رئيس المفوضية الاوروبية الاسبق جاك ديلور وصف اوروبا منذ سنوات بأنها عملاق اقتصادي وقزم سياسي ودودة عسكرية. هذا ما يفسر حقيقتين: الاولى ان دول الاتحاد الاوروبي تعرف هذا الامر وتتصرف على اساسه رغم طموحات كبارها مثل فرنساوالمانيا لتغيير المعادلات عن طريق العمل المشترك. والثانية ان الولاياتالمتحدة لا تريد قيام قوة تنافسها اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً. انها تستغل ضعف بنية الاتحاد لخلق انشقاقات تسهل تنفيذ مخططاتها واستراتيجياتها وتمنع تحول "القزم والدودة" الى عملاق. من المعروف ان اوروبا غير مستعدة لمواجهة القوة العظمى من اجل دولة اخرى العراق أو فلسطين مثلاً لكنها قد تفعل لاسباب اخرى. ما يقوله الرئيس بوش "ان من يقف ضد الحرب انما يقف الى جانب صدام حسين" وتردده ابواقه في اوروبا هو تبسيط لحرب مدمرة سيتأثر بسلبياتها الشعب العراقي أولاً، فضلاً عن ان هدفه هو تضليل الرأي العام المعارض للحرب، خصوصاً في "اوروبا الهرمة" حسب تعبير رامسفيلد التي لا تزال تفكر من منظور احترام حقوق الانسان اكثر من "اوروبا الجديدة" معظم دولها من المعسكر الاشتراكي السابق ومن دون شك اكثر من الولاياتالمتحدة. ان مسؤولية التباين في وجهات نظر دول الاتحاد بين مؤيد و معارض لمواقف الولاياتالمتحدة - من قضايا مهمة كالحرب على العراق أو الاحتلال الاسرائيلي، أو قرار نشر مظلة صواريخ بعيدة المدى، أو رفضها المشاركة في محكمة الجزاء الدولية، أو عدم توقيعها على اتفاقية "كيوتو" لحماية البيئة، أو اجراءاتها في تجارة الصلب، الى ما هنالك من قضايا عالقة - لا تتحملها الادارة الاميركية وحدها. لكنها عوامل رئيسية في هذا الانقسام. فعندما اتت ساعة اتخاذ القرارات المهمة، اعاد بعض الاوروبيين النظر في العلاقات الاستراتيجية مع الولاياتالمتحدة بعدما شعروا بأن ثمة خطراً يهدد مستقبل اتحادهم من الجوانب الاقتصادية والتجارية والسياسية قبل العسكرية. الدراسات التي قامت بها شركة "بريتيش بتروليوم" أخيراً تؤكد ان الولاياتالمتحدة لا تملك من احتياط البترول سوى ما يكفيها لمدة 13 سنة واوروبا لمدة ثماني سنوات. وعندما ستصبح هذه الاخيرة خاضعة للارادة الاميركية في حصولها على الخام سيكون احتياط السعودية والعراق وحدهما كافياً لمدة 130 سنة. لا يمكن ان نحمّل الولاياتالمتحدة بمفردها مسؤولية انعدام وجود سياسة اوروبية موحدة رغم انها تعرقل ولادتها من الداخل وهي تملك الآليات الكافية لذلك. فوجود وزير الخارجية الاسبانية الاسبق الاشتراكي خافيير سولانا، الذي انتقل خلال حوالي عشر سنوات من التظاهر ضد دخول بلاده في منظمة حلف الاطلسي ليصبح اميناً عاماً للحلف بمباركة الاميركيين، فمسؤولاً للخارجية والامن والدفاع في الاتحاد بمباركتهم ايضاً، حتى تجاوز صلاحيات المفوض الاوروبي للسياسة الخارجية كريس باتن وبات يدير السياسة الخارجية والامنية والدفاعية للاتحاد، هو اكبر ضمان للاميركيين. وقد سماه البعض أخيراً "الناطق بأسم الولاياتالمتحدة في اوروبا". يعزز هذه النظرية موقفه الاخير من ادلة كولن باول ضد العراق - التي وصفها بالصلبة جداً- رغم انه تعارض مع موقف فرنساوالمانيا وبلجيكا وغيرهما وتوافق مع بلير وبرلوسكوني ورئيس حكومة بلاده المحافظ اثنار. سولانا لا يزال احد اركان الحزب الاشتراكي الاسباني الرافض للحرب لكنه خرج عن موقف حزبه واعتمد، مثل اثنار، سياسة الرئيس بوش مما جعل أحد كبار المسؤولين الاشتراكيين يصفه ب "الموظف الرسمي". وزير الخارجية الاميركي الاسبق هنري كيسنجر كان يتهكم على الاوروبيين بقوله:"عند حصول الازمات لا يمكنني الاطلاع على رأيهم لأنه يصعب عليّ الحصول على كل مفاتيح بلدانهم الهاتفية وعلى العدد الكافي من المترجمين". لكن ماذا فعلت اوروبا، من جهتها، للتحدث بصوت واحد رغم انها لا تتكلم لغة واحدة؟ انها قطعت اشواطاً مهمة منذ توحيد عملتها وان كانت غير كافية. كان آخرها المشروع الالماني الفرنسي حول مستقبل اوروبا منذ شهر لدعم مهمة الرئيس الفرنسي الاسبق فاليري جيسكار ديستان في مشروع التوافق على "هيكلية" الدستور الاوروبي. لا شك ان اوروبا الموحدة تدفع اليوم ثمن توسيعها لا توحيدها. ومن السذاجة الاعتقاد ان عملية التوسيع ستمرّ من دون عقبات. المتضررون من اتحاد اوروبي قوي وغني قوامه 500 مليون نسمة، اي اكبر من الولاياتالمتحدة و اليابان معاً، لن يترددوا في استغلال اي خلل في التفاهم بين دوله لتوسيع الشرخ القائم. ربما تكون اوروبا استعجلت في عملية كان يلزمها التثبت اكثر من نضوج الحكام وتعلقهم اكثر بأوروبيتهم بريطانيا لم تعتمد بعد العملة الموحدة وبولونيا تلقت مساعدات من الاتحاد بعد قبول عضويتها فاشترت بقيمتها طائرات اميركية. دول "اوروبا الجديدة" لا تزال ضعيفة و تخاف سطوة القوي وبالتالي فإن استفرادها اسهل. الانشقاق الفعلي في اوروبا بدأ بين الشعوب والحكام قبل حصوله بين حكوماتها ودولها. فبلدان اوروبا تمرّ اليوم بمرحلة توافق بين بعضها بعضاً. وانضمام عشرة دول جديدة اليها سيكلفها ثمناً سياسياً واقتصادياً باهظاً، والقيّمون عليها يعرفون ان المشروع كبير ومنافعه كثيرة لكن صعوباته اكثر. فقوة الارادة نفسها التي ابدتها دول اوروبا لعملية التوسيع تواجه بقوة مماثلة تسعى الى عرقلة المشروع. علق الاكاديمي الاميركي نورمان بارانباوم اخيراً على رسالة الدعم التي وقعها بعض زعماء "اوروباالجديدة" لسياسة الرئيس بوش فشكرهم "لوقوفهم الى جانب الحاكم"، لكنه لامهم "لعدم وقوفهم الى جانب الشعب الاميركي الذي يفكر بشكل يختلف عن الحاكم". هكذا تفكر شعوب جميع بلدان العالم بما فيها شعوب البلدان التي وقعت رسالة الدعم. 91 في المئة من شعب اسبانيا يرفضون الحرب، حسب آخر استطلاع. الرؤساء الاميركيون من روزفلت الى ترومان وبعدهما كارتر عبروا دائماً عن اقتناعهم بأن "ضمان تأمين البترول امر استراتيجي وان الشرق الاوسط منطقة استراتيجية"، ففي الوقت الذي كانت الادارات الاميركية المتعاقبة تضع استراتيجيات وخططاً لتأخير نجاح الاتحاد الاوروبي في تحوله الى قوة تنافسها، كان الاوروبيون يراهنون على دراسات تؤكد ان الولاياتالمتحدة ستشهد عام 2010 ذروة الركود او الانهيار الاقتصادي حين سيبلغ الاتحاد الاوروبي ذروة النمو. لكن احداث 11 ايلول سبتمبر 2001 قلبت المقاييس رأساً على عقب وفتحت امام الولاياتالمتحدة، باب المبررات، اولاً للسيطرة على نفط العالم الذي يدير الاقتصاد في جميع البلدان، وثانياً لتسويق منتجاتها، خصوصاً العسكرية منها وبيع ما خزنته لتستمر معاملها في الانتاج. ومعظم الاوروبيين مقتنع بأن مبدأ "دم مقابل بترول" لا مبرر له وأنه غير مقبول ويعرفون ان الرئيس بوش ونائبه ديك تشيني ومستشارة الامن كوندوليزا رايس كانوا مسؤولين في شركات بترول اميركية قبل الوصول الى الحكم. موقف المانيا و فرنسا المعارض للحرب على العراق كان معروفاً و لم يفاجئ احداً شأن موقف برلوسكوني واثنار وبقية المؤيدين. والتعابير التي يستخدمها الرئيس بوش في خطاباته يرددها هؤلاء كما هي، حتى في برلمانات بلدانهم. اثنار، مثلاً، قال ان المانيا و فرنسا خرجتا عن موقف الاتحاد و ليس العكس، وكأن من يقف الى جانب الاميركيين هو اكثر اوروبية من فرنسا و المانيا، علماً بأن هذه الاخيرة دولة صناعية يقوم اقتصادها على الانتاج، وأي زيادة في سعر البترول تؤثر سلباً في اقتصادها. اما فرنسا فتشكل شركاتها الاكثرية بين الشركات الاجنبية العاملة في العراق و ستحل مكانها حتماً شركات اميركية بعد السيطرة على هذا البلد. والمصير ذاته ستلقاه شركات روسيا والصين. ليس لدى اثنار وبرلوسكوني ورفاقهما ما يخسرونه في العراق لكنهم كسبوا ود "الامبراطور". من يشارك في هذه الحرب سيدفع نفقاتها ويكسب ارباحها الغرم بالغنم، والفرنسيون والالمان يعرفون جيداً ان الولاياتالمتحدة "لن تدفع ما عليها، وان ما لها ولغيرها هو لها ما عليها هو عليها وعلى غيرها ايضاً" ديونها لمنظمة الاممالمتحدة تبلغ مئات ملايين الدولارات مثلاً. اما اسبانيا فمشاركتها العسكرية رمزية حتى الآن وهي تنتظر مكافأة كبيرة من "الصديق الاميركي" لقاء وضع القواعد العسكرية ومطار مدريد في تصرف قواته. ووقوف الحكومة الاسبانية الى جانب الاميركيين ربما يعود الى هذا الامل، بالاضافة الى المساعدات الاميركية في مجال مكافحة ارهاب منظمة "ايتا" الباسكية، علماً بأن فرنسا هي التي تضرب "ايتا" فعلاً في حين تصفها وسائل الاعلام الاميركية ب "الحركة الانفصالية" رغم الاعتراض الرسمي الاسباني خصوصاً أن الاتحاد الاوروبي وضعها على لائحة الارهاب. امر آخر ربما دفع اثنار الى هذا الموقف هو جاره الجنوبي. فوقوف الولاياتالمتحدة على الحياد في الازمات المغربية الاسبانية، وما اكثرها، مثل سبتة ومليلية والصحراء الغربية امر ثمين بالنسبة اليه. تضاف الى كل ذلك عوامل نفسية خاصة بالنسبة الى الزعماء الاسبان الذين يشعرون بأن وزن بلدهم ضعيف في العالم رغم ان حوالي 300 مليون يتكلمون لغتهم وللعرب جذور تاريخية لديهم. كما ان اسبانيا التي يبلغ عدد سكانها حوالي 40 مليوناً لا تزال بحاجة الى مساعدات الاتحاد الاورروبي لبنيتها التحتية. فالموقف الفرنسي - الالماني من حرب العراق لم يجرح افكار اثنار المحافظة فحسب بل انه طاول عزة نفسه ايضاً. منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى ايامنا هذه تميزت العلاقات بين اوروبا والولاياتالمتحدة بوجود مصالح مشتركة من جهة وتوتر بسبب امور الدفاع من جهة ثانية. لكن احداث 11 ايلول سبتمبر وفشل عملية السلام في الشرق الاوسط وعدم الاقتناع بحرب العراق أضافت عاملاً سلبياً الى هذه العلاقات. وبما ان ديموقراطيات اليوم تمكن الشعوب من تغيير حكوماتها وليس العكس، اي تمكين الحكام من تغيير شعوبهم، فإن بعض الاوروبيين آثر الاستماع الى صوت شعبه - اضافة الى مصالحه - فبدأت اوروبا تتشقق قبل اكتمال اتحادها وربما سيحذو حذوها حلف شمال الاطلسي الذي يشهد اكبر انقسام منذ ازمة قناة السويس عام 1953. التاريخ الحديث برهن ان بناء اوروبا يتقدم اذا كان محور برلين - باريس بخير ويتعثر اذا اهتز هذا المحور.