يستعيد الروائي العراقي شاكر الأنباري في روايته الجديدة "الراقصة" دار المدى، دمشق - 2003 تاريخ شارع دمشقي عريق هو شارع "شيكاغو" الذي سقط على رصيفه عشرات الصعاليك والعشاق والسكارى والمتسكعين والمشردين نتيجة تشمع الكبد والبرد وسوء التغذية، فكانت الأرواح المنهكة تلفظ أنفاسها الأخيرة على أبواب حانة "الوردة الزرقاء" الأشهر في هذا الشارع، ولم يكن بطل الرواية رؤوف وحيد الدين سوى نموذج لكثيرين رحلوا ذات شتاء بارد بعد أن ملأوا فضاء هذا المكان بالضحكات والنكات والأحلام والهذيان والطموحات التي تدفن بغتة مع صاحبها في حفرة باردة وضيقة هي القبر. تبدأ أحداث الرواية بحادث تشييع جنازة بطل الرواية الذي أوصى قبل موته بأن يدفن بالقرب من ضريح معلمه ومثله الأعلى الشيخ محيي الدين ابن العربي في سفوح جبل قاسيون المطل على دمشق. لكن مثلما أن أحلامه في الحياة أجهضت كذلك، فإن وصيته الأخيرة لم تتحقق إذ لا يجوز - في عرف المتدينين - دفنه بجوار ولي من أولياء الله الصالحين كما تذرع بعض الرافضين فدفن في سفح قاسيون ولكن في مقبرة أخرى. وحيث تنتهي الحياة تبدأ رواية الحياة، فعندما يسدل الستار على تاريخ هذه الشخصية يمضي السارد ليبحث عن ماضيها الصاخب والنزق والمفعم بحب الحياة. ينتمي "المفكر" رؤوف وحيد الدين الى صعالكة دمشق الذين تجدهم إلى الآن في مقاهي أو مقاصف "الروضة" ونادي الصحافيين و"فريدي" و"مرمر" و"قصر البلور" وغيرها من الأماكن التي تشكل امتداداً لتاريخ شارع شيكاغو وتقليداً معاصراً له. ففي هذه الأماكن الراهنة ثمة جلسات وسهرات كثيرة تجمع الأصدقاء زكي وخليل وصابر وأكرم ومحمد... وهي محض أسماء تصغي إلى ما تنتجه ذاكرة البطل المتدفقة التي تعيد تشيكل ملامح شارع اختزل تاريخ طبقة منسية تعيش في القاع على هامش الحياة وتتحايل على القيم الاجتماعية السائدة، حياة لا تميزها سوى المزاجية والفوضى والكثير من التمنيات الخائبة. والرواية إذ تتكئ على الأمكنة المهملة لتتخذ منها فضاء للحكاية المروية، فإنها تغوص في الآن ذاته في دواخل الأفراد "أشباح ناس مسكونين بالوجد الخيامي يطرحون الأسئلة الصعبة ولا يجيبون عنها إلا بمزيد من التدمير الذاتي والبحث الهائم عن ملذات تهدهد الوجد الذي يسكن عظامهم" يتلهفون إلى كأس طل ليبددوا بها متاعب العمر ويرووا هموم الحياة وأوهامها ومؤامراتها وانكساراتها، فيما النظرات تميل باتجاه جسد ماغي، أشهر راقصة في المكان لتغرق في تضاريس أعطافها المترنحة بين الطاولات. فهي "ملكة الشارع غير المتوجة والأسطورة التي مشت حية في شوارع دمشق"، جمالها نهب القلوب وهام في حبها المتعفف والماجن، الثري والفقير، المثقف والأمي. وكان بطل الرواية واحداً ممن قتلهم هوى الغانية، بل أن الثري نسيم بك وقع في حبها وبلغ به الأمر حداً لم يكن يتوقعه أحد، إذ اقدم هذا المتصابي الوقور المسؤول الكبير السابق على شرب الطلّ في حذاء هذه الراقصة تلبية لطلبها وإرضاء لغرورها. "الراقصة" هي سيرة رؤوف وحيد الدين في أسفاره الكثيرة والغريبة وفي علاقاته بالنساء سامية وماغي وفاطمة وفتاة التليفون، سيرة لا يختار منها الراوي سوى الجانب اللامألوف والفضائحي مثل تلصصه على جيرانه: الأم وابنتها وهما تتحممان، وسرده الحديث الذي باح به له المخنث في حانة الكرنك في المرجة، وحكايته مع سرحان في أوهامه وشطحاته. وإلى جانب هذه السيرة الذاتية فأننا نقرأ وفي شكل متداخل سيرة شارع كان مسرحاً لزوار الليل منذ عقود خلت. وبقليل من المجازفة يمكن القول ان الرواية هي توثيق لمرحلة تاريخية وتدوين لسيرة "مدينة جميلة وقبيحة رقيقة وقاسية" لا يملك فيها بطل الرواية سوى ذاكرة من كلمات صاغها "أبو الفهم" و"أنت التاني" و"خود عليك" و"التنين" و"المطعم النقال" و"سعدو القبضاي" الألقاب التي يكرسها سلوك رواد الحانة فتطغى على الاسم الحقيقي والبديري الحلاق الذي يتخذ منه الأنباري مرجعاً ويضمن روايته مقاطع من كتابه "وقائع دمشق اليومية" وأبو واكيم نادل البار والراقصات والشعراء والرسامين الملتحين وقارئات الكف في قاسيون وعاهرات المرجة. حياة غير مرئية لكنها واضحة في أروقة النفس ودهاليز الروح كوشم أبدي تندلق على الورق بكل روائحها وألوانها وشعابها التي أرهقت الروح فاستسلمت للرحيل. ومهارة الأنباري هنا تكمن في سرده المتداخل بين الحاضر المعاش زمن القص، وبين رحلته في أرشيف الذاكرة لتتشكل لوحة بانورامية للمكان تتلاشى فيها الخطوط بين الماضي والحاضر. مغامرة الروائي العراقي المقيم الآن في دمشق في روايته تكمن في اختياره إحياء تفاصيل مكان غاب واقعياً منذ عقود والمكان يقع في مدينة لم يعش فيها الأنباري سوى سنوات قليلة. وهنا ربما تكون مهمة الفنان المبدع، أي اقتحام المجهول والمنسي. وربما يتساءل البعض هنا عن الأصالة والتجربة المعاشة؟ والجواب هو أن النموذج الذي يقدمه الأنباري له نظائر في مدن أخرى كبيروت والقاهرة وبغداد، والمغامرة لم تجنح به صوب الإسهاب أو التحايل هرباً من الامتحان الذي وضع نفسه فيه، بل اختار بدلاً من ذلك بطلاً إشكالياً وثرثاراً - إذا جاز التعبير - مستمداً من النماذج التي يلتقي بها الكاتب في حياته اليومية الآن حيث يعيش في هذه المدينة. فرؤوف وحيد الدين هو "لغز الشلة وسيد الحديث، تاريخ المدينة المتحرك وجوال الشوارع العاشق الخائب، وجليس الندامى في الليالي الغارقة في رائحة الكحول وضباب الدخان والتمنيات"، كما يصف الأنباري بطله الذي كان وسيلته في الدخول إلى عتمة شارع شيكاغو وتوثيق تاريخه الهامشي ودليله في العثور على وجه من الوجوه المتعددة لدمشق: وجه الثمالة والانتشاء حيث الحياة ليست سوى "حكاية يرويها معتوه". لا يكلف الروائي نفسه عناء البحث عن المفردة البليغة والعبارة الجميلة، إذ تغدو اللغة حاملاً لأحداث يرويها، وهو لا يتوارى خلف الرموز والإيحاءات بل يفضل تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية من دون مواربة، لا سيما في تسمية المكان الذي يعد العنصر الرئيس في روايته والذي يحاول الأنباري إعادة إنتاجه في النص بحياد يكاد لا يدع مساحة للحنين او النوستالجيا. وعلى رغم التداعيات والقلق والأوهام التي تسيطر على حياة البطل، فإن الرواية واقعية حتى في أكثر جوانبها غرابة. إنها احتفاء بالمكان الغائب - الحاضر الذي احتضن الأنباري سنوات قليلة فقرأ في معالمه هذه الصفحات التي جاءت على شكل رواية.