الكاتب والصحافي غسان التويني مثقف متميز كتب كثيراً في مدح الديموقراطية التي اعتبرها حبل النجاة لما يعانيه العرب من تعسف واستبداد. لذا يمكن أن نستعير في وصف دفاعه الدائم عن الحرية والديموقراطية ما قاله مارون عبود في وصف اشتراكية فرح أنطون: "إشتراكي محموم حرارته دائماً فوق الأربعين". آخر ما نشر التويني في مجال الديموقراطية ونقيضها الاستبداد كتيب بعنوان "حوار مع الاستبداد"، صدر عن "دار النهار"، وتضمن 23 مقالة نشرت سابقاً افتتاحيات في جريدة "النهار" خلال الأشهر الستة الماضية التي حفلت بأحداث جسام في منطقة الشرق الأوسط وتجلت بسقوط نظام صدام حسين في العراق، والحرب على خريطة الطريق في فلسطين، وتهديدات أميركا لسورية ولبنانوإيران والمملكة العربية السعودية، ودخول منطقة الشرق الأوسط في دائرة مقلقة من العنف والعنف المضاد لا يمكن تحديد حجم النتائج التي ستترتب عليها. رتبت موضوعات الكتاب ضمن أربعة محاور هي: مصير صدام ونظامه الاستبدادي الساقط، "خريطة الطريق" التي صارت خريطة "اللامكان"، الشرعية الدولية، أينها، وأين الديموقراطية والحروب من أجلها؟ وإلى أين من هنا، وهل ثمة طريق إلى السلام بين القمم؟ وضمت تلك المحاور بدورها عدداً من الموضوعات، أبرزها: حديث خرافي مع تمثال في تكريت، طبائع الاستبداد بعد السقوط، طاغوت يفترس ديموقراطيته، خرائط إلى اللامكان، كتاب مفتوح إلى سورية ولبنان، الشرعية الدولية: كيف ننقذها، "العراق للعراقيين" وللعرب أم للأميركيين، "دستور يهودي" من فلسطين إلى العراق، العرب وإسرائيل أمام المآزق الأميركية، النظام العربي الجديد، وسلام القبور المكلسة. و... "الحوار مع الاستبداد" إذاً، كما يريده التويني، حوار مع الأنظمة العربية التي بدأت تخشى مصيراً مشابهاً لسقوط نظام صدام الاستبدادي. فقد سلكت جميعها طريق الاستبداد بدرجات متفاوتة، وقادت شعوبها إلى خراب مدمر على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وبعد أن أمعنت في "تطهير" جميع العناصر غير الموثوق بها في الجيش والقوى المسلحة، وصولاً إلى تصفية أقرب المقربين من الأهل والأصدقاء ورفاق الدرب والسلاح والعقيدة، إطمأن قادتها إلى أن عهد الانقلابات العسكرية ضدها إنتهى إلى غير رجعة. وإمعاناً في تحصين موقع الرئاسة لعقود طويلة، وتحضير الأبناء والأحفاد للوراثة من دون منازع أو معارض، أقامت صلات مباشرة مع القوى الفاعلة في النظام العالمي، وفي شكل خاص مع الولاياتالمتحدة الأميركية. فقدمت لها كل التنازلات المطلوبة على حساب القضايا القومية والوطنية. وعندما آنست من نفسها القوة في الداخل والحماية من الخارج، مارست الاستبداد ضد شعوبها بنرجسية قل نظيرها في التاريخ الحديث والمعاصر. دل حجم المقابر الجماعية التي كشفها الاحتلال الأميركي في العراق على تصفيات رهيبة طاولت آلاف العراقيين. هذا إضافة إلى ترحيل أو تهجير الملايين منهم، ووفاة مئات الالآف من أطفال العراق جوعاً ومرضاً، الى دمار اقتصادي مريع لم يشهد العراق مثيلاً له في حقب تاريخه الموغل في القدم. في مقابل ذلك، تم بناء عشرات القصور الفارهة، وتكديس الثروات الطائلة، وتعميم تماثيل القائد "المنتصر" في كل مكان، وإجبار الشعب العراقي على التصويت بنسبة مئة في المئة لقائد المسيرة القومية باتجاه إيران وليس فلسطين. لعل أجمل ما في حوار غسان التويني مع تمثال صدام حسين في تكريت أنه يقدم صورة ثقافية أشبه ما تكون بالصورة الشعرية التي صاغها الشاعر العراقي الكبير معروف الرصافي في قصيدته "قصر يلدز"، وهو معقل السلطان الدموي عبدالحميد الثاني، بعيد سقوطه عن سدة الحكم: "قصر عبدالحميد أنت ولكن/ أين يا قصر، اين عرش الجلال؟ / أين خاقانك الذي كان يدعى/ قاسم الرزق، باعث الآجال؟ / قد تخونتنا ثلاثين عاماً/ جئت فيها لنا بكل محال / أفأصبحت يا قصر نادماً؟/ تبالي بالقوم أم لا تبالي؟". بعد أن صفع أحد العراقيين تمثال صدام بالحذاء على مرأى من ملايين المشاهدين على التلفزة العربية، استخلص الصحافي عبرة زعم أن تمثال صدام نطق بها حين ناداه: "قل لسائر العرب ألا يسمحوا ببناء تماثيل لهم وهم لا يزالون على قيد الحياة والحكم... فقط التماثيل التي تبنى بعد الوفاة تحفظ سر الحاكم الذي تمجد". والعبرة المرة أن صدام عرف قبل سقوطه حقيقة الموقف الأميركي منه: "كنت أعرف أن أميركا هي التي تضخم كذباً سيرة خطر جيوشي وحرسي والصواريخ... أما إسرائيل فتعرف الحقيقة، ولا تخاف... وحطمت بغارة واحدة في أقل من ساعة، المفاعل النووي الوحيد الذي بنيت، "تموز". فقلت "عليّ وعلى... أصدقائي يا رب". كان الرئيس "الفذ" يعرف جيداً حقيقة الموقف الأميركي منه، وليس في الأمر غدر أو طعنة في الظهر، فلماذا قاد بلده إذاً إلى التهلكة؟ إنها لمسرحية شكسبيرية بامتياز. "فالقدر الأميركي" بحاجة إلى صدام وأكثر من صدام في المنطقة العربية. إنه بحاجة إلى أنظمة الاستبداد العربية مجتمعة لكي يرفع الصوت عالياً مطالباً بفرض "التغيير الديموقراطي" بقوة الدبابة الأميركية. فالأنظمة العربية عاجزة عن الدفاع عن نفسها بعد أن ترهلت جيوشها منذ زمن بعيد، وانصرف جيشها إلى قمع الداخل والتحكم برقاب البلاد والعباد. وعندما تحركت أوروبا لرد "القدر الأميركي" جاءها الرد بأن أفكار عصر الأنوار باتت مقولات ثقافية قديمة، وهي لم تمنع أوروبا نفسها من التحول إلى الديكتاتورية والفاشية والنازية وبناء الدولة الإمبريالية والإمبراطوريات الاستعمارية. أما الأممالمتحدة التي ساءها أن يهمشها الأميركيون فانبرت للدفاع عن نفسها برفض العودة إلى شريعة الغاب، وأن العالم بحاجة إلى حكماء وليس إلى مهووسين بجنون العظمة وأدعياء إنقاذ العالم ممن حلت عليهم "رؤى" جديدة كتلك التي رآها بوش في منامه. لكن الإدارة الأميركية ماضية في مخططها، وهي تتوسل أشكالاً خادعة من مشاريع الحلول التي تغلف الاستعمار الجديد برداء الديموقراطية، وترسم خريطة لطريق لا توصل إلى اي مكان خارج مشروع أميركي متطابق في الجوهر مع المشروع الصهيوني لمنطقة الشرق الأوسط. هكذا تحول العراق إلى "مستعمرة" أميركية. وحول جدار شارون العازل دويلة فلسطين، قبل ولادتها، إلى "بانتوستان" غير قابل للحياة. وبدأت محاكمة سورية في إحدى لجان الكونغرس الأميركي التي قد توصي بإعلان الحرب ضدها إنطلاقاً من وجودها العسكري في لبنان، إضافة إلى ذارئع أخرى لا حصر لها. فالكل يعلم أن أميركا ضده، وهي تعرف أنها ضده، وان إسرائيل على دراية مسبقة بأن العرب أعدوا العدة لقمع شعوبهم وليس لحمايتها. تجدر الإشارة هنا إلى كثرة المقالات التي يزعم كتابها أن الولاياتالمتحدة لا تعرف كيف تدير العراق، وأن لا خبرة لها في إدارة المناطق المحتلة التي ترفض أميركا تسميتها بالمستعمرات. علماً أنها أدارت، وبنجاح باهر منذ نصف قرن، ألمانيا واليابان. وذلك يؤكد أن المسألة أعمق من ذلك بكثير. فالإدارة الأميركية تحضر لمشاريع أبعد من حدود العراق وأفغانستان، وهي تطاول المصالح الاستراتيجية لأوروبا وروسيا والصين. وتنال تلك المشاريع رضى الحزبين الجمهوري والديموقراطي لأنها تعبر عن مستقبل منطقة الشرق الأوسط وجوارها الإقليمي الذي يصل إلى بلاد القوقاز في ظل الإمبراطورية الأميركية. هناك دول أخرى معرضة للتغيير بالقوة، لأن رؤوس قادتها أينعت وحان قطافها، والأميركيون عازمون على إسقاطها. أما دور الأممالمتحدة فلن يبقى على ما كان عليه قبل نهاية الحرب الباردة بنصر أميركي ساحق، بل سيتعرض لتغيير جذري مع تقديم تنازلات شكلية لدول الممانعة الأوروبية وروسيا والصين والهند واليابان. لكن تلك الدول عاجزة عن تغيير موقف الأميركيين بالقوة أو التلويح باستخدامها خشية سقوط قادتها تحت وطأة غضبة شعبية في الداخل. فهم يقومون فقط بأشكال من الممانعة التي قد لا تستمر طويلاً. ودل الموقف الروسي الجديد في مجلس الأمن على أن الدول الممانعة للاحتلال الأميركي للعراق ليست موحدة في مواقفها التي قد تتبدل تدريجاً تحت ستار إعادة الوحدة إلى مجلس الأمن، والقبول بما تقبل به المجموعة العربية وشعب العراق. والآن، بعد أن أوغلت الأنظمة العربية في التعسف ضد شعوبها أولاً، وضد بعض الأشقاء الأقربين، باتت محاصرة من الداخل والخارج معاً. فالهجوم الأميركي على المنطقة بات على الأبواب، وهو يرتدي ثياب الميدان للتغيير الديموقراطي تحت ستار "إنقاذ" الشعوب من أنظمة استبدادية. ويعرف قادة هذه الأنظمة، كما عرف صدام حسين، أن الولاياتالمتحدة جادة في تهديداتها، وأن إسرائيل تتحين الفرصة للتوسع على حساب دول الجوار التي لم تعد العدة العسكرية لمواجهة التحالف الأميركي - الصهيوني. فقد احتاط قادة الأنظمة العربية، على غرار صدام حسين، لخطر التغيير عبر انقلابات من الداخل. وقاموا ب"تطهير" كل من يتمتع بنفوذ، ولو ضئيل، داخل الجيش، والقوات المسلحة، وأجهزة السلطة. وأظهروا الاستعداد شبه الكامل لتقديم المزيد من التنازلات للأميركيين شرط عدم تعرية النظام وإظهاره ملحقاً تابعاً لأميركا المتحالفة دوماً مع إسرائيل. اكتشف قادة الأنظمة العربية أن حيز الاستقلال عن المشروع الأميركي بات ضيقاً للغاية بعد الاحتلال الأميركي للعراق. فحدد بوش سياسة الولاياتالمتحدة في شكل فاضح على طريقة "من ليس معنا فهو ضدنا". لذا لم يعد الكلام على الإصلاح من داخل النظام، وبذهنية أهل النظام، ولمصلحة قادة النظام، مقنعاً للشعوب العربية ولا للأميركيين. أصيب عالم ما بعد 11 أيلول 2001 بزلزال مدمر نتيجة خروج الولاياتالمتحدة الأميركية، وهي الدولة الأقوى في العالم، "على القانون الدولي وإعلانها، بوقاحة لا حدود لها، أنها غير عابئة بالمؤسسات والاتفاقات الأممية وموجباتها ومجالسها والأنظمة والتوازنات... وتتخذ من أرضنا وخيراتها خصوصاً ساحة إثبات وجود إمبراطوري لا سابقة لمثله في التاريخ، متواطئة في هذا المشروع مع عدونا التاريخي إسرائيل". إنه لزلزال مدمر. ختاماً، حوار غسان التويني مع الاستبداد يقدم المزيد من المقولات التي دأب على صوغها في معرض دفاعه المحموم عن الحرية والديموقراطية، وهما السمتان الأكثر قدرة على تحصين الشعوب العربية في مواجهة تحالف الاستبداد والإرهاب، من الداخل والخارج معاً. أغلب الظن أن قادة العرب الذين لم يأخذوا العبرة من قصيدة الرصافي، "قصر يلدز"، في وصف استبداد السلطان عبدالحميد، لن يفقهوا المدلول الثقافي لحوار الصحافي مع تمثال من كان ذات يوم سيد تكريت وكل العراق. فهل يأخذون العبرة من سقوط تمثال صدام تحت دبابة أميركية وحذاء عراقي؟