سقوط العراق سوى الشعارات والبيانات والتصريحات النارية بعد أن تحول بيت العرب الى بيت للفرقة والتشرذم وحب الظهور. ومع سقوط العراق سقطت أيضاً الاستراتيجيات الوهمية للجيوش الجرارة والموازنات الخرافية التي اقتطفت للدفاع وشراء الأسلحة على حساب التنمية ولقمة المواطن، فإذا هي تتحول عند الحروب الى قطع للزينة أو للغنائم والهدايا الجاهزة للأعداء. وكم هو مخز ومحرج ما رأيناه في الأمس عبر شاشات التلفزة من أرتال الدبابات والمصفحات والمدافع والطائرات الحديثة التي هجرها حراسها وفروا كالفئران من دون أن يطلقوا طلقة واحدة منها دفاعاً عن شرف الأمة، كما رأينا مخازن الأسلحة وأطنان الصواريخ والذخائر معبأة في صناديقها تركت نهباً للغزاة وكأنها كانت معدَّة فقط لقمع الشعب العراقي أو كأن من اشتراها كان يسير على نهج مبدأ "أسد علي وفي الحروب نعامة"! كما سقط أيضاً الخطاب الإعلامي العربي: خطاب التضليل والضحك على الجماهير ومجافاة الحقيقة، وهو ساقط أصلاً منذ زمن طويل، لكن وزير الإعلام العراقي السابق محمد سعيد الصحاف حوله الى مهزلة يضحك منها وعليها الغريب والقريب، ونبكي نحن منها ومن مفرداتها ومن أنفسنا وعليها لأن فينا من لا يزال يصدقها ويتحمس لها، ويرددها ويمارس أساليبها البالية. وقائمة "السقوط" طويلة ولكنني أكتفي بهذا القدر لئلا أشارك في عملية جلد الذات التي أدمنّا لذة عذاباتها منذ زمن طويل مع أنني استعرضتها في هذه العجالة لأحذر مما هو أعظم ومما هو مبيت للعراق بعد إكمال مؤامرة تدميره وتفتيته وتهديد وحدته الوطنية وعزله وتجريده من كل عوامل القوة والصمود ونهب ثرواته ثم الانتقال الى تهديد الدول العربية الأخرى تحت ستار مزاعم نشر الديموقراطية واعادة تشكيل خريطة المنطقة. وما التهديدات المتكررة ضد سورية والضغوط المتزايدة على السعودية سوى بدايات لما هو آتٍ، من دون أن تهمل هدف القضاء على منظمة "أوبك" والتحكم بأسعار النفط العربي وإنتاجه ومسارات إنفاق عائداته. والأخطر من ذلك كله أن اسرائيل بدأت تشحذ سكاكينها وتستعد لاقتناص الفرص الذهبية التي أتيحت لها والانقضاض على العراق لنيل حصتها من خيراته. والأحاديث كثيرة عن الأهداف المعلنة والخطط المبيتة نشير الى عناوينها الرئيسة اليوم على أن أعود اليها لاحقاً وهي: مد خط أنابيب للنفط العراقي من كركوك الى حيفا، مد خط أنابيب لإيصال المياه من الفرات الى اسرائيل، توطين الفلسطينيين في جنوبالعراق بعد فرض خطة شارون بإلغاء حق العودة للاجئين، الحصول على عقود للمشاركة في مشاريع اعادة بناء العراق. وهذا غيض من فيض. فهل يتنبه العرب الى الأخطار المقبلة وتسارع القيادات العربية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من المصير العربي بعد أن وصل السيف الى رقابنا جميعاً؟! انه سؤال مشروع في هذه الأيام الصعبة والرد المطلوب عليه لا بد من أن ينطلق من النظرة المستقبلية المبنية على أسس الحكمة والعقل والقوة في آن واحد... فالبكاء على الأطلال لا يفيد والاستسلام لمنطق الهزيمة يدمر ما بقي لنا من آمال... فعلى رغم كل الأهوال ما زالت أوراق القوة موجودة ويمكن تجميعها في يد العرب من جديد بالنيات الصادقة والجهد والعمل الدؤوب وبالإيمان بقدرتنا على النهوض وتوحيد المواقف والقوى وتحصين الذات وإصلاح الأوضاع من كل جوانبها في الداخل والخارج وإعادة بناء الثقة بين كل الفرقاء من القمة الى القاعدة وعلى مستوى الوطن العربي كله مع فتح نوافذ الحرية لتي تحمل معها بذور الصمود والقوة في مواجهة الرياح العاتية والعواصف المقبلة. ولا بد أولاً من أخذ الدروس والعبر مما جرى قبل البدء بالمعالجة... ولا بد من المصارحة مع النفس ومع بعضنا بعضاً لئلا يعيد التاريخ نفسه ونروَّع بنكبة جديدة. * كاتب وصحافي عربي.