كانت بيروت تحتفل بذكرى رائدين من رواد فن الكاريكاتور اللبناني هما محمود كحيل وبيار صادق عندما رحل الرسام الكاريكاتوري ملحم عماد، ولم يكد ينقضي خبر رحيله حتى توفي الرسام ستافرو جبرا عن 70 سنة. كأنّ هذا الفن اللبناني العريق في حال من الحداد، فروّاده يرحلون واحداً تلو الآخر وليس لهم من الورثة من يضاهيهم براعة وحذاقة رسماً وأفكاراً، ما عدا أسماء قليلة جداً. لم يكن ستافرو جبرا الذي وافاه الموت صباح أمس فناناً كاريكاتورياً كبيراً فقط، بل صاحب مدرسة في هذا الفن، تفرّد بها عن رفاقه، في الرسم والتخطيط وفي معالجة الفكرة وبلورتها وتجسيدها في طريقة ساخرة حتى الإيلام في أحيان، لا سيما في رسومه التي تعبّر عن معاناة الناس اليومية. رسّام بارع، صاحب ريشة رشيقة وأسلوب خاص جداً في تمثيل الأشخاص ووسمهم بما يليق بهم، من ملامح وسمات، في تضخيمهم فنياً والسخرية معهم وليس منهم. فنان اللقطة المقطوفة قطفاً بسرعة وتلقائية، والتي تحلّ في موضعها من غير نقصان أو استفاضة. بل لعله كما وُصف دوماً فنان «الضربة» أو «اللطشة» التي سرعان ما تأخذ طريقها إلى الورقة البيضاء فور ما تحضر الفكرة وتكتمل. وكانت تتبدّى براعته عندما كان يطل على الشاشة التلفزيونية مرتجلاً أمام الجمهور رسوماً غاية في السخرية والتعبير الساخر. رافق جبرا الحياة السياسية والفنية بريشته منذ عام 1967 وكان في مقتبل العشرين، شاباً طموحاً تلقّى فن الرسم والكاريكاتور أكاديمياً وراح يفلت لمخيلته العنان، مستنداً إلى التقنيات التي درسها وخبرها، وإلى ثقافته الواسعة التي أتاحت له الاطلاع على حركة الكاريكاتور العالمية والحديثة. وكان هو فرنكوفونياً يعلّق على رسومه بالفرنسية عندما كان يعمل في الصحف الفرنكوفونية اللبنانية مثل «لوريان لوجور» و «لوريفاي» و «الماغازين» وسواها، علاوة على الصحيفة الأنغلوفونية «دايلي ستار» التي رسم لها فترة. وكان جمهوره يتوزع بين الصحافتين العربية والفرنكوفونية وهو كان يلبيه من دون انقطاع. فهو كان غزيراً، سريع البديهة، يده تلبيه مثلما تلبيه المخيلة وروحه الساخرة التي تجيد قطف النكتة أو اللقطة تلقائياً. وهذه البداهة كانت إحدى خصائصه التي يُحسد عليها. وما ميّز فنه عن الجيل الأول من الروّاد هو المرونة أو الطواعية في الرسم والسعي الدؤوب نحو المزيد من التحديث والتطور من خلال الانفتاح على التيارات الجديدة عالمياً في هذا الحقل الفني. وكان جبرا من الأكثر استجابة للثورة الإلكترونية التي غزت الفن فأتقن الرسم على الكومبيوتر واستخدام التقنيات البصرية الجديدة. وما ساعده في هذا المجال هو إتقانه فن التصوير الفوتوغرافي، فهو إلى كونه رساماً كاريكاتورياً كان مصوراً بارعاً، عالي الخبرة، فناناً في التقاط الصورة وابتداع الكادرات واللقطات. وكان في السبعينات والثمانينات يظهر دوماً كمصوِّر تتدلّى من كتفه كاميرا واثنتان. لكن وجه الرسّام طغى أخيراً على وجه المصوّر علماً أنه يملك أرشيفاً هائلاً من الصور التي التقطها بعدسته الشفافة. وكان يلقّب بمصور المشاهير من الفنانين العالميين خصوصاً. وأذكر كيف كان قرّاء «الشبكة» و «الصياد» و «الماغازين» و «الأنوار» وسواها ينتظرون صوره البديعة و «الإباحية» أحياناً التي كان يلتقطها على شاطئ مدينة كان الفرنسية خلال مهرجانها السينمائي الشهير، راصداً الممثلات والفنانات عندما يستعرضن جمالهن على رمل الشاطئ. عمل جبرا في صحف ومجلات ووكالات كثيرة بدءاً من عام 1967 مصوراً ورساماً، وأبدع ما لا يُحصى من الرسوم والصور وأصدر كتباً عدة، وتراثه يحتاج حقاً إلى مؤسسة تحفظه وترعاه فهو بمثابة ثروة فنية. ومن فصول حياته الشخصية والفنية الجميلة صداقته القوية والقوية جداً للراقصة النجمة ناديا جمال، المصرية اللبنانية اليونانية الأصل (اسمها الحقيقي ماريا كاريداس، مواليد الإسكندرية وتوفّيت في مونتريال)، وأصبح مرافقاً لها ورفيقاً يتفنن في التقاط صور بديعة لها، شخصية وفي حلبة الرقص الشرقي التي كانت من سيداته.