ربّما، لم تنل أديبة عربية ما نالته مي زيادة من ألقاب، «فقد لقّبها ولي الدين يكن بملكة دولة الإلهام، وخليل مطران بفريدة العصر، ومصطفى صادق الرافعي بسيدة القلم، وشكيب إرسلان بنادرة الدهر، ويعقوب صروف بالدرّة اليتيمة، والأب أنسطاس الكرملي بحيلة الزمان، والشاعر شبلي الملاط بنابغة بلادي، ومصطفى عبد الرازق بأميرة النهضة الشرقية، وفارس الخوري بأميرة البيان، وعبد الوهاب العزام بالنابغة الأدبية ...(133)، هذا ما ضمّنه واسيني الأعرج في روايته الأخيرة «مي ليالي إيزيس كوبيا»، الصادرة حديثًا عن دار الآداب، لكنّ هذه الألقاب على مجد معانيها، ورصانة قائليها وشهرتهم، لم تُعِد إلى القلب الذي أحرقته الخيبات والمظالم والعذابات لحظة أمل واحدة. هذه الألقاب على كثرتها، كانت ابنة راهنيّتها ومزاج قائليها، تملّقًا أم صدقًا، حين يجتمعون في صالونها الأدبي الذي فتحته وقلبها لهم على مدى ربع قرن، وحين ظُلمت واتُهمت بالجنون ورميت في العصفورية، كانوا أوّل من طعنوا فيها، إمّا بهربهم وموقفهم الحيادي المترقّب، وإمّا بإمعانهم في تأكيد جنونها لأسباب غيرتهم غير الخفيّة، وغيرهم، «كان قلبي مقهورًا من جيش الأصدقاء هناك... ما قرأته من تصريحات العقّاد، طه حسين، سلامه موسى جرح قلبي وقسمه إلى نصفين، وجعلني أفكّر في كل ما مضى وأتساءل أيّة حداثة، وأيّ مثقف ملتزم، عندما ترى صديقك الذي يشترك معك في هموم الدنيا، ينساك، بل يوغل فيك سكّينة صدئة؟(ص297)، ما يعيد الى الواجهة قضيّة الصداقة في مجتمع الثقافة والمثقّفين والأقلام والصالونات الأدبيّة من عصر النهضة إلى اليوم. هذه الرواية- المخطوطة، تحوي تفاصيل مأساتها من ربيع 1936 إلى خريف 1941، تطرح معاناة مي زيادة من ظلم ذويها، وتآمرهم عليها للاستيلاء على أملاكها، وبخاصّة، ابن عمها جوزيف، الذي وهبته روحها وقلبها، خيبتها الأولى كانت حين قرّر الزواج بسيدة فرنسية، وخيباتها اللاحقة، حين وثقت به بعد فقدان والديها، وسلّمته ادارة ممتلكاتها. معاناة مي زيادة مع الناس والأطباء ونوبات الصراخ والألم والمهدئات، على مدى ثلاثمئة ليلة وليلة في جحيم العصفورية، هي رواية قلب الأنثى الذي يحبّ بعمق، ويثق بعمق، ويأمل ويصبح هشًّا تسهل أذيّته، بكلمة وموقف، وعلى رغم كلّ العذابات واحتراق القلب ووهن الجسد، لا يتحوّل الحبّ إلى حقد، بل يتحوّل إلى «بياض شبيه بالعدم(ص304). من خلال معاناة مي زيادة وطعنها وعذاباتها وخذلانها من الأقربين، تطرح هذه الرواية- المخطوطة، أو هذه السيرة، «محنة المثقف العربي في أوهامه المرضيّة، الذي استقرّ على ازدواجيّة مقيتة، سترافقه إلى قبره بعد أن قبل بها واستكان لها(ص305). «كيف ينسحب ويصبح غير معني بكلّ ما قاله ويمسح كلّ ما قاله في الآخرين» (ص305). وربما، في معالجة واسيني الأعرج روايته عن مي زيادة من هذا المنظور، يكون قد أنصفها وأنصف كل مثقّف ظلمه الأقربون، في ثنائية الرؤيا، بين الماضي والحاضر، وفي الوقت عينه، يعيد الى الواجهة رسالة الأديب ومهمّته بعد أن اختلطت الأدوار والمفاهيم والرؤى. لقد أنصفها واسيني الأعرج، حين أعاد مخطوطها في ليالي العصفورية إلى النور، أنصفها حين جعل اكتئابها الحادّ نتيجة شعوررها بالغربة والوحدة بعد موت والديها، جنوناً في نظر الأقربين الذين يترّبصون بها فرصة استغلال، حين جعلتها تربيتها المحافظة المتشدّدة وتوقها الى أن تهب نفسها بالكليّة لمن يبادلها بالمثل وليس كلامًا عشقيا سريًّا بحثًا عن تعددية غير معلنة. أنصفها حين أعاد مجد الحبّ الكياني لمن يهب نفسه بالكليّة حين يحبّ وعقله وروحه ووجدانه لكنّه اصطدم بقسّوة المحبوب وظلمه. أنصفها حين جعل هشاشتها نقاوة كالغيوم تقطّر ندى من سموات صافية لم تعكّرها وحول المصالح. هي قضيّة مجتمع شرقي يدّعي أنّه تحرّر لكنه يرفض كسر معوّقاته الداخليّة. في هذا المجتمع الشرقي، دفعت مي زيادة ثمن ريادتها وحريّتها، ثمن خروجها من دائرة العادي، على رغم كل أسمائها المستعارة التي استخدمتها، منها «إيزيس كوبيا»: «كان عليّ أن أخرج من دائرة البشر وأكتب باسم إلهة. استعرت من ماري البداية والنهاية. مي تصغير ماري عند الإنكليز. إيزيس كوبيا يكاد يكون الترجمة الحرفية لماري زيادة. إيزيس أخت الإله وعروسه. ماري أم الابن وعروس البحر. كوبيا اللاتينية مرادفة لزيادة، أي الشيء الفائض» (ص 206). أمّا حضور جبران خليل جبران في الرواية، فكان خجولًا جداً، ربّما لأنّه خارج مرحلة المخطوطة الزمنية، إذ بقي كأيقونة رمزًا، روحًا تذكره مع أمّها وأبيها حين اشتداد حنينها إليهم. هذه المجنونة، كما كان يحلو تسميتها لكثير من الشامتين بها، هي مجنونة لأنّها لم تستطع أن تصدّق أنّ ثمة قلوبًا قاسية متحجّرة ظالمة لا تعرف للحبّ معنى وقيمة ووجودًا. واسيني الأعرج اليوم في هذه الرواية، يسقي هذه «النبتة الغريبة» في «الزمن الغريب».