ماذا يعني ان ترحب اسرائيل باختيار "ابو مازن" لمنصب رئيس الوزراء الفلسطيني؟ كان يمكن ان يكون شهادة محترمة لو ان هذا الترحيب لم يصدر عن زمرة جنرالات بدائيين ووحشيين صنعوا من قتل الشعب الفلسطيني مهنة ومن احتلال ارضه احترافاً. وماذا يعني ان ترحب واشنطن ايضاً، لكن بتحفظ وحذر، متسائلة عن الصلاحيات التي سيتمتع بها صاحب المنصب المستحدث؟ كان يمكن ايضاً ان يكون شهادة بالغة الاهمية لولا ان هذه الدولة العظمى تتبنى حيال الشعب الفلسطيني سياسة لا تتبناها سوى دولة مارقة. المهم ان خطوة تعيين رئيس للوزراء أنهت إحدى الاساطير التي حاكها الاسرائيليون والاميركيون في حديثهم عن اصلاح السلطة الفلسطينية. وكان الاحرى بهذه السلطة ورئيسها ان لا ينتظرا "النصائح" من الاعداء، فالاصلاح استحقاق وطني قبل ان يكون استجابة ل"شروط الاستسلام" التي يمليها ارييل شارون وشاؤول موفاز او جورج بوش. ولا شك ان "ابو مازن" بموقعه وتاريخه ودوره، كان مرشحاً طبيعياً لهذا المنصب. فهو كان دائماً العين النقدية الساهرة لمسيرة الشعب الفلسطيني نحو التحرر من الاحتلال. وبديهي ان يقدّم مجيء "ابو مازن" الى السلطة على انه فرصة للفلسطينيين، فالرجل حافظ على مسافة بينه وبين "المؤسسة" لكنه مضطر الآن لدخول الحلبة، ابتعد عن الاضواء متعمداً وها هو الآن تحت كل الاضواء. مطلوب منه ان يضع بسرعة فارقاً مع السياسات السابقة، لكنه سيجد بسرعة ايضاً ان مشكلته الاولى هي الاحتلال وخطة التدمير المبرمج التي نفذتها حكومة شارون وستواصل تنفيذها للقضاء على السلطة التي سيكون رئيس وزرائها، ولقدرات الشعب على الصمود، وعلى المقاومة التي ستبقى ضرورة وطنية ما بقي الاحتلال. يفترض ألا ينسى أحد ان "ابو مازن" عُيّن رئيساً للوزراء بقرار من رئيسه السجين والمحاصر والذي لم يعد الاسرائيليون والاميركيون يعترفون به او بشرعيته، كأنهم هم الذين نصّبوه او منحوه الشرعية. لا شك ان "ابو مازن" يعرف اكثر من سواه ماذا يعني ان يكون رئيس وزراء في ظل رئيس يريد العدو تهميشه بل اطاحته، فهذا لا يفيد رئيس الوزراء بشيء بل يسيء الى عمله، واذا كان الهدف دفع رئيس الوزراء ليكون اداة التهميش والإطاحة فإنه يكون كمن يتلقى هدية مسمومة. ولعل "ابو مازن" يعرف اكثر من أي أحد آخر لماذا وصلت الحال ب"ابو عمّار" الى ما هو عليه، فالمسألة لا تتعلق بالاصلاح او بمكافحة الارهاب او بتنظيم قوى الامن او حتى بمكافحة الفساد، وانما تتعلق خصوصاً بقضايا المفاوضات والحل النهائي. وهنا كان "ابو عمار" و"ابو مازن" شريكين في الرؤية وان اختلفت المقاربة، فما لا يتنازل عنه "ابو عمار"، لا يتنازل عنه "ابو مازن". وحين يكون القائد الفلسطيني صاحب مشروع وطني فإنه لا بد ان يصطدم بالاسرائيليين واستتباعاً بالاميركيين. يبدو "ابو مازن" كأنه آت ببرنامج من نقطة واحدة: وقف الانتفاضة. صحيح انه انتقد "عسكرة" الانتفاضة، وألقى عليها اللوم، لكن وقف هذه العسكرة ليس مرتبطاً بالفلسطينيين وحدهم، مثلما ان العودة الى التفاوض لا ترتبط بهم وحدهم. وكرئيس للوزراء سيكون "ابو مازن" مضطراً للتعامل مع مجتمعه، ومع الجميع، بمن فيهم من رفضوا تعيينه ويرفضون وقف الانتفاضة بكل الوسائل التي اضطرت اليها. ومثله مثل "ابو عمار" او اي قائد آخر لن يستطيع ان ينفذ الرغبات الامنية للاسرائيليين في الوقت الذي يواصل هؤلاء حربهم الشعواء على شعبه، بل لا يستطيع التهدئة بالقمع وحده من دون مقابل، فشارون نفسه جرّب معاودة الاحتلال وحبس الفلسطينيين في بيوتهم ولم يحقق ما أراد. المهمة صعبة، خصوصاً ان الاميركيين والاسرائيليين يتوقعون من صاحبها ان يواجه شعبه، اما هو فلا يستطيع شيئاً من دون دعم شعبه، والتفاهم معه. ثم انه يراهن على المفاوضات لكن الاميركيين والاسرائيليين يراوغون ويكذبون، وهو قد يقبل بحلول واقعية الا انه لن يقبل بأن يكون مخدوعاً ولا يستطيع ان يكون "كارزاي فلسطين". ويبقى ان المهمة تفترض ايضاً فريق عمل يحيط برئيس الوزراء ويكون افراده مؤهلين ذوي سمعة جيدة، فهناك من جُرِّبوا وفشلوا وهناك من نجحوا وهناك خصوصاً من لم يُعطوا الفرصة. مطلوب من "ابو مازن" ان يفاجئ الجميع برؤية وادارة انضجهما الابتعاد عن سخونة المواجهة. بل قد يكون مطلوباً من "ابو مازن" ان يفاجئ "ابو مازن".