محمود كحيل الذي رحل أول من أمس في لندن عن نحو 66 سنة كان أكثر من رسام كاريكاتوري، كان "ظاهرة" في فنّ الكاريكاتور العربي المعاصر: رسام ماهر في اصطياد اللحظة السياسية وتحويلها لحظة كاريكاتورية صارخة، سخرية وألماً في حين واحد، نقداً قاسياً ولكن بلا تجريح. وغالباً ما كانت تطلع الرسمة من بين أصابعه جريئة وغير مهادنة ولكن خالية من أي تحامل شخصيّ أو سياسيّ. وقراء "الشرق الأوسط" سيفتقدون كثيراً تلك الفسحة التي كان يملأها محمود كحيل يوماً تلو يوم بما يشبه المقالات السياسية الخاطفة، المكتوبة بريشة تميل الى الصمت غالباً وإلى الاختصار، ولا تتخلّى لحظة عن ميزاتها الفنّية التي كثيراً ما وسمت لغة هذا الرسام الحقيقي. قد يسأل "قارئ" محمود كحيل نفسه عن الرسم الذي بقي في ذاكرته من رسوم هذا الفنان، وقد يحار في اختياره نظراً الى كثرة الرسوم الجميلة والمعبّرة، وقد ارتبط الكثير منها أخيراً بالقضية الفلسطينية والقضية العراقية وبعض الأزمات التي كان كحيل خير معبّر عنها، سواء في مأسويتها القاتمة أم في عبثيتها. ولئن غاب الهمّ الاجتماعي المباشر عن الكثير من رسومه فهذا لا يعني ان الهموم الانسانية غابت بدورها، فوراء الرسم الكاريكاتوري السياسي يبرز موقف ملتزم، في أجمل ما يعني الالتزام، وخصوصاً عندما يشمل أشدّ القضايا إلحاحاً وبروزاً. وقد يكون عمله كرسام صحافيّ ساهم في دفعه الى مواجهة الظروف السياسية بالريشة والخيال وبالوعي والملاحظة الدقيقة. دأب محمود كحيل على الرسم ب"صمت" أي من دون تعليق مكتفياً بما تقوله الرسمة الكاريكاتورية نفسها، وعرف، وخصوصاً في مطلع تجربته في لبنان، بالكاريكاتوري الصامت. وفي بداية الستينات، كان كحيل واحداً من أبرز الكاريكاتوريين في بيروت، المدينة المشرعة على التحوّلات السياسية والثقافية، واستطاع هو وبعض زملائه من أمثال بيار صادق النهار وجان مشعلاني الأنوار وسواهما، ان يؤلفوا جيلاً، كان زمنياً بمثابة الجيل الثاني في فن الكاريكاتور اللبناني. حينذاك راح محمود كحيل يطل تباعاً برسومه المميّزة عبر مجلة "الأسبوع العربي" ومجلة "الديار" عندما كان يترأس تحريرها ياسر هواري ومجلّة "الحسناء" وصحيفة "لسان الحال" و"الماغازين" وال"دايلي ستار" وسواها. وعندما اشتعلت الحرب اللبنانية حاول ان يواصل عمله في حالٍ من الحصار السياسي والطائفي، ولم يصمد كثيراً. وسرعان ما "هاجر" الى لندن وتحديداً في العام 1979 ليلتحق كرسام كاريكاتوري بجريدة "الشرق الأوسط" ومجلة "المجلّة". وفي هاتين المطبوعتين عمل كحيل زهاء عشرين سنة من غير كلل أو ملل. وانطلاقاً من لندن استطاع ان يفرض إسمه عربياً وأن يرسّخ حضوره عالمياً بعدما تناقلت بعض المطبوعات الأجنبية رسومه. ولعلّ هجرته الى لندن جعلته يختلف عن رفاقه اللبنانيين، إذ أتاحت له ان يطل على هموم العالم العربي وان يتحرر من الاقليمية الضيّقة. أما أطرف ميدان خاضه محمود كحيل في الستينات فكان في نشرة الأخبار السينمائية كرسام معلّق على الأحداث. وكانت النشرة تبث قبل الفيلم في بعض الصالات البيروتية وترافقها الرسوم الكاريكاتورية، وكان يشرف على تحريرها فريد سلمان. الا ان تلك التجربة الفريدة لم تتكرّر لاحقاً. ولئن بدأ محمود كحيل تجربته رساماً إعلانياً ومخرجاً صحافياً، فهو ما لبث ان انتقل الى الرسم الكاريكاتوري بعدما درس في الجامعة الأميركية بيروت، ونقل الى عالم الرسم خبرته في توزيع المساحات الصحافية والتفنن في ملئها. وسرعان ما لمع في هذا الحقل، ليس فقط عبر الأفكار والمواقف الجريئة والعميقة التي كان يعبّر عنها ويعلنها جهاراً، وإنما أيضاً من خلال تقنيته الراقية التي تجعل من الرسم الكاريكاتوري لوحة فنية. وهو لم يكن يكتفي ببراعة الضربة وتلقائية اللمسة بل كان يحيطهما ببعض التفاصيل أو الشطحات بالأسود والأبيض، وغايته ان يكمّل الرسمة فلا تبقى ناقصة أو وقفاً على الفكرة. ولعلّ هذا الأسلوب هو ما ميّزه عن معظم الرسامين الكاريكاتوريين العرب، علاوة على فرادة الفكرة التي تجمع بين الكثافة والعمق. ولم يتخلّ كحيل نهائياً عن التعليق المكتوب مكتفياً بالرسم الصامت، ولا سيما في "الشرق الأوسط" إذ كانت بعض المواقف والأفكار تحفزه على التعليق عليها بغية المزيد من التعبير. وكم كان ينجح في نقده بعض السياسات العربية وبعض المبادرات السياسية وكذلك السياسة الأميركية وسياسة شارون الوحشية... وكم نجح في استخدام رمز السمكة الكبيرة التي تبتلع الصغيرة والعكس في شأن اسرائيل، وكذلك في رسم حمامة السلام أو الضحايا الفلسطينيين... كان محمود كحيل يبدو شبه مرتاح الى فنّه الكاريكاتوري والى طريقته في الرسم على رغم هاجس الرقابة الذي يرافقه. وقال مرّة: "نحاول نحن كرسامين ان نوفّق بين الرقابة وما يسمح لنا". وقد عرف حقاً كيف يستفيد من "المسموح" له، لينتقد ويسخر ويرسم معبّراً عن رؤيته الى عالم السياسة وكواليسها ومزالقها وعن معاناة الشعوب العربية حيال التناقضات السياسية. وكان كحيل يتخلّى، في بعض الأحيان، عن جدّية المعالجة، جاعلاً من الرسم مادة للترفيه الشعبي. وكان ينجح في تلك الرسوم الساخرة التي تحفل بالغمز واللمز والنقد والدعابة... ومرّة لم يحتمل الوسط الصحافي المصري أحد رسومه الكاريكاتورية وكان عن السياحة والارهاب، فشنّت "الأهرام" عليه حملة قاسية. لم يكن محمود كحيل يألف الظهور على الشاشة الصغيرة ولا إجراء الحوارات الصحافية وكان أيضاً يأنف من الكلام عن نفسه على خلاف الكثر من الرسامين الكاريكاتوريين. وكان يرى ان إطلالته الوحيدة على القراء والجمهور هي من خلال رسومه، ورسومه فقط. قرّاء "الشرق الأوسط" و"المجلّة" الذين أدمنوا رسوم محمود كحيل، يومياً وأسبوعياً، سيفتقدون تلك المساحة الجميلة التي كان يملأها بطرافته وبراعته، وخفّة ظلّه. تلك المساحة كانت بحق، أشبه ب"صباح الخير" التي لم يكن كحيل يملك سواها ليخاطب بها المعجبين به وبرسومه وما أكثرهم!