حضرت فكرة تماثيل الحكام مع الحضارات القديمة عندما كان حكام سلالات مثل الفراعنة والآشوريين يماهون بين الآلهة والحاكم، ما يفسر ضخامة تماثيل حكامهم ونحتها في الجبال والتركيز على العيون المتسعة المحددة بالكحل تأكيداً لقدرتها البصرية التي تخترق الصدور وتثير الرهبة في قلب من يتطلع اليها. وكثيراً ما كان الغزاة يستهدفونها بالتدمير لمحو آثار أسلاف مهزومين وبث الرعب في قلوب رعاياهم المخلصين. أما في المجتمعات الحديثة فباتت الجموع الغاضبة هي من تهشم التماثيل، وتسارع الى تكسير نسخ الطاغية من الحجر بمجرد ان تستشعر انها قادرة على التخلص من الاصل، او أنها تجرؤ على ذلك. آخر المشاهد التي استهدفت تمثال شخصية سياسية حدث في اوكرانيا عندما هجم المتظاهرون المعارضون على تمثال لينين الضخم وأشبعوه تدميراً، وراحوا يوزعون الكسر تذكارات بينهم كما حصل امام جدار برلين قبل 14 سنة عندما تحول الجدار رمز الستار الحديدي، الى مجرد قطع تقاسمتها الحشود تذكاراً من حقبة الشمولية وشماتة بها. كذلك ارادت جموع المتظاهرين الاوكرانيين التعبير عن قطيعة مع هيمنة سوفياتية حبست بلادهم في انظمة تحكمها اجهزة الحزب الشيوعي والاستخبارات، وسلبت الشعب حرياته لمصلحة خرافة «ديكتاتورية الطبقة العاملة». كان تحطيم تمثال لينين نوعاً من الصيحة المدوية التي تقول: لا لمزيد من التحكم الروسي في مجتمع يريد أهله الانفتاح على الاتحاد الاوروبي وعقد الاتفاقات التي تنقله الى ايقاع وقيم المجتمعات الديموقراطية الحديثة. ويعجّ التاريخ القريب بالأمثلة على «اغتيالات سياسية» من هذا النوع - إن صح لنا ان نعتبر تحطيم الصور والتماثيل كذلك - عندما تصرّ الجموع الغاضبة على تحطيم تماثيل مسؤوليهم بسرعة شديدة لا تنتظر معها سقوط النظام او تغيّر شخوصه. ان تدمير التماثيل هو ايضاً تخلص من رمز مرتبط بوضع سياسي وأمني لا يراد له ان يستمر أو يعود. إنه فعل يستبق السقوط الحقيقي ويتخيله للشخصية السياسية، تماماً كما كانت الشعوب البدائية تقوم بخرز الدبابيس في الدمى التي تمثل الأعداء، متمنية لها الموت. ويبدو قطع رأس التمثال المقطع الاكثر اثارة للانتباه في هذه الحوادث، رأينا ذلك في حادثة العاصمة الاوكرانية حيث كانت صورة رأس التمثال الضخم للينين مرمية عند أقدام المتظاهرين كأنها سقطت من جسد بشري. الرأس أيضاً كان مستهدفاً في التمثال الذهبي لحاكم ليبيا المقتول معمر القذافي، وتترك لنا الصور مقطعاً شهيراً تدوس فيه قدم مجهولة رأس التمثال عند باب العزيزية في طرابلس العاصمة. لا يهمّ قدم من كانت، فالرأس الساقط هو محل الاهتمام وقد تعرض مع بقية جسد التمثال لما عاناه الجسد الطبيعي للعقيد القذافي من إصابات دامية وضعت حداً لحياة ديكتاتور حكم شعبه بالجنون والنار ثلاثة عقود. في العام 2003 حمل ابو تحسين في احدى ساحات بغداد فردة حذائه وراح يضرب صورة الرئيس صدام حسين الذي هوى تمثاله قبل قليل بجرّة دبابة، وبدأ المواطن العراقي الذي عاش ردحاً من حياته تحت وحشية نظام صدام حسين يصيح بوجع: «هذا اي شسوا بالعراق.. ايش سوّا بينا»... وكان في صيحته المتوجعة يكمل ما بدأه غيره من العراقيين للتوّ عندما تسلقوا التمثال محاولين اسقاطه، قبل ان تصلهم المساعدة من الجندي الاميركي. لقد كان تمثال صدام رمزاً لحاكم دموي مطلق، وقد حاول العراقيون المحتجون التخلص مما يرمز اليه ولحقبة هيمنة وطغيان على حياتهم. لا ينتظر المنتفضون في اللحظات الاولى للغضب المحكمة الدولية الجنائية أو غيرها لتقتصّ لهم من نظام الطغيان فيسارعون الى الاغتيال المعنوي ما إن تتاح لهم الفرصة. هذا ما حدث في اشتباكات القلمون في سورية وقد وصلت الأخبار عن استهداف تمثال حافظ الاسد الذي يطل على مدينة دير عطية من الطريق الدولية حيث أوقف التمثال قبل أكثر من عشرين سنة على تلة، فبدا بضخامته وبشاعته مثل شبح يرعب العابرين بسياراتهم المسرعة من وإلى العاصمة دمشق باتجاه بقية المدن السورية. وتقول الأخبار انه تم تدمير جزء من التمثال المصنوع من مادة صعبة الكسر وقيل ان النظام سحب التمثال الجريح خوفاً من استكمال محاولة تدميره. وفي الرقة بادر المتظاهرون الى استهداف التمثال في إحدى الساحات وأسقطوه مع رأسه، والتقط كثيرون صوراً تذكارية لهذه اللحظة ونشروها على مواقع التواصل الاجتماعي فأوحت انها كانت تمريناً صغيراً على اسقاط نظام أسسه صاحب التمثال. وتكررت المحاولات في ريف حلب والحسكة وكل منطقة وصلت اليها ايدي المنتفضين مع تماثيل للأسد الأب او الابن. يأمر الطغاة بصناعة تماثيلهم ليتركوا نسخاً من هيبتهم في المدن والساحات العامة ترهب الشعوب وتذكرهم بأن الأصل موجود في قصر الحكم، في حال نسوا ذلك وحاولوا ان يتخلصوا من سطوته او التحايل عليها، ويتحول الخوف في بعض الأحايين الى فعل عبادة للحاكم، بتقمص الافراد المقموعين أفكاره وترديدها كما لو انها منزلة في كتاب مقدس. على ذلك لم يجانب أهل مدينة حلب الصواب عندما وصفوا قبل سنوات عند وضع التمثال في مدينتهم، ب «الصنم»، ويشيرون الى المنطقة التي تقع فيها التماثيل بتعبير: «عند الصنم»، على رغم ان اهل المدينة لم يطلقوا على تمثال آخر مثل تمثال رئيس الوزراء السابق سعدالله الجابري هذه الصفة، ولا منحوا التسمية لأي منحوتة تخص شخصية تاريخية من تلك التي تزين ساحات المدينة وحدائقها. وقد ابتلي لبنان كما ابتليت سورية بصور وتماثيل حافظ الأسد ووريثه الأول ثم وريثه الثاني. ويقال ان اهالي سكان مدينة قانا كانوا أول من بادر الى تكسير تمثال من تماثيل النظام السوري، ما اضطر قوات هذه النظام الى حمل تماثيله وهي تنسحب الى سورية في 2005 منهية هيمنة ثلاثين عاماً على البلد الجار. ووفق علمنا لم يتم تركيب تلك التماثيل في مكان آخر في سورية ولا يعرف اين تم تخزينها خوفاً عليها من الاستهداف. لكنها كلها، ظاهرة ومخفية، تنتظر مصيراً مشابهاً لسابقاتها على المستوى المحلي والعالمي، وهي في كل الاحوال لا تملك ضمانة البقاء الى الأبد كما لم يضمنه الاصل لنفسه او لفروعه. * كاتبة وصحافية سورية