في الوضع الاعلامي الاوروبي الحالي تتميز المانيا عن سائر الدول الاخرى باستمرارية زخم صحافتها المطبوعة ومصداقيتها، او على الاقل بشعور الجمهور بذلك وتفضيله للصحف على نشرات الاخبار التلفزيونية. وذلك على رغم مجمل الفضائح التي عصفت بالصحافة الالمانية بعد سقوط جدار برلين، واكتشاف ان عدداً منها وأعداداً من الصحافيين كانوا عملاء لجمهورية "المانيا الديموقراطية"، ونشطوا خلال الحرب الباردة في بث اخبار كاذبة او في الترويج غير المباشر لنظام برلينالشرقية، لكسب حياد القارئ في المانيا الغربية وقتذاك. ففي كتاب اصدره أخيراً في برلين هو برتوس كنابي احد المسؤولين السابقين للطلاب الخضر في المانيا، وعنوانه "السحر الخفي لألمانيا الديموقراطية"، يظهر ان اجهزة المانياالشرقية وصلت حتى الى اختراق المجلة الشعبية "شترن" والسيطرة على خطها السياسي طوال عقود الحرب الباردة. وهكذا، منذ 1963، اي بعد عامين على بناء الجدار الذي جزَّأ برلين، شرعت "شترن" تصدر تحقيقات ايجابية عن المانيا الديموقراطية، وتنشر مقابلات مع المسؤولين السياسيين في برلينالشرقية يطالبون فيها حكومة بون بهدم جدار برلين ووقف الحرب الباردة! هذا الخط التحريري لم يقتصر على مجلة شترن. فعملاء برلينالشرقية عرفوا كيف يجذبون عدداً واسعاً من العاملين في صحيفة "دي زايت"، اضافة الى صحف المانية لها انتشار واسع في المحافظات والمناطق الريفية... وكما قلنا، الغريب ان هذه السلسلة من الفضائح لم تؤدِ الى هرب القارئ الالماني. فاليوم، 70 في المئة من هذا الشعب يقرأ صحيفة يومياً وعدد الصحف يصل الى 370 نشرة مختلفة في كامل انحاء البلاد. هذه الصحافة، على عكس شقيقاتها الاوروبية، لا تعرف الازمة الاقتصادية. خمسة وعشرون مليون عدد يُوزع يومياً في ارجاء المانيا. والجيل الجديد، اي جيل التلفزيون، ما زال يقرأ الصحف بنسبة 63 في المئة، وهي نسبة لا نجدها في اية دولة اوروبية ليس فقط في مجال قراءة الصحف، بل القراءة بشكل عام. وهكذا ما برح 41 في المئة من الشعب الالماني يثقون بمطبوعاتهم قياساً ب30 في المئة يثقون بأخبار التلفزيون و11 في المئة بالراديو. وسر هذه القوة يعود الى حسن التوزيع الذي يفوق مثيله البريطاني. فحوالى 70 في المئة من الصحف الالمانية تصل يومياً الى قرّائها عبر موزعين خصوصيين لدور النشر. ويرجع ايضاً الى صلابة المجموعات الصحافية التي وهذا من خصوصيات المانيا لا تزال مجموعات تتملكها عائلات ولم تدخل بعد عالم البورصة. فمجموعة "سبرينغر" التي تصدر صحيفة "بيلد" الشعبوية اربعة ملايين عدد يومياً تسيطر على 70 في المئة من السوق الالمانية، تليها مجموعتا "فاز" التي تصدر حوالى اربعين صحيفة و"هولتز برينك" التي تصدر اسبوعية "دي زايت". وكما هي حال الصحافة الاميركية، فإن قوة الصحافة الالمانية يعود ايضاً الى سيطرتها المحلية. فمن اصل 370 صحيفة، ست فقط توزع على صعيد كامل البلاد، اما البقية فتختص بالمناطق والمدة ولا توزع خارج مراكز صدورها. كذلك فإن هذه الصحف تلعب على تناقضات البلاد السياسية وتحاول الا تعطي لذاتها طابعاً حزبياً واضحاً. ف"فرانكفورتر ألغمان زايتونغ" المحافظة في صفحاتها السياسية تغدو ليبرالية في صفحاتها الاقتصادية واشتراكية وبيئوية في الزوايا الثقافية! و"سوديتش زايتونغ" الاشتراكية والبيئوية تُصبح ليبرالية في صفحات الاقتصاد. وحده التابلويد الشعبوي "بيلد" لا يأبه بهذه المعايير، ويستخلص قدرته على استقطاب الجمهور عبر تقديم اخباره، كما تقول صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية، كنشرة انباء متلفزة على الورق. وعلى عكس مجمل الاعلام الاوروبي، استطاعت بيلد ان تُفشل موجة الصحف المجانية القادمة من النروج والسويد، والتي تعد، في الشتاء المقبل، بتصديع الصحافة الفرنسية، عبر قرارها اصدار صحيفة لها في باريس. في المانيا صحيفة "20 دقيقة" المجانية ذات الرساميل النروجية قررت التوقف بعد اقل من سنتين على الصدور لعدم انجذاب القراء لها. وبدورها فقوة المطبوعات تمنع الحكومة الالمانية من اتخاذ اي قرار يعاكسها وذلك على رغم المصاعب التي يلقاها حالياً وزير الدفاع بعد نشر عدد من هذه الصحف صوره مع عشيقته في عطلته الاسبانية. لذا فإن حكومة غيرهارد شرودر قررت اتخاذ عدد من الخطوات في مجال اعلام الإنترنت. بيد ان حسن النوايا لا يوصل دائماً الى حسن النتائج. فوزير الداخلية الالماني صمم على محاربة مراكز النازية على الشبكة. غير انه اكتشف ان معظم هذه المراكز ليس على الاراضي الالمانية، بل في الولاياتالمتحدة الاميركية. وهذا لم يمنعه من تقديم مشروع مفاده مهاجمة هذه المراكز عبر اغراقها في وابل من الرسائل الالكترونية بغاية تعطيلها التقني. إذاً حرب المانية على "النت" ضد شركات خاصة اميركية... لكن حكومة شرودر لم تجسر على دخول هذه المعركة.