عبارة دونالد رامسفيلد التي صارت شهيرة، واستفزت الأوروبيين، ما زالت تسيّل كثيرا من الحبر في وسائل الاعلام الأوروبية. فنعته للدولتين الاوروبيتين فرنساوالمانيا ب"أوروبا الهرمة" لكونهما تعارضان، بحماس متفاوت، الحرب على العراق من دون قرار لمجلس الأمن وقبل ان تنتهي مهمة المفتشين الدوليين، لم يكن جارحاً بقدر ما كان جارحاً الجزء الثاني من كلامه: فهو رهن مستقبل القارة الأوروبية بشطرها... الشرقي. والجارح لمشاعر الأوروبيين في هذه "الرؤية" ان دولاً عدة ومهمة في أوروبا الغربية، كبريطانيا وايطاليا واسبانيا، تتسابق اليوم لتظهر مدى ولائها لواشنطن، من دون ان تعبأ بالتصاريح الفرنسية - الألمانية. غير أن الفرق بين ولائها وولاء دول أوروبا الشرقية للادارة الاميركية يكمن في وجود غالبيات ساحقة في مجتمعات بلير وبيرلوسكوني وأثنار تعارض الحرب على العراق، بينما تقف مجتمعات أوروبا الشرقية صفاً واحداً مع حكوماتها في تأييد مواقف بوش وخططه الحربية. كذلك فالدول الاوروبية الغربية التي تؤيد المسار الاميركي، كانت قد دخلت الاتحاد الأوروبي منذ سنوات عدة، وبالتالي تأقملت مع سبل الحوار الداخلي للاتحاد وادركت أين تقع الخطوط الحمر في الاختلاف، كما اضطرت ان تأخذ بعين الاعتبار شغف الشعبين الايطالي والاسباني بالمشروع الأوروبي وحذر البريطانيين من الهيمنة الاميركية. اما دول أوروبا الشرقية، فلم تدخل الاتحاد بعد، وعبارة رامسفيلد لا تبشّر بالكثير من الخير في خصوص انخراط هذه الدول في تقرير المستقبل الأوروبي، كما ان مجتمعاتها لم تفهم بعد الفارق بين دخول حلف الناتو وعضوية الاتحاد الأوروبي. فكأن الأمر عندها مجرد صفقة اجمالية لطمأنة شعوب أوروبا الشرقية الى انتهاء الخطر الشيوعي عليها. فحتى اسابيع قليلة، كانت الصحافة الفرنسية، على اختلاف أصولها الثقافية ومشاربها الايديولوجية لوفيغارو، لوموند، ليبيراسيون تدافع عن الشراكة الأوروبية - الاميركية وتنتقد مواقف المعادين للعولمة الحانقة من السياسة الاميركية. فظاهرة "التطرف الوسطي" في الاعلام الفرنسي كانت الحليف الأول للمدافعين عن السياسة الاميركية في الوجه العريض والثقافي لهذا المدلول. اما في المانيا، فإن الدور الاميركي في إعمارها بعد الحرب، وفي الدفاع عنها وهي على حدود المعسكر الشيوعي، ظل العنصر الأهم لدى الاعلام غير المتطرف يميناً أو يساراً في صياغة خطاب حول سياسات الولاياتالمتحدة. وحتى بعد عبارة رامسفيلد الحمقاء ظلت صحيفة "دي فيلت" اليمينية تحذر من خطر حلف الماني - فرنسي معاد لأميركا، أو حتى منافس لها. فوسائل الاعلام اليمينية لم تهضم بعد فوز شرودر الانتخابي، على رغم ضعف حكمه الناجم عن نتائجه الاقتصادية الوخيمة، وذلك بسبب عدائه للحرب على العراق. كما انها تخشى ان يستفيد الحزب الاشتراكي الديموقراطي الحاكم، في الانتخابات الفرعية التي تجري اليوم، من موقفه من الحرب. لكن حتى صحيفة اليسار "سودتش زايتونغ" أخذت تحذر قراءها من خطر الشعبوية التي قد تنتج عن العداء لواشنطن. بيد أن هذه التحذيرات أو التذكير بالفضل الاميركي على المانيا، لم تمنع الاعلام الالماني من شن حملة ضارية على رامسفيلد. فصحيفة "دي فيلت" حللت شخصية وزير الدفاع الأميركي بأنه "كالعديد من الاميركيين يظن ان شعبه شجاع لأنه سافر الى العالم الجديد، بينما الجبناء ظلوا في أوروبا...". اما صحيفة "فرانكفورتر الغمين زيتونغ" فوجدت في عبارة رامسفيلد الدليل على فقر الرؤية السياسية الاميركية التي يكمن مقياسها في ولاء الشعوب والدول لها. فالأميركيون، في عرف الصحيفة، تراجعوا كثيراً اذ انهم لم يعودوا يجدون حلفاء لهم الا لدى الشعب البولندي أو التشيكي...". لكن الطاقم السياسي الالماني تجنب الرد الجارح على رامسفيلد، على عكس ما فعلت فرنسا. فقد علقت، مثلاً، الوزيرة الديغولية روزالين باشلو صديقة العرب والمثليين تعقيباً على المسؤول الاميركي، بكلمة: "طز". على أن الاعلام الألماني وجد في العبارة الاميركية ولادة جديدة لأوروبا السياسية، بحسب صحيفة "فرانكفورتر ردشنو"، وضرورة ايجاد قوة اوروبية تحمي من جنون سلاح الدمار الشامل دي فيلت، ونشأة مثال أوروبي للعالم عليه ألا يخجل بقوته وقيمه تاغنزانزيغر. اما "دير شبيغل" فترى في حال فشل الحرب الاميركية القادمة، فرصة لأوروبا للتقدم في بناء نفسها وصهر شعوبها،كما توافق على فكرة وزير خارجية موحد لأوروبا، "لكي تفهم الولاياتالمتحدة ان القرارات الحاسمة لا يمكن اتخاذها من دون الند الأوروبي". وأخيراً تذكّر المجلة اصدقاء أميركا في أوروبا بأن عليهم سماع أصوات الناخبين، لكي لا يُنعتوا من قبل أصدقائهم ب"الكلب الأمين للبيت الأبيض" حسب تعبير وزير الدفاع العمالي البريطاني السابق بيتر كيلفويل لدى التحدث عن توني بلير. في السنوات الماضية، كانت معظم الأحزاب المؤيدة للفكرة الأوروبية في أوروبا، اذا ما استثنينا الخضر، اطلسية الهوى. وعلى صعيد الشرق الأوسط، بدت مؤيدة أو متعاطفة مع اسرائيل ونافرة من العالمين العربي والاسلامي... وها هي سياسة بوش وقد أخذت تحول "التيار الأوروبي" الى تيار ديغولي يرى في الاختلاف مع الولاياتالمتحدة بعضاً من هويته.