لا شك في أن الخطوة الليبية شكلت سابقة في التعامل العربي مع ما يُدعى بأسلحة الدمار الشامل في المنطقة، وهي بالتأكيد خطوة مجانية على صعيد النظام العربي مع أنها بالنسبة الى الجانب الليبي لا تعتبر مجانية، أقله بالنسبة الى الوضع الداخلي الليبي. إلاّ أن المعادلة التي ارستها سورية إثر اتفاق "جنتلمان" بين دمشقوواشنطن بتعليق بحث نزع أسلحة الدمار الشامل بعد اللجوء السوري الى مجلس الأمن لاستصدار قرار بنزع أسلحة الدمار الشامل من المنطقة بأسرها وبالاستناد الى البند السابع، وتعرضت لارتجاج مع الخطوة الليبية التي لم تكتف بالانفراد وإضعاف جماعية الموقف العربي، خصوصاً سورية، بل أصرت على التنويه الى سورية بأن تنحو نحوها! خصوصاً أن انضمام أطراف أوروبية لاستثمار الخطوة الليبية لجعلها سابقة سياسية اجرائية تقدم عليها دمشق يضيف الى قانون محاسبة سورية بنداً جديداً ومادة ضغط اضافية. ولا شك في ان ليبيا تستطيع أن تتخذ المواقف التي تريدها، فهي دولة طرفية في معادلات الصراع في المنطقة ومارست المواقف الثورية حيث لا ينبغي ولا يستوجب، كما مارست وتمارس التخلي الكيدي والانتقامي أحياناً عن العروبة ومستلزماتها وكأنها قرار أو يمكن تلخيصها "بمفهوم ليس له صدق" بحسب رأي العقيد القذافي وليست قدراً تاريخياً أو جيوسياسياً، وهذا الموقف في حد ذاته يُعبر عن رؤية طرفية أرادت أن يكون لها دور مركزي، فأعجزتها الجغرافيا والأدوات فانصرفت الى حدودها. لكن سورية محكومة عملياً بمركزية وجودها في المعادلة الصراعية" وبوجودها في مواجهة ترسانة عدوانية هجومية نووية وكيماوية وبيولوجية ولا ضابط لها إلا أوهام تطلق هنا وهناك عن وجود نظام ديموقراطي مزعوم لا يمكن أن يستخدمها إلا بقرار جماعي، فيما أثبتت التجربة ان الحكم في اسرائيل مُطلق اليد في تجاوز كل القواعد بما فيها قواعد الحرب بالقيام بجرائم حرب موصفة بالقانون الدولي: كضرب المدنيين وقصفهم بالطائرات وقتل السياسيين واستخدام الأسلحة المحرمة دولياً، الأمر الذي يجعل الموقف السياسي الاستراتيجي السوري يحتاج الى قوة ردع توفرها له حالة ما يُدعى بالعرف الاستراتيجي الغموض البنّاء عبر ادعاءات الطرف الاسرائيلي بامتلاك سورية لأسلحة دمار شامل، وهي مزاعم لم تؤكدها دمشق، ولم تدخل في لعبتها الإعلامية، نظراً الى انها توفر "حالة" من الردع - أقله النظري والافتراضي الذي يمكن أن يردع اسرائيل عن أن تستخدم ترسانتها العدوانية لحسم الصراع عبر تنفيذ قاعدة الأرض المحروقة والغاء الآخرين. ولا نريد أن نخطئ أحداً من العرب، إذ ندرك ان الزمن هو زمن الهروب الفردي، ولن ندعي الحكمة لأحد في ظل هذا الانهيار الكبير في أوضاع العرب، لكننا كنا نتوقع أن يبقى من يقدر أهمية الحماية الجماعية لآخر ما تبقى من العمل الجماعي العربي. فهناك فرصة لا يجب اضاعتها، لأن سورية استبقت المواقف الحالية بقيامها قبل نحو ثمانية أشهر بالتقدم بمشروع قرار الى مجلس الأمن يقضي بإخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل وتطبيق ذلك بالبند السابع، الأمر الذي أحرج الولاياتالمتحدة، وهي اليوم تتوجه مرة ثانية الى مجلس الأمن لقطع الشك باليقين مع واشنطن" لأنها إن لم تقبل بهذا المشروع ستفقد صدقيتها المعلنة بمشروع الأمن القومي الجديد الذي ينص على تجنيب الولاياتالمتحدة والعالم امكان انتقال هذه الأسلحة الى الإرهابين، والمشروع السوري يوفر للعالم التخلص من أسلحة الدمار في كل مكان في الشرق الأوسط بما فيها اسرائيل التي تحكمها وتتنامى فيها النزعة اليمينية العنصرية التي قد تجعل الولاياتالمتحدة في خطر المواجهة مع قوة نووية لم يتورع رئيس حكومتها الأسبق بنيامين نتنياهو ان يعلن وهو على كرسيه الرسمي الديموقراطي انه مستعد لتدمير واشنطن بأكملها. وإذا وافقت الولاياتالمتحدة على المشروع فإن عليها أن تواجه مشكلة انتخابية متمثلة بفقدان الناخب الصهيوني واليهودي، ولذلك ولاعتبارات براغماتية من الدرجة العاشرة فضلت الإدارة الحالية المفاضلة بين مصلحتها الاستراتيجية ومصلحتها الآنية مُفضلة المصلحة الآنية من دون أن تجعلها موضع انكشاف علني، فسكتت عن مزاعم امتلاك سورية أسلحة الدمار الشامل في مقابل عدم طرح سورية المشروع للمناقشة، وهذه المعادلة مرشحة للتكرار إذا ما قامت واشنطن أو غيرها بالعودة الى المربع الأول من دون أن تراعي قواعد اللعبة الاستراتيجية التي لا تسمح أصلاً بوضع سورية مكشوفة أمام ترسانة نووية لا تقيم حالة سلم معها بل هي مستعدة في أي وقت للتمدد من دون مراعاة أي اعتبار. إن أوروبا فضلاً عن عقلاء الخارجية الأميركية يعرفون ان ضمانة الأمر في معادلة التوازن الجيوسياسي بين سورية واسرائيل هو العقلانية السورية التي تتأرجح بين مكاسرة الإرادات ومقاسمتها والتي هي بالنتيجة النهائية أفضل بمليون مرة من اللاعقلانية التي يطرحها جنون فتح المنطقة على الفراغ، واستراتيجية سورية لا تقوم على التسعير نحو سباق تسلح نوعي وان دمشق اتخذت قرارات تعطي الانطباع والصدقية بأنها تريد ايقاف الجنون النووي وجنون أسلحة طبية ودوائية تحت اشراف وكالة الطاقة الذرية، ما أعطى الصدقية السورية السلمية، وهي وقعت اتفاقية الحد من الأسلحة الكيماوية ولم تصادق عليها، لأن اسرائيل لم تتخذ أي اجراء لا في هذا الاتجاه ولا ذاك، وبالتالي فسورية قدمت البرهان العملي على أنها لا تريد سباقاً للتسلح النوعي، وكل ما تريد هو ان تنزع أسلحة اسرائيل النووية والكيماوية والجرثومية، لتضمن أمنها وأمن واستقرار المنطقة والعالم، وبالتالي فمن المؤكد أن ليس في استراتيجية سورية أن تفتح المنطقة على ترسانة التسلح المدمر للإنسانية، ولم تكن ولن تكون المبادرة في ذلك. هي تنتهج السلام خياراً استراتيجياً وهو الضمانة الأساسية لخلو المنطقة من أسلحة الدمار الشامل وسباقها المستقبلي في مواجهة ما تفعله وأنجزته اسرائيل، إذا بقيت لا تريد السلام وتعبث بالأمن والاستقرار الإقليمي والدولي. ويجب أن يدرك ان لا سياسة من دون العقلانية التي تفسح دمشق أمامها الفرصة، بل ثمة جنون والجنون يقابله الجنون، وهذا ليس في مصلحة العقلاء طالما ان فسحة العقلانية قائمة وممكنة، مع العقلاء الذين ما دام لهم خيار سيبقون عقلاء. * كاتب سوري.