نجح جاك شيراك الديغولي في إلهاب غضب الساسة الأميركيين، وتفوق عليهم بالقفز الى مقدم الصورة التي ترفع القادة الى مصاف الزعماء التاريخيين، في موقفه المعادي للحرب على العراق، والمتصدي لنظريات صقور الإدارة الأميركية. وزاد من نجوميته التفاف قطاعات شعبه من حوله التي مدته بكل المقويات، جاعلة منه منافساً إنسانياً لبوش الصغير. اما الحزب الاشتراكي المعادي للحرب والرافض في الوقت ذاته سياسة صدام حسين، فإنه يعارض السياسة الأميركية في نهجها العسكري العنيف مع وجود بعض الأنوية، على طريقة بلير، تسعى لكسب الود الأنكلوساكسوني، وهو أقرب الى سياسة "اسرائيل" لا يقلقه اي حاكم صهيوني حتى شارون، على رغم موافقة الاشتراكية الدولية على قيام دولتين، من دون ربط شعار رفض الحرب على العراق برفض حرب "اسرائيل" على الفلسطينيين. ويتميز الحزب الشيوعي واليسار عموماً بتأييد قضايا الأمة العربية، ومناهضة السياسة الأميركية والامبريالية الجديدة "النيوليبرالية"، ويدعو الى قيام دولة مستقلة على ارض فلسطين، ويربط في شعاراته السياسية بين الحرب على العراق وتلك المستمرة ضد الفلسطينيين على رغم قبوله دولتين. ويتشدد التيار التروتسكي في مسعاه السياسي ونضاليته الدائمة الثورة الدائمة - تروتسكي ليقف الى يسار الحركة "الشيوعية" في رفضه الحرب ولا يعترض على رحيل صدام حسين من دون قتال، ويشارك بكامل طاقته وحيويته في التظاهرات، ويرفع شعارات ضد اسرائيل وسياسة شارون الاستيطانية الدموية. وهكذا وعلى المنوال ذاته، تبدت وتمظهرت اتجاهات وأطياف منظمات البيئة والخضر والحركات الاجتماعية والمهنية والفنية والنسوية، فهي معادية كلياً للحرب ومناهضة لسياسة اميركا، وتشارك بشكل موسع في "الحركة المناهضة للعولمة" ولا تتردد في مساواتها ومماهاتها بالأمركة، وتدعو لقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، وتطالب بتطبيق القرارات الدولية على دول المنطقة بما فيها اسرائيل، وتدعو الى شرق اوسط خال من اسلحة الدمار الشامل وعالم لا يحده ولا يحدوه الخوف. هذا الخليط الذي يشبك مراتب وطبقات وفئات المجتمع الفرنسي، يمثل نسبة تبلغ 90 في المئة من الشعب المعادي للسياسة الأميركية ونزوعها الامبراطوري في حربها على العراق، وهذه النسبة تكاد تقاربها نسبة ما نال شيراك 82 في المئة في اعادة انتخابه لدورة رئاسية ثانية ونجاح الديموقراطية في إسقاط العنصرية واليمين المتطرف. ويشارك لوبن وجبهته الوطنية في ألوان معارضة ما يجري على الساحة الدولية من إعادة نهوض الاستعمار في شكل صقور الإدارة الأميركية المتعطشين للهيمنة، ولكن معارضة لوبن تلبس ثوب المجتمعات القومية الشوفينية المغلقة. ولا تعني هذه النسبة ان ليس من فرنسيين موالين للحرب ومؤيدين للسياسة الأميركية، فمن الحركة الصهيونية الى القوى المستفيدة من المشاريع الأميركية والساعية الى تعميم النموذج الأميركي في فرنسا والعالم لا اعني جوهر النظام الرأسمالي. نجد في الصحف الفرنسية مقالات لكتّاب يتجاذبون الموقف الأميركي ويتقاطعون مع رأي الفلاسفة الجدد في ثوبهم القشيب الليبرالية المتطرفة الذين نراهم في صف الحرب. الموالون للسياسة الأميركية وداعمو حربها، استندوا الى تجربة "كوسوفو"، فاقترح آلان كوشنير مفهوم حق التدخل في الشؤون الداخلية والسياسية للدول لأسباب إنسانية هو من اركان منظمة "اطباء بلا حدود" وكان من اعضاء الحزب الاشتراكي الفرنسي، وتحول الى تنظيم "ار - جي"، وانسجم هذا التوجه مع عدد من المثقفين في الحزب الاشتراكي غالبيتهم من الصهاينة واليهود هناك يهود من كل الفئات الاجتماعية معادون للحرب، من فناني "هوليوود" الى منظمة "الأمهات السود"، حيث دعموا السياسة الأميركية التي آلت على نفسها مهمة تغيير الستاتيكو الذي تلخصه الديكتاتوريات والأوتوقراطيات في العالم، وخصوصاً في المنطقة العربية، ويتماهون مع الحرب الأميركية لأنها ستستقط هذه الحكومات وتقيم الديموقراطية، وهي وجهة نظر مطابقة لاستراتيجية صقور الإدارة. ولهذا يعتبرون فرنسا وأوروبا المعارضة للحرب، رجعية لا تقدر على مماشاة اميركا في التطور. الليبرالي آلان مادلين صاحب الفكر السياسي الليبرالي المتطرف والموازي في منطلقاته لثوابت عقيدة بوش الأمنية والمتماثل مع مخططات صقور الإدارة الأميركية ومشاريعها، يقود الحزب الليبرالي الديموقراطي IDF وكان في السابق مع جيسكار ديستان وفريقه يمثلون مجموعة من "العائلات" ومنها ريمون بار، اصبحت اليوم في صف الغالبية بزعامة شيراك. المجموعة التي يرعاها مادلين ترتكز الى قواعد ايديولوجية وسياسية واقتصادية تخوض معركة الهيمنة الأميركية على أوروبا، حيث يتبدى الصراع على مستوى العالم في قضايا مثل، السوق الأوروبية المشتركة وقد قطعت فيها اوروبا شوطاً كبيراً من التوحد والاندماج، على رغم الخلاف الذي ظهر الى العيان في الحرب على العراق، ستعالجه في المستقبل، المصالح المشتركة الحيوية لفرقاء الوحدة الأوروبية. وحلف الناتو، تحاول اميركا ان يبقى وحده مسؤولاً عن امن اوروبا. ولكن محور فرنسا - ألمانيا يسعى الى تشكيل قوة عسكرية اوروبية، تقوم بحفظ الأمن والاستقرار، خصوصاً بعد انعدام الحاجة إلى الناتو مع اندثار الاتحاد السوفياتي وانتفاء التهديد الخارجي الجدي. هذا التحليل لا يغفل جوهر النظام الرأسمالي العالمي الذي تشترك في مكوناته الدول المتنازعة على الدور والمصالح. اضافة الى الفلاسفة الجدد الذين ايّدوا التدخل في كوسوفو، ويشددون على مواجهة الطغيان والتخلف وكل اشكال الاستبداد، فهم يدعمون سياق التطور التاريخي الذي تمثله اميركا، ويطالبون فرنسا بالالتحاق في سياستها والانخراط في حربها، من اجل انجاز عملية التغيير التاريخي الكبيرة الجارية على الساحة الدولية بحسب اعتقادهم. الصحافة الفرنسية تبنت الموقف الرسمي للدولة الفرنسية أو قاربته، ولكن هذا لا يعني ان ليس هناك من كتّاب وصحافيين يؤيدون سياسة الإدارة الأميركية ويطالبون بلادهم بالسير في ركاب اميركا دعماً لفرنسا ذاتها. وفي هذا السياق نميز بين الكنيسة الأوروبية بأطيافها ومواقفها المعادية كافة للحرب وبين التيارات الدينية التي خرجت من الكنائس الأميركية، وتطرّفت جهادياً، وهي تدعو لبناء هيكل سليمان ودعم اسرائيل كلياً على "ارض الميعاد" تمهيداً لعودة "المسيح" وتنصير العالم، فحتى بوش "المؤمن" تخالفه كنيسته البروتستانتية. إن الخلاف بين اميركا وأوروبا لا يقع فقط على مستقبل اوروبا ودورها المستقل، وإنما يندمج في رفض ومعاندة السعي الأميركي للهيمنة على العالم. وقيادة القرن الواحد والعشرين من دون مشاركة من اي جهة على وجه الأرض. الأمر الذي يثير المزيد من الاعتراض والممانعة، ويسهم في تشكل تيار السلم العالمي الذي يرفض عقيدة بوش الأمنية في الحروب الاستباقية الضابطة والمحددة لأدوار كل الأطراف وفي مقدمها اوروبا. * كاتب لبناني.