كتب الكثير عن القمم العربية وقراراتها وخيباتها وعن السلبيات والايجابيات، إن وجدت، وعن الآمال التي علقت عليها، وعن خيبات الأمل الناجمة عن النتائج والعجز ووقف التنفيذ مع سابق الإصرار والترصد، وعن القرارات التي لم تنفذ والوعود التي ذهبت أدراج الرياح. وسيكتب الكثير عن قمة الدوحة التي تختتم أعمالها اليوم وسط ترقب وانتظار وحبس أنفاس وآمال ومخاوف وتوقعات، ندعو الله ان تترجم الى وقائع وأفعال وأن لا يكون مصيرها مشابهاً لما لحق بقرارات القمم السابقة. أول الغيث ننتظره من قطرة في هذه القمة المميزة والمختلفة من حيث التوقيت والأبعاد والأهداف والظروف الدقيقة التي تمر بها الأمة والأحوال الخطيرة التي وصلت اليها قضاياها وفي مقدمها القضية المركزية والأساسية الأولى وهي قضية فلسطين. ميزة هذه القمة تتمثل في عوامل عدة من بينها اعتراف جميع الأطراف العربية بخطورة المرحلة ومسارعتهم الى التمهيد لها وإزالة العقبات والعراقيل والألغام من طريقها عبر القمم المصغرة التي شهدتها العواصم المعنية والمصالحات التي تمت بعد طول فراق وشقاق وتوحيد المواقف بالنسبة الى معظم القضايا المطروحة ولا سيما موضوع المبادرة العربية ومصير السلام المنشود والوضع الفلسطيني ووجوب تحقيق المصالحة بين الاخوة وإزالة آثار الصراع الداخلي ونتائج العدوان الاسرائيلي الغاشم على قطاع غزة. المهم في كل هذه المواقف التمهيدية للنجاح المرتقب ان يبنى على حق وصدق وان تتوفر له عوامل الإرادة والرغبة والنية على التنفيذ والمضي قدماً في محو بصمات عار الخلافات والاختلافات والشقاق لأن ما بني على باطل فهو باطل، وخطوة الألف ميل تبدأ بخطوة وأول الغيث قطرة ثم ينهمر. ففي هذه القمة يجب ان تكون القرارات المتخذة عملية وقابلة للتنفيذ لأنها سترسم «خريطة طريق» للمستقبل العربي لا سيما في مواجهة التطورات الدراماتيكية على صعيد المنطقة واسرائيل والعالم، وهي بداية تتطلب الكثير من الجهد والصدق والعمل من أجل ترجمة الأقوال الى أفعال وتحويل القرارات الى جدول زمني يؤمن تنفيذها في أسرع وقت بكل جدية وحزم وحسم. والمهم ايضاً، ان القادة العرب قد اعترفوا بوجود العلل التي تنخر الجسم العربي، وكادت ان تشله أو تقضي عليه لو استمرت الأحوال على ما كانت عليه. وأكبر دليل على ذلك الاستجابة السريعة والشاملة للنداء التاريخي الذي أطلقه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في قمة الكويت وتحول الى «عرس عربي» للمصالحة في القمة المصغرة التي عقدت في الرياض وحضرها قادة السعودية ومصر وسورية والكويت وما تبعها من قمم ثنائية واتصالات بين القادة العرب. والأمل كبير ان يتحول هذا العرس الى استراتيجية ثابتة ودائمة تقوم على التضامن والوحدة في المواقف ونبذ الخلافات ووضع آلية عملية وواقعية لتنفيذ القرارات وآلية أخرى لحل الخلافات العربية - العربية والعمل على التقريب بين وجهات النظر والبت في أي اختلاف لما فيه المصلحة العامة للأمة ولو على اساس «الحلول الوسط» كما تفعل جميع الدول المتحضرة. ولنا في الاتحاد الأوروبي الأمثولة والقدوة حيث نجح قادته في حل الخلافات بأسلوب حضاري وتوصلوا الى حلول لمعظم الخلافات وما زالوا يبحثون عن صيغة «الحل الوسط» بشأن الدستور والنظام الاساسي للاتحاد. وعندما يؤمن القادة العرب بأن قضاياهم هي قضايا وجود ومصير، وان اي خلل في أطراف وأعضاء الجسد العربي الواحد سيتحول الى شلل يطاله في الصميم فإن طريق النجاة تصبح «سالكة وآمنة» وتتحول الأقوال الى افعال ويطمئن العرب من المحيط الى الخليج الى حاضرهم ومستقبلهم ومصير أمتهم وأجيالهم القادمة. فالخطر داهم والمشاكل والأزمات لا تعد ولا تحصى من فلسطين الى العراق، ومن لبنان الى السودان الذي أضيف الى قائمة المآزق العربية بعد قرار المحكمة الجنائية الدولية بتوقيف الرئيس عمر البشير الأمر الذي وضع القادة العرب أمام حرج كبير لأن السودان عضو في مؤسسة القمة أولاً ثم لأن من شأن هذا التوقيف، بعد كل ما جرى للعراق والرئيس صدام حسين، ان يشكل سابقة خطيرة ويفتح الباب أمام عواصف وأزمات لا حدود لها. كما ان مأزق السلام في المنطقة يهدد مصيرها في كل لحظة، صحيح ان قرار تفعيل المبادرة العربية والتأكيد على انها لن تبقى مطروحة الى الأبد، يثبت إيجابية الموقف العربي، إلا ان ما يجري في اسرائيل من اتجاه نحو التطرف المتزايد بعد الانتخابات الأخيرة يؤجج الموقف ويهدد السلام وينذر بنشوب حروب جديدة لا تشبع منها اسرائيل ولا تشفي غليلها من الأحقاد والرغبة السادية في الهدم والقتل وسفك دماء الأبرياء وارتكاب المذابح ونشر الدمار في المنطقة. ومهما قيل عن الايجابيات في موقف الرئيس الاميركي الجديد باراك أوباما ورغبته في انتهاج سياسة مختلفة عن سلفه جورج بوش ودعوته للحوار والسعي نحو السلام فإن صعود «الليكوديين» والمتطرفين الصهاينة الى السلطة سينسف كل الجهود ويحبط أي مسعى جدي للسلام. أما بالنسبة الى المصالحات، فالأمل كبير ان تترجم الاتفاقات والقرارات الأخيرة الى أعمال تؤدي الى طي صفحة الماضي البغيض والمضي قدماً في السعي نحو رأب الصدع وحل الخلافات والعودة الى التضامن العربي ودعم المصالحة الفلسطينية وتمهيد الأجواء لموقف عربي موحد يواجه اسرائيل ويحاور العالم ويقنع الولاياتالمتحدة بصوابية هذا الموقف أولاً، ثم في الحقوق التي يطالب بها. والأهم من كل ذلك في جدية العرب وحزمهم وعدم استعدادهم للمساومة أو التنازل والتراجع عن اي حد من الحدود الدنيا التي قبلوا بها. فالولاياتالمتحدة لا بد أن تعي، لا سيما بعد الأزمة المالية الخانقة التي تعرضت لها، بأن مصالحها الحقيقية تكمن في علاقاتها الجيدة مع العالم العربي بشتى أطيافه ومواقعه ومواقفه، وأن حمايتها سهلة ويسيرة إذا توقفت عن انحيازها لاسرائيل وعملت على فرض سلام عادل وشامل يقوم على مبادئ الشرعية الدولية ومبدأ الأرض مقابل السلام. يبقى عامل مهم آخر في مثلث الاضلاع العربية وهو العلاقات مع القوى الاقليمية التي ازداد نفوذها خلال السنوات القليلة الماضية. فبالنسبة الى تركيا ليس هناك أي خلاف حول دورها الايجابي، كما أن علاقتها بجميع الدول العربية جيدة وودية. أما ايران فالأمر مختلف إذ أن العالم العربي منقسم بين متفاهم ومتحالف ومختلف ومعاد وحذر، والحوار وحده كفيل بحل هذه الاشكالات، كما أن ايران مطالبة بتغيير اسلوبها وإثبات حسن نياتها تجاه العرب وقضاياهم بعد الشكوك التي زرعت في العراق وافغانستان ولبنان وغزة وأخيراً في المغرب والبحرين اضافة الى الامارات وقضية الجزر الثلاث (طنب الصغرى وطنب الكبرى وابو موسى) التي احتلتها ايران ورفضت أي حوار حول مصيرها. ولعل في زيارة وزير الخارجية الايراني منوشهر متقي للرياض أخيراً ونقله رسالة من الرئيس محمود أحمدي نجاد الى خادم الحرمين الشريفين ما يشكل بداية لفتح جسور الحوار لا سيما أن وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل قد حدد الأسس السليمة والضرورية لإنجاحه عندما دعا ايران الى التعامل مع القنوات الشرعية والرسمية في الدول العربية، وليس عبر فئات وأحزاب وأشخاص يفسر التعاطي معهم بأنه تدخل في الشؤون الداخلية العربية وتأكيد للمخاوف من أطماع اقليمية وطموحات توسعية لا مجال لنجاحها ولا نهاية لها سوى تعميم الخراب على الطرفين العربي والايراني. هذه القضايا العامة التي انشغلت بها القمة العربية مهمة ومصيرية، ولكننا كنا نتمنى لو لم يدخل العرب في متاهاتها ووجدوا حلولاً لها منذ زمن بعيد وصبوا كل جهودهم على قضايا مصيرية اخرى تماثلها في أهميتها وخطورتها. فالعالم يعيش أزمة كبرى لا فكاك منها ولا استثناء للعرب من شظاياها وعواقبها. أزمة مالية ولدت البطالة والفقر والتشرد والمجاعة وفقدان السيولة وانهيار الأسعار، وبينها أسعار النفط وهي السلعة الأساسية التي يعتاش منها العرب، في الدول النفطية وغير النفطية. وهذا يترجم بتقلص الاستثمارات ونضوب تحويلات المغتربين الى أهاليهم في أوطانهم وتعرض الصناعة الوطنية لأزمة تمويل وصيانة وتسويق وتصدير. هذه الأزمة زادت «الطين بلة» وعمقت حجم الأزمات التي يعيشها العرب، ولا سيما الأكثرية الساحقة منهم وهي على سبيل المثال لا الحصر: * البطالة وتقلص فرص العمل لملايين العرب في مجتمع غالبيته من الشبان. * الفقر حيث بلغت نسبة الذين يعيشون تحت خطه أرقاماً مذهلة مع كل ما يخلفه من أمراض وأميّة ومشاكل واضطرابات أمنية. * نقص المياه: وهذه هي الأزمة المقبلة التي تهدد المصير العربي بسبب التلوث والمتغيرات الجوية أولاً ثم بسبب اصرار الدول المجاورة على احتكار المياه مثل اسرائيل في الجنوب وتركيا في الشمال، وهناك خطر قادم على مصر والسودان في حال نجاح خطط التقسيم ومطامع بعض الدول في السيطرة على مياه النيل. * التطرف والإرهاب ومخاوف من موجات جديدة تعززها الأوضاع الاقتصادية السيئة والظروف السياسية والمتغيرات في العراق وافغانستان ثم في قيام حكومة متطرفة في اسرائيل وما سينجم عنه من توتر وتهديد بحروب جديدة. * مشاكل الشباب والفراغ ومناهج التعليم وثورة التكنولوجيا وسلبيات البث عبر الأقمار الصناعية وانتشار الفضائيات العربية والغزو الثقافي الأجنبي. * اتساع الهوة بين طبقات المجتمع في الدول العربية وضرب الطبقات الوسطى التي كانت تقوم بدور مهم في تأمين التوازن الاجتماعي وإغناء الحركة الثقافية والفكرية والتبشير بثقافة الاعتدال والتضامن الاجتماعي. اضافة الى تزايد أخطار الفتن الطائفية والمذهبية. هذه القضايا المهمة وغيرها، تحتاج الى مقالات أخرى، لشرح مخاطرها وأبعادها على العرب وحاضرهم وغدهم، وكان من المفترض أن تعكف القمم العربية على معالجتها وايجاد الحلول ووسائل العلاج لها بعد وضع اليد على مواطن العلل والأمراض، لكن القضايا السياسية طغت على أعمال القمة وشغلت همومها القادة والشعوب على أمل ايجاد حلول ناجعة لها ومن ثم الالتفات الى القضايا المصيرية الأخرى. وما دام الأمر كذلك لم يبق لنا سوى الدعاء بأن يلهم الله القادة العرب لما فيه خير أمتهم، وتنتصر الحكمة لنعود الى جادة الصواب: جادة التضامن والتعاون ووحدة المواقف لأن الأخطار كثيرة والمركب واحد لا مفر فيه لأحد إذا تعرض لخطر الغرق، لا سمح الله. فالكل مهدد بالأخطار والخلافات، والكل مستفيد من المصالحة والاتفاق... وتبقى العبرة في التنفيذ أولاً وأخيراً. * كاتب عربي