1 صعاليك... نعم. لأن لهم نكهتهم الخاصة، جدهم الكبير محمد الماغوط، وآباؤهم كثر: علي الجندي وفايز خضور وممدوح عدوان. يشربون الجن والريان، الجعة والنبيذ، يخمرون في قصر البلور، وسط باب توما ثم يفيقون صباحاً في حلب، من دون ان يسألوا عن السبب. يقذفهم رصيف الى حانة في شارع بغداد، سرعان ما تلفظهم الى بيوت تتلطى بالجبل وهناك يتذاكرون عن النساء. لا تقترب منهم الا اذا كنت مفلساً، فهم يستدينون منك حق الطعام والمازة من دون ان يرجعوا ما استدانوه. يضربون حبيباتهم في الشوارع أمام المارة والمتفرجين، ويرجعون ليلاً الى بيوتهم منهكين من العشق والندم والغيظ. يعرفون ما يريدون. يعرفون ان الكرامة ألاّ تخاف من الخسارة، اذ ليس لديك ما تخسره. لهذا فهم اغنياء. 2 يكتبون القصائد والروايات والقصص مثلما يأكلون البطاطا المقلية. يغنون اهواءهم في الخلوات من دون حرج، ويرقصون في الليالي المقمرة على جسر الهامة ودمر، وتفوتهم المواعيد كل مرة. لا يهمهم سوى مواعيد النساء، من اجلها يتعللون بالمرض، ويخفون اماكن سهراتهم، ويضللون ندماءهم. يتزوجون بسرعة، ينجبون اطفالهم كما الأزهار، ثم يطلقون بسرعة، لأن الروتين اليومي عدو الصعاليك. ملولون هم، نزقون، يطلون ارواحهم بأحزان نابعة من القلب. لكن تمر عليهم السنون من دون ان يشيخوا. الكلمات تسيل من اصابعهم، قصائد وقصص وحكايات لا تنتهي، الا حين تنصبّ في كتب. قصائدهم خبز يومي مغمس بالتشرد والألم والعشق والسخرية. لا يطيقون السيارات الفارهة، المرسيدس منها خاصة، والشبح، والبي ام دبل يو، والمازدا، لأنها تدل على الوجاهة والتأطير والسلطة. يكرهون المكاتب الأنيقة والسيارات الفارهة والورق الصقيل الملوّن الذي يأسر عارضات الأزياء. 3 يحبون السمك المتبل، مطفأ برحيق الكرمة الأبيض، في باب توما. يترنحون بين السبع بحرات والجسر الأبيض، باحثين عن فتيات احلامهم المخبآت وراء ارقام التلفون. يطلقون ضحكاتهم الطفولية كأنما يغازلون بها اشجار المرجة وضفاف بردى. ضحكاتهم تغازل النساء اجمع. شعرهم يبدأ من فضاء اللغة لينتهي الى واقع التجربة. انهم ينسجون بصماته الخاصة قليلاً قليلاً، وبدأب، ومنهم يتطلعون الى قصيدة يصنعها غبار الأرصفة ورائحة الغابات ومغامرات السفر. فضاؤهم هو فضاء دمشق دمشق البزق والعود والطبلة. دمشق بردى وقاسيون وفندق الشام، الذي يرتشف فيه محمد الماغوط قهوته كل صباح. دمشق نادي الصحافيين وهو يلم ضحكة ممدوح عدوان المجلجلة بعد كأسين من خمرة زرقاء، وبعد ان يروي عن النساء الغابرات في حياته. دمشق ساحة المرجة المكتظة بالقطط واللبلات وباعة القلوب آخر الليل. دمشق، نادي المحاربين بلا أسلحة، حيث يرشق عادل محمود سفوح قاسيون بدخان غليونه وشعره الطليق مثل سماء حماماتها. انهم يصنعون دائماً عالماً ثانياً. عالم الصفاء. عالم الخمرة. عالم النساء. عالم الجمال المطلق غير الموجود الا في رؤوس الصعاليك. وحين تسمو الرؤوس يتحول الصعاليك الى مغنين ومطربين. موالات جبلية وميجانا وعتابا. أم كلثوم وفيروز وعصام رجي. يغنون الليل والحبيبة ودمشق المتوارية خلف حياتها السرية. يغنون الجبال البعيدة والانهار والمدن التي عاشوا فيها والبلدان التي لفظتهم أو اخرجتهم عنوة من ترابها. يغنون باللهجة العراقية والجزائرية والشامية والمصرية، من دون ان ينسوا الغناء الفصيح لعابد عازارية ومظفر النواب ووديع الصافي. 4 صعاليك... نعم. لأنهم لا يعبأون اين ينامون، فالكتب اسرتهم الدافئة والحبر ماؤهم والورق غذاؤهم، يتسقطون اخبار الصحف بلهفة، يرصدون حركة الثقافة في جهات العرب اجمع. وحدهم من يزيلون الحدود، ويركلون جوازات السفر باقدامهم، لأن وحدتهم من نمط آخر. وحدة الكتب والصحف والأقلام، وحدة الشعر والقصة والرواية، وحدة النميمة وهي تولد في تونس لكي تسير عارية الساقين في شوارع الشام، صعداً نحو بيروت والقاهرة والرياض. لا أسرار بينهم، فهم كما وصفتهم واحدة من صعاليك دمشق، أوانٍ مستطرقة، يعرفون كل شيء عن كل شيء. يعرفون ألوان الملابس الداخلية للآخرين، وشهقاتهم، ونزواتهم الخبيئة خلف الأبواب المغلقة. يعرفون ما يضمره الآخرون حولهم، ويبوحون به في الأسرة، وتحت الادراج، وعلى مقاعد الحدائق في الليالي الباردة. 5 يفضلون قصيدة النثر، ويعيشون في الروايات الفاضحة، ويشربون الأنخاب لجان جينيه ومحمد شكري وباراغاس يوسا وكواباتا، الذي انتحر من السأم. شموع دمشق في حلكة الحياة. ملعونون هم، يتندرون على كل من لا يكتب قصيدة نثر، ولا يتصعلك مثلهم في الحانات والأزقة. يتندرون على رؤساء التحرير والمحررين الرسميين والصحافيين اللابسين اربطة من حرير ويسيرون خلف رجال الأعمال في ذل وخنوع. يتندرون على راكبي السيارات الفارهة الذين يُجلسون الفتيات جنبهم ويتجهون الى الطرق البعيدة. الندل يعرفونهم من كتبهم وصحفهم ولفتاتهم، من كآبتهم المفرطة، ومن جوعهم احياناً بعد ان تأخرت مكافآت الصحف التي يكتبون لها. يعرفهم كراسين الحانات جيداً لأنهم لا يفقهون شيئاً من رطانتهم. أدونيس وسعيد عقل وماركيز وت. اس. اليوت وسلمان رشدي وفوكوياما وفوكو ودريدا وبورخس ونيكيتا وباسترناك وسعدي الشيرازي وسعدي يوسف ومحمد الماغوط. رطانة لا يستخلص منها المرء أي معنى. لذلك يتركونهم بحالهم ولا يغشونهم في الحساب، لأن صعاليك دمشق يدققون في الفاتورة كما يدققون في الجملة المكتوبة. * كاتب عراقي مقيم في دمشق.