يكتب الروائي العراقي المقيم في الدنمارك، شاكر الأنباري بواقعيّة خشنة، بل شرسة، لكن هذه الشراسة وتلك الخشونة يجري تغليفهما بلُغة شاعرية، ومقاطع رومانسية، وغلالات من عالم الطبيعة الشفيفة والمرهفة. ليس هذا في روايته الجديدة فحسب، بل في مجمل نتاجه الروائيّ. في الرواية الجديدة، ثمّة قوى عدّة ساهمت في وصول العراق إلى الحالة الكارثية التي بلغها، حالة غير مسبوقة منذ قرون، كما تُصوّرها رواية «مسامرات جسر بزيبز». إنه يقدم لنا العراق في زمن وقع بين مطرقة الاحتلال الأميركي وجنوده القتلة، من جهة، وبين سندان الوحوش الدواعش، الذين هم من «ثمرات» هذا الاحتلال، من جهة ثانية... هذا هو العنوان الأول الأشدّ بروزًا في رواية الأنباري. أما العنوان الثاني البارز فيها، فهو حكايات وقصص تقارِن بين زمنين، زمن سلطة حزب البعث وصدام حسين وحربه على الثقافة الحرة، والأحزاب اليسارية، والدفع بعشرات الآلاف، وربّما بملايين العراقيّين من مثقفين وسياسيّين، إلى الهجرة هرباً من أقبية الزنازين ومقاصل الجلادين، من جانب، وزمن الحروب المدمّرة في العراق وعليه، من جانب مقابل. فضلاً عن امتدادات لحياة البطل/ الراوي «سلام» وبعض شخوص الرواية في أمكنة عربيّة، سورية وليبيا والأردن مثلاً. مرثية زمن وأمكنة يمكن تناول الرواية (دار المتوسط/ ميلانو، 2017)، بوصفها مرثية لزمن وأمكنة لن تعود، وحكايات شديدة الماسوية لبشر وبلاد وكوارث لم يسبق لها مثيل. مآسي القتل والتهجير والضنك والجوع، على مدى يقارب الخمسين عاماً وتزيد قليلاً، هي عمر البطل/ الراوي، الذي يروي ما يشبه سيرة له، وسيرة لعشيرته وقريته و»عِراقه»، مثلما يستعيد أيّامًا له في سورية. وما إطلاق تسمية «مسامرات» في عتبة العنوان، سوى مخاتلة للبؤس الذي يجري تقديمه عبر حكايات لا «سمر» فيها ولا مسامرة، إلا على صعيد الشكل الذي اختاره الكاتب لتقديم «حكاياته». ابتداء، يطالعنا «جسر بزيبز»، وهو مَعبر صغير على نهر الفرات، يربط غرب العراق بالعاصمة بغداد، وشكّل فضيحة إبان العمليات العسكرية التي انطلقت عام 2016 لتحرير الأنبار من «داعش»، حيث منعت الحكومة العراقية سكّان محافظة الأنبار من دخول بغداد، وهو ما شكّل واحدة من أكبر الفضائح تجاه تعامل الحكومة مع السكّان النازحين. وهو ما تنتهي به الرواية، حيث يتجمع عشرات الآلاف لعبور هذا الجسر في اتجاه العاصمة، ويعانون الويلات، وقد لا ينجح في العبور إلا من يمتلك «واسطة» من قريب أو صديق. إنها رواية الهروب من مواجهة آلة الموت التي يمثلها الوحوش، وهم هنا «المقاتلون الذين تحولوا إلى آلة دمار لتنفيذ أوهام تتكئ على العنف، والتكفير، والتخلف، وتمزيق النسيج الاجتماعي». ويجسدها، في الوقت نفسه، الاحتلال الأميركي بعدوانية وصلافة، وقبلهما ديكتاتورية وفساد وعبادة للحاكم تتجلّى في مظاهر عدّة، واحد من هذه المظاهر يتجسّد في «سوق الشعر» والشعراء المدّاحين، حيث ثمّة ثمن لكل قصيدة مدحٍ للديكتاتور. وذلك كله ممّا جلب الخراب للبلاد والعباد. منذ السطور الأولى في الرواية، يقدّم المؤلّف مبرّر كتابته: «أقيم في بيتي وسط مدينة أربيل... ومدينة أربيل تبعد مئات الكيلومترات عن قريتنا التي هجرناها مجبَرين، ولم يعد أمامي سوى إفراغ غضبي بالكتابة، مستحضراً تجربتنا المريرة التي عشناها. أداوي بها فوران ذاكرتي، ويأسي، فهي النشاط الوحيد الذي بات يدخل الطمأنينة إلى روحي». وهو في كتابته هذه يتنقل بين أزمنة وأمكنة عدة، ومختلفة بالطبع، من زمن القرية الطينية الوادعة، بطبيعتها وكائناتها التي يجيد الأنباري استحضارها، وتأثيثَ نصوصه بها، إلى زمن القرية الصخرية والبيوت الحجرية، وصولاً إلى القرية التكنولوجية الإلكترونية، وانتهاء بالمدينة، بل المدن غير الفاضلة «مضت حياتنا الطينية وأعقبتها حياتنا الصخرية، وجاءت بعدها حياتنا الإلكترونية، ولم يعد في رأسي سوى رماد الذكريات. «المدينة هنا هي «المدينة الخائفة. المدينة المشحونة بالإشاعات، وقصص الموت، وظهور الوحوش على أطرافها، والفوضى السابحة فيها. لا يوجد فيها سوى صبّات الكونكريت التي تطوق المباني الحكومية والمرافق المهمة، كما أغلقت شوارعها بالأسلاك الشائكة، ووقف الجنود المدججون بالأسلحة، اللابسون الأقنعة في الزوايا، وعند السيطرات (يعني الحواجز)، وأيديهم على الزناد»، الجنود الذين يطلق عليهم «أحفاد كولومبوس». واقعية سردية الروائي مهجوس هنا بزمنين، الماضي والراهن، ويفكر بأن «تلك الحياة، تلك السنوات، تلك القصص والحكايات أصبحت جزءًا من ماض ذهبيّ لن يعود». لذا فهو يستعيده في صور يتداخل فيها الحب بالكراهية، والحميميّة بالعنف، والطبيعيّ بالاصطناعيّ، والمتخيّل بالواقعيّ. راسمًا بالشخوص والحوادث لوحة شديدة الواقعيّة، وغنية في تفاصيلها، من جهة، لكنها تنتمي إلى عالم الفانتازيا في غرائبيتها، فهي أغرب من الخيال، من جهة مقابلة. لوحة يظهر فيها اعتياد الموت والكارثة والقهر، كما لو كانت قدَراً ينبغي الاعتياد عليه «حياتنا تلاشت دفعة واحدة بعد هجوم الوحوش، وهذه التسمية، أي الوحوش، أطلقها عمّي على تنظيم الدولة الذي طردنا من بيوتنا، وقتل عمي بقذيفة هاون قرب المستوصف الصحي...». عشرات الشخوص في الرواية، كلّها من لحم ودم ومعاناة ومكابدة، فقرًا وبؤسًا ورعبًا، بعضها شخصيّات قوية ذات حضور مميّز وفاعل في الحياة، وأخرى باهتة وبلا دور كبير، تلتقي جميعًا في «مسرح» العبث هذا، شخصيّات عشّاق الحياة كما هو العم رشيد، العاشق الدائم للنساء جميعًا، والمغامر الشرس سياسيّا واجتماعيّا وعمليّا، وذلك كله مع نقص في مستوى التعليم، ولكن بموهبة «طبيعية» في وعيه العالم من حوله. شخصية تشعر أنها شديدة الحيويّة لشدّة طبيعيّتها، وإخلاص المؤلف في رسم ملامحها وتفاصيل «سيرتها»، ومصيرها المأسويّ كجثّة متروكة، هرب مشيّعوها أمام هجمات مقاتلي داعش. رشيد هذا يحمل إحدى المقولات الرئيسة في الرواية، حول صراع العراقيّين مع كل من الاحتلال الأميركي وداعش، فهو ينسق مع قائد أميركي للقضاء على «الوحوش»، فالأميركي «احتلال» زائل لا محالة، فيما «تنظيم الدولة» يسعى إلى الهيمنة والقتل والتدمير لكل ما لا يرضى عنه. لذا فهو مع الأميركي لتخليص العراق من «الدواعش»، وهو يعمل على تشكيل «الصحوات» لمحاربة الوحوش، وتطهير العراق من جرائمهم. البطل نفسه، سلام، الذي يضطر إلى الهجرة هربًا من مطاردة النظام الحاكم له، والمطالبة برأسه، نراه في سورية يعيش حياة البؤس، لكنه يقودنا، مع صديقته ريم، إلى معالم دمشق وملامحها، مقاهيها ومطاعمها ونوادي كتابها وفنّانيها ومحاربيها القدماء، وأحيائها القديمة والشعبية، من باب توما إلى قاسيون ومخيم اليرموك وغيرها. ثمّ يعود بنا، في الفصل الأخير من الرواية، إلى جسر بزيبز، حيث العالقون في انتظار العبور إلى العاصمة، هربًا من جرائم وحوش داعش. ثمة رسالة ساطعة الحضور في الرواية، تعبّر عن وجهة نظر البطل سلام، وملخّصها في «تخوين» تلك الفئة من العراقيّين الذين جاءوا على ظهر الدبابة الأميركية، بدعوى إسقاط النظام الديكتاتوري، وإقامة دولة الديموقراطية والحريات، وهي رسالة يجري التعبير عنها بقدر من السخرية، مجموعة إلى قدر من الشعور بالعبثية في سلوك عدد من المثقفين والأحزاب.