تصاعد وتيرة الدعم الأميركي النووي لإسرائيل لا يعكس فقط استخفاف واشنطن البالغ الفجاجة بالرأي العام العالمي والعربي، بل والأخطر أنه يدفع المنطقة دفعاً الى الانخراط في سباق تسلح نووي يستنزف طاقاتها ويقضي على كل الدعاية التي تبثها واشنطن عن ضرورة توقيع معاهدات سلام مع إسرائيل ونثر وعود التقدم والازدهار التي ستتبع ذلك بسبب تخصيص الموارد المالية للتنمية ولا للتسلح. ويبلغ الاستخفاف مداه اذا تذكرنا أن صور هذا الدعم على شكل اتفاقات عسكرية وبرامج مشتركة وتغاضٍ عن القدرة النووية الإسرائيلية بل والدفاع عنها... تسارع في شكل لافت قبيل اجتماع نيويورك الذي عقد في 24 نيسان ابريل الماضي، ضمن الاجتماعات الدولية التي تعقدها الأممالمتحدة كل خمس سنوات لمراجعة التزام دول العالم اتفاق حظر أسلحة الدمار الشمال، بحسب مقررات مؤتمر سنة 1995 الخاص بالمعاهدة والذي أخّر توقيعها الى أجل غير مسمى. وربما كان من المفيد أولاً التوقف بعض الشيء عند مغزى هذا الاجتماع المهم وقراءة موقف واشنطن منه "والأهمية القصوى" التي توليها له، ثم مطالعة الموقف والممارسة الأميركيتين حيال البرنامج النووي الإسرائيلي، وهما اللذان يتعارضان في شكل صارخ ليس فقط مع الجهد الأممي في الوصول الى عالم خال من أسلحة الدمار الشامل، بل وحتى مع التصريحات الأميركية العلنية الداعية الى ضم البلدان غير المنخرطة في معاهدة حظر الأسلحة النووية اليها، وهي إسرائيل والهند وباكستان وكوبا. وفي المقابل، من المفيد أيضاً مقارنة ذلك بحملة أميركا القوية على ما تسميه برنامج ايران للتسلح النووي والمراقبة اللصيقة لأي توجه لدى مصر أو أي من بلدان المنطقة في هذا المضمار، من دون الحاجة الى التذكير بما تم ويتم على جبهة نزع السلاح العراقي نظراً الى وضوحه الكبير. وستتعرض المقالة للأسئلة التي تلح دوماً على الدول العربية كلما عاد هذا الموضوع الى الواجهة، خصوصاً في ضوء الاجتماع الأممي في شأن مراجعة مدى التزام الدول معاهدة الحظر. ولكن قبل تناول هذه الاسئلة ومثيلاتها، من المفيد وضع تجدد التزام أميركا دعم الاستراتيجية النووية الاسرائيلية، في سياقات أوسع توفر فهماً أعمق للذي نراه الآن. ومن ضمن ذلك التعرض بايجاز للخطوط العريضة لهذه الاستراتيجية. استراتيجية اسرائيل النووية انتهجت اسرائيل، وباتفاق مع الولاياتالمتحدة ومنذ الستينات، سياسة يمكن وصفها بالعربية بسياسية "خلق حال التباس" AMBIGUITY حيال برنامجها النووي، هدفت الى ايجاد مقدار كبير من التشويش والشكوك حيال امتلاكها قدرات عسكرية نووية. وهذه السياسة حققت بها اسرائيل أمرين: الأول ردع الطرف العربي الذي صار يحسب ألف حساب لتلك القدرات "المحتملة" وشبه المؤكدة، والثاني ابقاء باب المناورة مفتوحاً لانكار امتلاك القدرة النووية وعدم الاعتراف الرسمي بذلك، لما قد يجره على إسرائيل من تحميلها المسؤولية أمام المجتمع الدولي لأنها أول من ادخل المنطقة حلبة التنافس النووي، وأيضاً مراعاة لمصالح الولاياتالمتحدة ورغبتها في ألا تعلن اسرائيل نفسها قوة نووية. والواقع أن إسرائيل افلتت في برنامجها النووي تحت سمع العالم وبصره، وقد اقتنع بموقف "خلق الالتباس" الذي تبناه الإسرائيليون، ولم يعالجه العرب معالجة حقيقية تناسب خطورة البرنامج وحساسيته، خصوصاً أنه وضع ويضع المنطقة على شفا كارثة، سواء من طريق الاستخدام في الحرب أو التسرب غير المقصود، كما في حادث مفاعل تشرنوبل السوفياتي الشهير. ويقول الباحث الإسرائيلي افنير كوهين مؤلف كتاب "إسرائيل والقنبلة" من إصدارات مطبعة جامعة كولومبيا، 1998 إن الوصف الأدق لسياسة اسرائيل حيال برنامجها النووي ليس "خلق الالتباس" بل خلق "عدم الشفافية" opacity وهذا يعني ان امتلاكها القدرة النووية أمر مفروغ منه، يحقق هدف ردع الخصوم، لكن هذا الامتلاك غير معترف به رسمياً ولا يخضع لإجراءات تفتيش دولية. وعلى العموم، فاننا اذا تمعنا أكثر في سياسة "خلق الالتباس" المتبناة، نجدها عديمة المعنى، خصوصاً ان القدرات النووية الاسرائيلية وامتلاك اسرائيل قنابل ورؤوساً نووية/ بات من الأمور التي لا يرقى اليها الشك، خصوصاً بعد الأسرار التي كشفها موردخاي فعنونو في الثمانينات، وكذا تعامل واشنطن مع تل أبيب على أساس أنها قوة نووية. أما في الوقت الراهن فيمكن رصد توجه اسرائيلي متزايد نحو شبه الاعتراف الرسمي بامتلاك قدرات عسكرية نووية. وهو امر ملحوظ من خلال تكاثر الحديث عن ضرورة تعزيز "قدرات الردع" لدى اسرائيل، والمقصود بهذه التسمية دوماً السلاح النووي. وأخيراً كرر رئيس وزراء اسرائيل ايهود باراك تصريحات تصب في هذا الاتجاه، وحمل في زيارته لواشنطن، في الثلث الأول من نيسان ابريل الماضي هماً اساسياً تجاوز الضجة على مسار السلام السوري - الاسرائيلي، هو البحث في تطوير العلاقات الاستراتيجية الردعية مع واشنطن، على رغم التطور الدراماتيكي لهذه العلاقة، الذي حدث في واي بلانتيشن سنة 1998 ولا يزال ساخناً. وترتبط الاستراتيجية النووية ارتباطاً وثيقاً باستراتيجية اسرائيل الصاروخية التي تعتمد شبكة هجومية دفاعية، قوامها انظمة صواريخ "أورو" البعيدة المدى. وهنا ليس ثمّة ادنى قلق لدى صناع القرار في واشنطن من توغل المدى الذي باتت تصل اليه الصواريخ الاسرائيلية من 200- 400 كيلومتر الى 1500- 2000 كيلو متر اي أن في امكان اسرائيل قصف كل العواصم العربية. وكذا طهران، والوصول الى الأراضي الباكستانية بصواريخ ذات رؤوس نووية او كيماوية. اضافة الى ذلك، يمكن الاشارة الى أن الأرقام الاسرائيلية الحديثة التي تم تداولها في اجتماع للجامعة العربية متخصص في مناقشة الموضوع النووي على المستوى الاقليمي، تقول إن اسرائيل استقدمت عشرة آلاف عالم في الحقل النووي من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق من ضمن ثلاثين الف عالم في مختلف التخصصات. والمؤكد أن هذا الجيش من العلماء لم يستقدم للاستجمام في اسرائيل، بل للمضي قدماً في المشروعات النووية العسكرية. وعلينا أن نتخيل لو أن عُشر هذه الاعداد وُظف في بل آخر في المنطقة لما هدأت الزوبعة السياسية حياله، بل لنتج من ذلك فرض عقوبات عسكرية واقتصادية على البلد المعني. فعلى سبيل المثال تحرض واشنطن كل من تستطيع ضد ايران، بسبب ما تسميه البرنامج السرّي الايراني في الحقل النووي. وعلى رغم أن وكالة الطاقة الذرية تراقب عن كثب شديد تفاصيل مشروعات استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية في ايران، وتقوم بالتفتيش الدوري والمكثّف عليها، مقتنعة بسلميتها، فإن واشنطن غير راضية عن أداء الوكالة الدولية وتصر على اتهام ايران والمطالبة بفرض حصار علمي وتكنولوجي عليها. ثّم هناك اتهامات للسودان بأنه يستضيف مشروع اقامة محطة صواريخ بالستية برؤوس نووية أو كيماوية يرعاه العراقوكوريا الشمالية. وقد دعا ترنت لوت زعيم الغالبية في مجلس النواب الأميركي واشنطن الى الرد بقوة على هذه الاخبار، حتى لو باستخدام القوة العسكرية. واستمع الكونغرس الأميركي "بقلق بالغ" في 8 آذار مارس الماضي الى شهادات خبراء عن محاولات مصر التعاون مع كوريا الشماليةوالصين في مجال تطوير صواريخ بالستية تحمل رؤوساً كيماوية. وطالب بعض أعضائه برد وموقف حاسم ضد مصر بسبب ذلك. تناقض الدعاية والممارسة ويشدد الخطاب السياسي الأميركي في هذا الصدد على أهمية توقيع كل دول العالم المعاهدة الدولية لحظر انتشار السلاح النووي، التي وقعتها حتى الآن 187 دولة منذ العام 1968، باعتبار أنها تشكل إحدى أهم القواعد للهدف البعيد المدى، الرامي الى الوصول الى عالم خال من أسلحة الدمار الشامل. وقد بدا لكثيرين، خصوصاً بعد انتهاء الحرب الباردة وتسلم الديموقراطيين زمام الحكم في واشنطن، إن هذا الخطاب ترجم، واقعاً التزاماً أميركياً حقيقياً حيال موضوع وقف سباق التسلح العالمي، الأمر الذي اثبتت الوقائع عدم صوابيته. فالفرق بين الدعاية الأميركية في هذا الشأن والواقع، ما زال كبيراً وشاسعاً. فإذا نظرنا على سبيل المثال، في احدث بيان يحمل الموقف الرسمي الأميركي في هذا الشأن، وزعه السفير نورمان ولف الممثل الخاص للرئيس الأميركي بيل كلينتون، لحظر الانتشار النووي، نجد تثميناً منقطع النظير لأهمية معاهدة الحظر النووي وتعداداً لمناقبها وأثرها في تحقيق الاستقرار والسلم في مناطق عدة في العالم. ويذكر البيان أن المعاهدة تمثل أداة أساسية لمنع انتشار الأسلحة النووية، إنها توفر القاعدة الضرورية لخفض ما هو موجود من ترسانات نووية في العالم في اتجاه الوصول الى عالم خال من السلاح النووي، وانها تشجع الاستخدامات السلمية للطاقة النووية في مجالات الصناعة والطب والزراعة وغيرها. الا أن كل هذا الكلام "الجميل" تذروه رياح الواقع التطبيقي، فنرى واشنطن تسابق غيرها في انتهاك الروح العامة للمعاهدة، وهذا يتجسد في أربع سياسات رئيسية. الأولى، وهي موضوعة هذا المقال، تتمثل في الدعم اللامحدود للبرنامج النووي الاسرائيلي وتوفير الغطاء الديبلوماسي له، وتحويل الأنظار عنه في المحافل الدولية. وهذا الدعم، أو التشاطر الديبلوماسي على الساحة الدولية، انما يتم على حساب الأمن الاقليمي لمنطقتنا برمتها، عبر دفع الدول الأخرى في المنطقة دفعاً نحو حلبة التنافس النووي. فالبرنامج العراقي النووي، ونظيره الايراني ان وجد، وكذا بعض الأصوات الداعية مصر الى عدم التردد في منافسة اسرائيل في هذا المجال، انما هي مدفوعة أساساً بحقيقة الاختلال الفاضح في ميزان القوى النووي الاقليمي. وهذا معناه أن اسرائيل والولاياتالمتحدة تتحملان في شكل لا جدال فيه، مسؤولية اقحام المنطقة في سباق نووي محموم، في وقت يتجه بعض المناطق، مثل القارة الافريقية أو بعض الاقاليم الآسيوية والأميركية اللاتينية الى اعلان تلك الاقاليم مناطق خالية من السلاح النووي. وهذا كله ينقض الزعم الاسرائيلي بأن اسرائيل ملتزمة ما قاله رئيس وزرائها في حقبة الستينات ليفي اشكول، أنها لن تكون أول دولة تدخل السلاح النووي الى المنطقة. وهو ما تقول اسرائيل انها التزمته حتى الآن! أبعد من ذلك، فالبرنامج النووي الاسرائيلي مسؤول عن التسابق الحاصل في المنطقة في ميدان اسلحة الدمار الشامل غير النووية كالسلاح الكيماوي أو البيولوجي، أو حتى التوجه نحو امتلاك الصواريخ البالستية أكانت تقليدية الرؤوس أم غير تقليدية. الدول العربية أو غيرها التي يصعب عليها اطلاق مشروعات قوة نووية، تظل تعمل على ردم الهوة الاستراتيجية مع اسرائيل عبر انواع أخرى من أسلحة الدمار الشامل، حتى لو وقعت اتفاقات سلام بين هذه الدول واسرائيل، عملاً بمبدأ المعاملة بالمثل. وفي هذا السياق يبلغ النفاق الأميركي مداه، عندما تفصل أنواع أسلحة الدمار الشامل بعضها عن بعض، والحديث عن نوع محدد في معزل عن الأنواع الأخرى، بهدف وضع هذه الدولة أو تلك في مرمى التصويب، كالحديث عن امتلاك سورية أو مصر سلاحاً كيماوياً و"الخطر" الذي يمثله ذلك على الأمن الاقليمي، أو لوم ايران أو التحرش بمصر من جراء التعاون مع كوريا الشمالية في مجال تكنولوجيا الصواريخ البالستية. فالحقيقة الأساسية هنا هي أن كل هذه الأنواع الفتاكة يجب أن توضع في المستوى نفسه من الأهمية وتسليط الضوء عليها وعلى قدم المساواة. واستثناء اسرائيل من المتابعة والنقد والضغط هو أس مشكلة انتشار اسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط. ومن المفيد هنا الاشارة الى زن جيمي كارتر الرئيس الأميركي السابق حذر في مقال في "واشنطن بوست" في 26 شباط /فبراير الماضي من أن تراخي الولاياتالمتحدة، والدول الكبرى، في التزام تعهداتها في مجال الزام الدول غير الموقعة على معاهدة الحد من الأسلحة النووية وفي مقدمتها اسرائيل، الانضمام الى المعاهدة، ليس من شأنه افشال الجهود الدولية في هذا المضمار فحسب، بل انه يهدد أيضاً بحدوث كارثة نووية على مستوى العالم، سببها عدم القدرة على ضبط مخازن هذه الأسلحة ومراقبة اجراءات السلامة والأمن. ومن الجائز للمرء أن يضيف هنا أن منطقتنا من المناطق الأولى المرشحة الى مثل هذه الكوارث. أما السياسة الثانية من السياسات التي تتبناها واشنطن وتتعارض في شكل كامل مع المعاهدة، ونذكرها هنا من دون تفصيل شديد، حتى لا نفقد بوصلة موضوعة المقال المركزية، فهي استراتيجية "الدفاع الصاروخي القومي" وهي تعني اقامة شبكة دفاع صاروخي قاري تحمي الولاياتالمتحدة وحلفاءها في مناطق العالم المختلفة، من أي هجوم صاروخي محتمل من أي مصدر في العالم. وتستوجب بالتالي اعتماد نظم دفاع بالستية عابرة للقارات لا تستثني استخدام اسلحة نووية. ومن الطبيعي أن يثير هذا التوجه اعصاب دول كبرى مثل الصين وروسيا اللتين تعترضان على هذه العقيدة الأمنية الأميركية، باعتبارها مناقضة لمناخ الانفراج الدولي بعد نهاية الحرب الباردة، وتولد بيئة مشجعة على انتشار السلاح النووي، واعتماده بدلاً من الحد منه. والسياسة الثالثة والبالغة الأهمية هي اصرار واشنطن، في اطار الحلف الأطلسي، على اعتماد السلاح النووي، كاحدى أهم الركائز الاستراتيجية للعقيدة الأمنية للحلف في حقبة ما بعد انتهاء الحرب الباردة، وابقاء الاستراتيجية القديمة التي تعتمد امكان القيام بالضربة النووية الأولى ضد الخصم، وليس فقط للدفاع والرد في حال استخدام الخصم هذا النوع من السلاح. وتتمثل السياسة الرابعة في رفض الكونغرس المصادقة على معاهدة منع التجارب النووية، وهو رفض لا يضع صدقية الولاياتالمتحدة في الموضوع النووي على المحك فقط، بل وينسفها من الأساس. نعود الى الموضوع الأساسي، وأحد أهم تجلياته الراهنة دعم الولاياتالمتحدة المادي والاستراتيجي لبرنامج اسرائيل النووي، وتوفير الدعم والتغطية الديبلوماسية للموقف الاسرائيلي في المحافل الدولية. وقد نال تجدد هذا الدعم دفعة قوية مع توقيع اتفاق واي بلانتيشن في تشرين الأول اكتوبر 1998 بين الطرفين الاسرائيلي والفلسطيني، حين اتفقت واشنطن وتل أبيب على "تفاهم استراتيجي" التزمت من خلاله الأولى دعم القدرات "الاستراتيجية" أي النووية، للثانية، وأرفقت ذلك الالتزام بدعم مالي قيمته 2.1 مليار دولار لتعزيز تلك القدرات. واعتبر رئيس وزراء اسرائيلي في حينه بنيامين نتانياهو "التفاهم" انجازاً فائقاً وأهم بكثير من الاتفاق مع الفلسطينيين كونه يلزم أميركا علناً، للمرة الأولى في تاريخ العلاقة بين الطرفين، دعم برنامج اسرائيل النووي، بدلاً من الضغوط عليها لوقفه. واعترافاً بأهمية ذلك الالتزام، طالب ايهود باراك واشنطن بتجديده لحكومة حزب العمل ايضاً. وعلى رغم ان الدعاية الاسرائيلية حاولت التركيز على أن فحوى التفاهم المذكور يحوم حول تجديد الالتزام الأميركي القديم لإسرائيل عام 1969، ويقوم على عدم الضغط عليها في مقابل الا تعلن نفسها دولة نووية فتحرج واشنطن الا ان قرائن التفاهم والدعم المالي والحديث من احتمال توقيع معاهدة دفاع مشترك مع تل أبيب تشير كلها الى الانتقال نحو خطوة عملية ودعم مباشر، وليس فقط سياسة غض النظر. فعلى سبيل المثال وُقع اتفاق بين الطرفين في شباط فبراير المنصرم يسمح، للمرة الأولى في تاريخ البلدين، لاسرائيل بالاطلاع على التكنولوجيا النووية الأميركية والاستفادة منها، لأن اسرائيل، وبحسب بيل ريتشاردسون وزير الطاقة الأميركي، "دولة صديقة ولا تعامل بالأسلوب نفسه الذي نعامل به دولاً أخرى". ويسمح أيضاً بتقديم خبرات أميركية متقدمة في أكثر من 25 ميداناً وتخصصاً نووياً وغير نووي، الى العلماء الاسرائيليين. أما على جبهة التغطية الديبلوماسية فنلحظ أن واشنطن بدأت باكراً في تهيئة الرأي العام الدولي لقبول "الوضع الراهن" في ما يتعلق بعدم توقيع اسرائيل معاهدة الحظر النووي، والدعوة الى عدم الضغط عليها في هذا الاتجاه. وتوالت تصريحات لجون هولم مستشار الرئيس كلينتون لشؤون ضبط التسلح، من بين آخرين، "تحذر" من انجرار الاجتماع الى الاستغراق في مناقشة "اجبار الهند وباكستان واسرائيل" على توقيع المعاهدة، وضرورة معالجة "أجندات" أوسع، من مثل الاستخدام السلمي للطاقة النووية واجراءات الحماية والسلامة العامة التي يجب أن تتوافر في المنشآت النووية وسوى ذلك. وتحدث مسؤولون آخرون عن "ضرورة" التركيز على برامج السلاح النووي في كوريا الشمالية نظراً الى "خطورتها" على الأمن القومي الأميركي من ناحية، ولتحويل النظر عن اسرائيل. الموقف العربي واتسم الموقف العربي من امتلاك اسرائيل أسلحة دمار شامل، عموماً، بالضعف الذي تمثل ببلع "الالتباس" الاسرائيلي ودفن الرأس في الرمال، عقوداً عدة. فمن ناحية موقفية لم يبق الأمر على "أجندة" الأمن الاقليمي والعالمي من زاوية التهديد الذي يمثله على المنطقة برمتها، ان لناحية جرها الى سباق تسلح نووي وان لناحية الخطر المباشر من جراء أي تسرب أو انفجارات ناتجة من حوادث طارئة. وتراجع الموضوع النووي واعتبر مجرد عنصر من عناصرالصراع مع اسرائيل، وليس عنصراً حاسماً يمكن أن يقلب جغرافيا المنطقة ويرجعها الى عصور ما قبل التاريخ. أما من ناحية عملية، أي محاولة تعديل ميزان القوى النووية، فلم تكن ثمة محاولات جادة سوى الاستثناء العراقي، حيث المحاولة التي ولدت أواخر السبعينات وتلقت ضربة قاصمة بقصف الاسرائيليين مفاعل تموز عام 1981، وكذلك ما تشير اليه تقارير عن محاولات جزائرية في السبعينات في الحقل النووي العسكري وئدت في مهدها. واذا اردنا أن نرى ضعف الموقف العربي في مرآة الاخرين، فمن المؤلم ان نلاحظ أنه لم يرتق الى درجة من الصلابة تجبر الولاياتالمتحدة على دفع ثمن دعمها لبرنامج اسرائيل النووي، كما حذّرت "سي.آي.ايه" في آذار مارس 1963، عندما كُشف رسمياً عن مفاعل" ديمونا. آنذاك اصدرت الوكالة الاستخبارية تقريراً توقعت فيه ان يؤدي تطوير اسرائيل قوة نووية، الى تدمير بالغ لموقع الولاياتالمتحدة ونفوذها في البلدان العربية ويخرب علاقاتها معها الأمر الذي حدث عكسه، مع الأسف. وفي السنوات الأخيرة تطور موقف جماعي عربي عبر قرار من القمة العربية في حزيران يونيو 1996 في اتجاه الدعوة الى شرق أوسط خال من أسلحة الدمار الشامل، وفي مقدمها السلاح النووي، مع مطالبة المجتمع الدولي بالضغط على اسرائيل توقيع معاهدة حظر الانتشار النووي. والواقع أن الموقف العربي كان في جوهره الموقف المصري الذي امتنع، من البداية عن مجاراة اسرائيل في المنافسة في الميدان النووي، واتضح من خلال توقيع مصر التمديد غير المحدد على المعاهدة سنة 1995، والذي اعقبته في نيسان ابريل 1996 استضافة القاهرة اجتماعاً افريقياً موسعاً أعلن فيه التزام الدول الافريقية، بما فيها مصر، المحافظة على القارة السوداء خالية من السلاح النووي. يبقى أن المطلوب من المجموعة العربية دائماً أن تحشد ما أمكنها من دول العالم للضغط على اسرائيل توقيع المعاهدة واعتبار عدم توقيعها السبب الجوهري، ليس فقط في تشجيع انتشار الأسلحة النووية في المنطقة بل وأىضاً سائر أنواع أسلحة الدمار الشمال. وعلى مصر تحديداً أن تترك خياراتها مفتوحة ولا تلزم نفسها موقف المصادقة على المعاهدة الى أجل غير مسمى. بل من المهم التفكير أيضاً في ايجابيات الخروج من المعاهدة كلياً وسلبياته، وفي ضوء مصالح مصر الاستراتيجية الاقليمية، اذا اصرّت اسرائيل والولاياتالمتحدة على تمرير البرنامج الاسرائيلي وحمايته. والأمر الآخر المطلوب قيامه في المنطقة جهد من المنظمات غير الحكومية، هدفه استمرار تسليط الضوء على البرنامج النووي الاسرائيلي وأخطاره على المنطقة، في اطار جهد أعم هو الوصول الى منطقة خالية من كل أسلحة الدمار الشامل وبتنسيق مع جهود منظمات دولية غير حكومية تسعى الى عالم خال من أسلحة الابادة هذه. * كاتب فلسطيني مقيم في بريطانيا.