أطلق محمد سعيد الصحاف عدداً من التصريحات الكاذبة، وكان الكل يعرف انه يكذب، والى درجة ان اعتبر كلامه نوعاً من الهذر. وكسب وزير الاعلام العراقي لنفسه لقب "علي المهرج" في الغرب، وهو لقب غريب لعدم وجود اي "علي" في اسمه، ما يذكرنا بالسيدة هدى عماش التي اطلق عليها في الغرب "سالي الكيماوية" او "سارين سالي"، من دون ان يكون لها علاقة بأي سالي من قريب او بعيد. ويبقى الكذب في كلام الصحاف، او في اسم او اثنين اهون ما تمخضت عنه الحرب على العراق. فالكذب الحقيقي، او الاعلام الأسود، او التعتيم المتعمد، هو ما مارس التحالف الغربي. طبعاً "التحالف" اول كذبة، فالحرب على العراق خاضتها الولاياتالمتحدة وبريطانيا. وعندما قال وزير الخارجية الاميركي كولن باول ان هناك 40 دولة في التحالف، ضحك الناس من كلامه عن دول فقيرة مرتشية او جزر في جنوب المحيط الهادئ. غير ان البسمة ضاعت مع أعمال السرقة والنهب والاعتداء في بغداد، وتحالف الاربعين ذكرنا بعلي بابا والأربعين حرامي. الكذب لم يبدأ مع الحرب فقد كان ضرورياً للوصول اليها، ووزير الدفاع الاميركي دونالد رامسفيلد قال السنة الماضية ان الاستخبارات الاميركية تملك ادلة "مقاومة للرصاص" على علاقة نظام صدام حسين ب"القاعدة"، وكانت مستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس، والناطق الرئاسي آري فلايشر سبقا الوزير الى الربط بين العراق و"القاعدة"، في ما بدا انه حملة مدروسة لتبرير الاجراءات اللاحقة ضد العراق. وكان اغرب ما في امر التهمة ان الاستخبارات الاميركية نفت العلاقة، وكذلك فعل وزير الخارجية كولن باول. ويستطيع القارئ ان يعود الى عدد "نيويورك تايمز" بتاريخ 28 ايلول سبتمبر الماضي ليقرأ التصاريح الرسمية التي تؤكد العلاقة مع "القاعدة" والتصاريح التي تنفيها. وإذا عاد القارئ الى الجريدة نفسها في 23 كانون الثاني يناير من هذه السنة فسيجد مقالاً لكوندوليزا رايس عنوانه "لماذا نعرف ان العراق يكذب" يتحدث عن وجود اسلحة دمار شامل لم يجدها المفتشون الدوليون، ولم تجدها القوات الأميركية حتى الآن، ما يعني اننا نعرف لماذا تكذب مستشارة الأمن القومي. الكذب اوصلنا الى الحرب وسقط قتلى من الاميركيين ووقع غيرهم في الأسر، وعندما عرض هؤلاء على شاشات التلفزيون ثار جورج بوش وغضب رامسفيلد فصرح للتلفزيون الاميركي بقوله حرفياً: "ان ميثاق جنيف يوضح ان من غير المسموح به تصوير اسرى الحرب، وإحراجهم وإهانتهم. المادة 13 من الميثاق تطلب حماية الاسرى...". ولكن عندما عدنا الى المادة 13 من الميثاق الثالث وجدنا انها لا تشير من قريب او بعيد الى تصوير الأسرى. اهم من ذلك ان القتلى من العراقيين والأسرى، وهم اكثر كثيراً، عرضوا على شاشات التلفزيون كل يوم، ما يعني ان الوزير الاميركي زاد الى الكذب العنصرية، فالمواثيق الدولية تنطبق على الاميركيين لا العراقيين او اي عرب او مسلمين. كل مسؤول اميركي، من الرئىس حتى قادة الميدان، وعد بتقليل الخسائر المدنية، غير انهم وعدوا وضربوا قلب المدن. وقرأت نقلاً عن الجاويش اريك شرمف Eric Schrumpf قوله: "كان يوماً عظيماً. قتلنا عدداً كبيراً من الناس". وهو اعترف بقتل مدنيين وقال: "ماذا نفعل؟ كانت النساء واقفات قرب الجنود العراقيين". ورآه صحافي يقتل امرأة ثم يقول: "آسف. كانت في الطريق"، ويقصد انها كانت بينه وبين الجنود العراقيين. وعندما قال الصحافيون العرب الحقيقة قتلوا. وتولت الكذب نيابة عن الاميركيين وسائل الاعلام اليمينية المتطرفة. في العاشر من هذا الشهر نشرت "واشنطن تايمز" الحقيرة خبراً عنوانه "شكوك تحيط بدور الولاياتالمتحدة في قتل الصحافيين". وفي اليوم التالي نشرت "لوس انجليس تايمز" خبراً عنوانه "الكولونيل الاميركي يعتذر عن قتل الصحافيين، ويدافع عن عمله"، واعترف الكولونيل بالقتل وقال ان جنوده ردوا على اطلاق النار عليهم من فندق فلسطين. هل يذكر القارئ الانتفاضة على صدام حسين في الجنوب التي لم تقع إلا في خيال مؤلفيها، وكيف ان أم قصر سقطت كل يوم، سبعة ايام متتالية، والأسرى الذين زعم انهم اعدموا ثم سحبت التهمة، والمعمل الكيماوي تحت الارض الذي اكتشفته "جيروزاليم بوست" ثم نفي وجوده. طبعاً لا احد يزيد على "الديلي تلغراف" في صهيونيتها وهي ارسلت الحرس الجمهوري في ألف عربة الى الجنوب، ثم جعلت "صدام حسين يطلق النار على الفارين". وكتبت الليكودية برباره امييل منتقدة هيئة الاذاعة البريطانية لأنها تقف على الحياد بين الديكتاتورية والديموقراطية ثم طالبتها في المقال نفسه بأن تنحاز الى اسرائىل، اي الى دولة نازية جديدة يقودها عدد من مجرمي الحرب الذين ينافسون في الجريمة هتلر نفسه، ناهيك عن صدام حسين. وسط هذا البحر من الكذب، لا يزيد ما تلفظ به محمد سعيد الصحاف على قطرات منعشة، فقد كان كذبه مفضوحاً لساعته، وبالتالي غير مؤذٍ.