اتسم الحديث الصحافي الطويل الذي أجري مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في التلفزيون الفرنسي مساء يوم الثلاثاء الماضي في اختتام زيارة الدولة التي قام بها لفرنسا، بلحظتين مثيرتين. الأولى عندما قال أن روسيا هي طبعاً جزء من أوروبا. "أنظروا إلى الخريطة! أنظروا إلى تاريخنا!" قال هاتفاً، وأضاف: "نحن ورثة الإغريق، والرومان، والبيزنطيين، ونحن قلب المسيحية الأرثوذكسية" إنني أنقل ما أذكر من حديثه وربما لم أحفظ كلماته المحددة. واللحظة الثانية حين أكد في حديثه عن الأزمة العراقية أن طموح روسيا هو نشوء عالم متعدد الأقطاب بدلاً من عالم أحادي القطب. تشير ملاحظات بوتين إلى أنه بالإضافة إلى الخلاف ما بين ضفتي الأطلسي حول العراق، فإننا نشهد عصياناً من بعض الدول الأوروبية الكبرى ضد هيمنة الولاياتالمتحدة، تلك الهيمنة التي اتسمت بها العلاقات الدولية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي قبل اثني عشر سنة. إن مفهوم الهيمنة الوحيدة التي يمكنها أن تفرض شروطها على العالم وتحارب من تشاء أصبح مرفوضاً تماماً. الثورة الممتدة ضد الهيمنة الأمريكية لقد انتشرت الثورة إلى أبعد من أوروبا إذ عبرت الصين عن تأييدها للإعلان الروسي - الفرنسي - الألماني المهم يوم 10 شباط الذي قرأه الرئيس جاك شيراك بنفسه في قصر الإليزيه. ويؤكد الإعلان أن نزع السلاح العراقي، طبقاً لقرارات الأممالمتحدة ذات الصلة، هو الهدف المشترك للمجموعة الدولية، و"إننا واثقون بأن هناك بديلاً للحرب وأن استخدام القوة لا يكون إلا الخيار الأخير". يبدو ظاهرياً أن الخلاف يتركز على الطريق الأفضل لتجريد الرئيس العراقي صدام حسين من أسلحته الكيماوية والبيولوجية، والنووية المزعومة. فتقول الولاياتالمتحدة أنه نظراً الى سوابق صدام في الأكاذيب والخديعة، يجب تحقيق ذلك بالقوة. وتتمتع الولاياتالمتحدة بتأييد البريطاني توني بلير - حليفها الأكثر وفاء أو كما يعتبر البعض الأكثر عبودية - بالإضافة إلى زعماء كل من أسبانيا، والبرتغال، وايطاليا، والدانمارك، وعدد من دول أوروبا الشرقية ذوات الديموقراطية الحديثة. وبالمقابل، تعتبر كل من فرنسا، وألمانيا، وروسياوالصين، وبتأييد من جزء كبير من الرأي العام الدولي، أنه يمكن نزع سلاح العراق بالطرق السلمية عن طريق المفتشين الدوليين، وأنه لا بد من إعطاء هؤلاء الوقت والإمكانات اللازمة كي يكملوا مهمتهم. فهذا هو مضمون ما يسمى بالخطة الفرنسية الألمانية التي تم وضعها في ورقة عمل فرنسية وزعت على كبار مفتشي السلاح الدوليين وعلى أعضاء مجلس الأمن. وتدعو الخطة إلى زيادة ضعف أو حتى ضعفي عدد المفتشين الدوليين الذي يبلغ عددهم اليوم 350 مفتشاً، وإلى تعيين محاسبين وضباط جمارك للنظر في أرشيف الحكومة العراقية، وإلى إرسال فريق موسع من الحرس الأمني الدولي المسلح لحماية مواقع المفتشين والى "تجميد" المواقع المشبوهة، وإلى مراقبة جوية للعراق لمتابعة حركات السير حول المواقع التي يجب تفتيشها، وإلى إنشاء مكتب استخبارات مشترك في فيينا أو في نيويورك لجمع وتحليل المعلومات الواردة من أجهزة استخبارات الدول الأعضاء في الأممالمتحدة، وإلى إنشاء مكتب تنسيق دائم في بغداد لتمثيل رئيسي المفتشين الدوليين، هانس بليكس ومحمد البرادعي. لقد رفضت الولاياتالمتحدة وبريطانيا هذه الخطة باحتقار واعتبرتاها سخافة مضيعة للوقت. أحدث الخلاف انقساماً داخل الاتحاد الأوروبي وهدد تماسك الحلف الأطلسي وشلّ مجلس الأمن الدولي، كما أشعل نيران العداء لأميركا في أوروبا والعداء لأوروبا في أميركا وتقاذف وابل الشتائم المتبادلة عبر الأطلسي. واستهدفت فرنسا بشكل خاص بوابل من نيران الإساءة من جانب النقاد والمعلقين اليمينين الأميركيين الذين اتهموها بنكران الجميل، وبالتقاعس، وبفقدان الحس الأخلاقي. فطالب توم فريدمان في افتتاحية في "نيويورك تايمز" بمنع صوت فرنسا في مجلس الأمن بينما وصفها جونا غولدبرغ في نشرة Review Online National بأمة "قرود مستسلمة آكلة الأجبان" وقد كررت جوقة من المعلقين الآخرين هذه الجملة. وبشكل عام، فإنه أسوأ نزاع داخل "الغرب" منذ عشرات السنين. لا بد هنا من طرح سؤالين، أولاً، هل تستطيع "جبهة الرفض" الأوروبية أن تمنع حرب أميركا ضد العراق ؟ وثانياً، ما هي جذور الأزمة الحقيقية ؟ الجواب على السؤال الأول هو مع الأسف سلبي. فلا بد من أعجوبة - أو من قرار زعيم دولة لا يمكن أن يتخذه الرئيس جورج والكر بوش - لإيقاف الآلة الحربية الأميركية أو لقلب اتجاهها. فالحشود العسكرية مستمرة بتواصل وقد بلغ عدد القوات الأمريكية على الأرض 130000 جندي مع المزيد على الطريق. وتتوجه إلى المنطقة آلتان حربيتان هائلتان: حاملة الطائرات "يو إس كيتي هوك" غادرت موقعها الإعتيادي في مضيق تايوان متوجهة إلى المحيط الهندي للالتحاق بأربع حاملات أميركية أخرى على مقربة من العراق، بينما "وحدة الهجوم الجوي الأميركي 101" التي شنت عام 1991 على العراق أوسع هجوم مروحي في التاريخ قادمة على الطريق. لا الحرب الديبلوماسية الغاضبة عبر الأطلسي، ولا المحور المعادي للحرب المكون من فرنسا وألمانيا وبلجيكا داخل الحلف الأطلسي، ولا التظاهرات الضخمة في العالم يوم 15 شباط، ولا التقرير غير الحاسم للمفتشين الدوليين أمام مجلس الأمن، ولا الدلائل الأكثر غموضاً حول الصلات بين العراق وتنظيم القاعدة وذلك رغم نداء أسامة بن لادن الأخير للمسلمين بجمع قواهم للدفاع عن العراق ضد "الصليبيين"، لا شيء من ذلك يمكن أن يمنع صقور واشنطن المصممين على الحرب. ولا يزال بداية آذار مارس هو التاريخ المرتقب. الائتلاف للحرب ما هي إذاً جذور الحرب الحقيقية؟ ومن يقود السباق للحرب؟ كما هو واضح لمعظم الناس اليوم، يتكون "حزب الحرب" في الولاياتالمتحدة من ائتلاف لثلاث قوى رئيسية. - أولى هذه القوى ما يسمى ب "المحافظين الجدد" أو "الإمبرياليين الجدد" الذين يريدون فرض الهيمنة الأميركية على العالم وإبعاد أي غريم محتمل. يقود هؤلاء كل من نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد، وسبب غضبهما على فرنسا جاء تحديداً من شعورهم بأن زعامة أميركا مهددة من جانب قزم عسكري واقتصادي مدّع. إلا أن الهجوم الإرهابي الفظيع يوم 11 سبتمبر 2001 برهن أن القوة وحدها لا يمكن أن تضمن الأمن. فالخوف الرهيب من عملية أخرى تسقط عدداً كبيراً من القتلى دفع إدارة بوش إلى تطوير مفهوم "الحرب الوقائية" التي تهدف إلى استباق احتمال أن تقوم "دولة مارقة" مثل العراق يوماً ما في المستقبل بتزويد مجموعة إرهابية بأسلحة دمار شامل يمكنها أن تقتل الآلاف أو عشرات الآلاف من الأميركيين. هذا هو التبرير المعلن بتكرار للحرب المقبلة، وإن كان الطمع في السيطرة على موارد النفط في الشرق الأوسط يأتي بوضوح كالمبرر الثاني. - تتألف المجموعة الثانية من اليهود الأميركيين اليمينيين، القريبين من حزب أرييل شارون في إسرائيل والذين يتمتعون بنفوذ لم يسبق له مثيل داخل إدارة بوش. ينتمي العديد من هؤلاء أيضاً الى تيار "المحافظين الجدد" ويبدو همهم الرئيسي هو أمن إسرائيل وتوسعها وهيمنتها في المنطقة. إن أبرز هؤلاء هو بول ولفوفيتز، نائب رامسفيلد في البنتاغون، ولكن هناك كثيرين غيره يحتلون مواقع ذات نفوذ داخل الحكومة وخارجها، وفي مراكز التفكير، وفي الإعلام والمنظمات ذات التأثير. جميعهم ينبح للحرب كصوت واحد. وفي إسرائيل، لا يخفي رئيس الحكومة شارون والرجال المتوحشون المحيطون به مثل وزير الدفاع شاؤول موفاز، ورئيس الأركان موشي يعلون، ورئيس جهاز الموساد مئير داغان، وقائد السلاح الجوي دان هالوتس، اعتقاده بأن القضاء على نظام صدام حسين من شأنه أن يغير ميزان القوى في الشرق الأوسط لمصلحة اسرائيل، مما يتيح لهم الفرصة لإكمال تدمير المجتمع الفلسطيني، والحركة الوطنية الفلسطينية وقائدها ياسر عرفات، وذلك لتحقيق الهدف الأخير بضم كافة أراضي فلسطين التاريخية أو أجزاء واسعة منها لدولة إسرائيل. - أما المجموعة الثالثة، فتتألف مما يسمى بالمسيحيين الأصوليين "المولودين مجدداً"، مثل جورج بوش نفسه، ووزير العدل الجنرال جون أشكروفت وعدد من المنتمين الى "حزام التوراة" الأميركي الذين يؤمنون بأن الله قد أعطى الأرض المقدسة لليهود. وكتب ديفيد فرم، وهو الكاتب السابق لخطابات بوش مؤلف تعبير "محور الشر"، كتاباً عن الرئيس بعنوان "الرجل المناسب" قال في أحد مقاطعه: "بطبيعة الحال إن السلطة الفلسطينية هي مركز الإرهاب الدولي... فهل يمكن اعتبار أننا نستطيع بدء الحرب ضد الإرهاب بإنشاء عرفاتستان في الضفة الغربية؟"، إن هذا مجرد إشارة واحدة للطريقة التي يتبعها اليمين "الليكودي" الأميركي اليميني في تحويل قضية "محاربة الإرهاب" إلى خدمة مخططات إسرائيل الإجرامية في الشرق الأوسط. إنها وصفة لمزيد من العنف ضد أميركا وإسرائيل خلال السنوات المقبلة. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط.