لا شيء يبرر اتهام الرئيس جورج بوش النظام العراقي بعلاقة مع تفجيرات 11 أيلول سبتمبر، سوى كونه الطلقة الأخيرة التجريبية، ليملأ جنود أميركا في الخليج والشرق الأوسط مخازن أسلحتهم استعداداً لغزو العراق. ولا شيء يبرره في الواقع، سوى قلق بوش من تدنٍ سريع في شعبيته، ومن صدى أصوات متزايدة في الكونغرس تشكك في صدقية أدلة ادارته على انتهاك بغداد القرار 1441، والأهم، على تهديدها أمن الأميركيين في الخليج وما وراء المحيطات. الرئيس الأميركي استنفد كل الوسائل ليقدم المبرر السياسي والأخلاقي لاقتلاع نظام الرئيس صدام حسين، وترك لوزير الخارجية كولن باول مهمة عرض البراهين في مجلس الأمن، لعلها تقنع المترددين والمشككين في نيات واشنطن، بسقوط آخر ورقة "ديبلوماسية" مع بغداد. والأكيد أن تلك ليست ديبلوماسية الحوار ولا التفاوض، بل آلية مبرمجة، لغتها العصا، وأداتها المفتشون الذين لن يرفعوا المقصلة عن الحكم العراقي، ولو قدموا شهادة ب"نظافته". وأمام المشككين في سلوك البيت الأبيض، وقف باول ليعترف بأن السياسة "العراقية" للإدارة لم تنل تأييداً في "عدد كبير من الأمم الأوروبية ودول أخرى"، لئلا يقول صراحة انها نهج مكروه، سمته التهور والانزلاق إلى البطش، باسم 11 أيلول. وبعيداً من الحكمة اعترف الوزير اللاجئ إلى صفوف "الصقور" في الإدارة، بأن "بعض السياسات" الأميركية يواجه "بعض الصعوبات"… لكنه، وفاء لطموحات بوش، وأولها الولاية الرئاسية الثانية، طمأن الجميع إلى أن "التمسك بالمبادئ" الحالية هو الخيار الأوحد، ولو بقي الفراق بين الولاياتالمتحدة وبين تلك الأمم التي تساق قسراً إلى أهداف أقل ما يقال فيها إنها ليست نظيفة، ولا بيضاء أو تبشر بأمن أفضل للأميركي، وباستقرار للعالم. التف باول على نفسه خلال دقيقتين، ليظهِر مجدداً أن امتحان السياسة عسير له، فلا منطق مقنعاً في أعذاره، للأوروبي والعربي بل الأميركي العاقل. ولا يُفهم من اعترافه "الحكيم" سوى إصرار على استعداء الأمم، إذا خالَفت، فالقرار اتخذ لخوض الحرب، والمهمات وُزِعت على الشركاء. ألم يقل الملك عبدالله الثاني ان الحل السلمي بات معجزة، أي أن القَدَر الآتي هو الحرب على العراق التي "روضت" واشنطن العالم لتقبُّل بشاعتها وأثمانها، بحجة استعادة أمنه واقتلاع "رأس الشر"؟ لعل رئيس الوزراء البريطاني توني بلير أجاد أكثر من باول أداء دور وزير خارجية الولاياتالمتحدة، مروّجاً لأهداف الحملة "النبيلة"، وواعداً بسلم في الشرق الأوسط بعد وضع اليد على العراق. يكفي أنه الحليف الأمين الذي زعزع صلابة الصوت الفرنسي - الألماني المتمسك بأخلاقية شرعية في التعامل مع الأزمة، والبحث بصدق عن حل سياسي، لأن زلزال الغزو لن تنحصر ارتداداته في العالم العربي، بل على عكس "فلسفة" تشيني، ليس من شأن اجتياح بغداد سوى تغذية نار الإرهاب بوقود أميركي! وبصرف النظر عن "نظافة" الوسيلة التي اعتمدها بلير في طعن الشقيقين الألماني والفرنسي رسالة القادة الأوروبيين الثمانية، فهو أكمل بنجاح ديبلوماسية الالتفاف على معارضي الحل العسكري، بعدما حسم الرئيس فلاديمير بوتين أمره، متخلياً عن التذبذب في تعاطفه مع الحل السياسي، بفضل صفقة مع بوش. وهكذا انحسرت متاعب باول، وإن كان الأرجح أنه سيرسب أيضاً في امتحان الأربعاء، حين يقدم تلك الأدلة "الدامغة" على ما فعلته بغداد شراً، في مصانع الصواريخ ومختبرات "الجمرة الخبيثة"… لكن هيئة المحلفين جاهزة لانقاذه، بعدما فعلت الرشاوى الأميركية فعلها. ولن يكون منصفاً اتهام رئيس لجنة التفتيش هانس بليكس بتلقي احداها "هدية" من بوش، ليتهم العراق بالكذب، بعدما فند في اليوم ذاته اتهامات واشنطن لصدام بالتجسس على المفتشين وتهريب العلماء. ولكن أي "لغز" في شهادات بليكس الناطقة بلغات متعددة؟ الحرب آتية، وبوش ضمِن العسكر، والحلفاء، فباشرت إحدى العواصم العربية، غير المتاخمة للعراق، حملة قاسية على صدام، تكاد أن تكون نسخة طبق الأصل لما حصل قبل أيام من حرب الخليج الثانية. لكل دوره ومصالحه، تتعدد الأساليب والأعذار، وينقلب الخطاب السياسي على ذاته سريعاً… لا مشكلة، لكل دوره وحصته، وفي ساعة الحسم يمكنه أن يحتمي ب"الشرعية الدولية"، بالأممالمتحدة التي ستقول كلمتها بعد 14 شباط: إما دفنها وإما نعي ديبلوماسية الفرصة الأخيرة. وفي زمن الالتفاف السريع، بعشرات الدرجات، من الضد إلى الضد، كان جيرينوفسكي مثلاً فظاً: صديق صدام انقلب عليه، وحرّض على العراق في إسرائيل! والمقارنة ظالمة بالطبع إذا ادرِج الزعيم الروسي "المتشدد" في مواجهة عملاق مثل الزعيم الإنساني نيلسون مانديلا. مانديلا لم يبدل لسانه، منذ بداية الأزمة. ما زال قلقاً على مصير المدنيين في العراق، وصوت الأممالمتحدة. اعتبر أن بوش وبلير يقامران بمصيرها، ولم يبالغ إذ قال إن الرئيس الأميركي يقحم العالم في مجزرة في العراق.