كان يعتقد حتى وقت قريب ان زنوبيا ايمار هي المرأة الوحيدة في حياة شاعر الموت والحب والتأمل، الإسباني خوان رامون خيمينز موغير 1888 - بويرتوريكو 1958، الذي ملأ فراغاً كبيراً في بانوراما الشعر الإسباني، وأثر في شعراء ما قبل 1936، بعد ان انحسر تيار الحداثة 1898 - 1915 الذي تزعمه وأدخله الى شبه الجزيرة الإيبيرية، النيكاراغوي روبن داريو، بفضل احساس خوان رامون المرهف، وتوقه للكمال والجمال، استطاع الشعر الغنائي الإسباني ان يتجدد، وينقذ نفسه من السقوط في الفراغ. عشق خوان رامون زنوبيا ايمار، حين تعرف إليها في مدريد عام 1913، وتزوجها في 2 آذار مارس 1916 في نيويورك، حيث تسكن عائلتها، وظلت ملهمته طوال ثلاثة وأربعين عاماً، وقد جعلت رفقتها ومساعدتها له عمله ممكناً، فاعتبرها الرابحة الحقيقية لجائزة نوبل للآداب لعام 1956، نالها الشاعر في الوقت الذي كانت زنوبيا تحتضر. نحن الآن، أنا وأنت، انت وأنا، كما ان البحر، وكما ان السماء، هما بحر وسماء دون مشيئتهما. و... عندما يطلع النهار، الضوء، هو انت. ان حضور زنوبيا قوي وطاغ في ديوان "صيف" الذي نظمه خوان رامون عام 1915، والذي ينتمي الى المرحلة الأولى من انتاجه، "ألحان حزينة" 1903 و"حدائق بعيدة" و"رعويات" و"قصص الربيع الشعرية". في هذه المرحلة استعار الشاعر عناصر قليلة من المدرسة الحديثة، كالإشارة الى الغسق والكآبة، وتردد صدى للرومانسية الجديدة والرمزية، وتبقى فيها القصائد حميمة، رقيقة وشاكية، اطرها الحدائق الضبابية وصورها مليئة بالالتباس. و"صيف" هو بالدرجة الأولى ديوان حب، الحب المعاش، المجسد في امرأة معشوقة، توحد معها، وتضفي عليها عيناه صفات مثالية، لترتسم ملامحها في سماء من كمال. كذلك ايضاً، كانت زنوبيا ملهمة شاعر الحب والموت والتأمل، في المرحلة الثانية، والأكثر ابتكاراً في انتاجه، تبدأ مع "يوميات شاعر تزوج حديثاً" نظمه عام 1916 - من عناوينها "ازليات" و"حجارة وسماء" و"جمال" وتختفي من ابياته العناصر التزينية الحديثة، يتجنب اسلوبها الالتباس في المعاني، ويعتمد التعبير البسيط والعميق في آن، كما يبقى فيها الواقع الخارجي الموصوف بإبداع، صورة لأعماق الشاعر: صار اللون ضوءاً، والموسيقى نغمة حميمة. اما القاسم المشترك بين المرحلتين، فهو التوق الكلي الى الكمال. لقد خلد خوان رامون ملهمته، معشوقته وزوجته زنوبيا في شعره، وكان يريد ان يتذكرها كل من يتحدث عنه ذات يوم، لكن يبدو ان زنوبيا ايمار لم تكن المرأة الوحيدة في حياة الشاعر، اذ كشفت خمس قصائد وثلاثة نصوص نثرية، نشرت منذ فترة في الملحق الأدبي لجريدة "ا ب ث" المدريدية، ان خوان رامون عاش وهو في الخمسين من عمره مأساة أليمة، اوحت له بعضاً من أروع قصائده. ان عناوين اربعة من تلك الآثار القليلة التي نشرت بعد وفاته بأكثر من تسعة عقود، هي اسم لامرأة اخرى "مرغا خيل روسيت" النحاتة الصبية التي عشقته بيأس، وانتحرت بأن أطلقت رصاصة على رأسها، لأنه لم يحبها ورفض ان يتزوجها. كانت مرغريتا ابنة عماد في الجيش، تلقت تربية مميزة وقاسية، وتتحدث عدة لغات، كما كانت تشاهد في سن المراهقة مع اختها كونسويلو في المعارض الفنية، والحفلات الموسيقية، إلا انها لم تدخل الى منزل الشاعر وزوجته إلا في كانون الثاني يناير او شباط فبراير من عام 1932، قدمتها اليهما صديقة مشتركة هي اولغا باور، وذلك لتنحت لهما تمثالين نصفيين. وما بين مطلع سنة 1932 وأواخر تموز يوليو، نسجت الحياة خيوط المأساة التي فاجأت الشاعر وزوجته، وظلت بصماتها ثقيلة وواضحة فوق وجودهما، فزنوبيا تكتب في مذكراتها وهي تتذكر صديقتها النحاتة: "مرغا! كم كان مرورك قاسياً في حياتنا". اما خوان رامون، فقد قال لخوان رويز غيريرو - صديقه وسكرتيره طوال ثلاثين عاماً - وقد قضى في الثامن والعشرين من تموز ساعة ونصف قرب سرير مرغا المحتضرة في مستشفى لاس روساس: "لقد كان ذلك امراً رهيباً، وهذياناً فظيعاً. انه امر لا يُنسى مدى الحياة". للمرة الثانية، كان الموت يصعق خوان رامون خيمينز: يذكر غيريرو في كتابه "مشافهة" ان الشاعر الذي كان يصاب بنوبات عصبية في سن المراهقة والصبا، قال له: عندما كنت لا ازال طفلاً على وجه التقريب، توفي ابي فجأة ذات ليلة في موغير. أن أراه يموت، بينما يمتلئ البيت بالصراخ، ولّد في اعماقي شعوراً لا يمحى، منذ ذاك الوقت، ظللت افكر زمناً طويلاً، ان الموت يقف الى جانبي. كل ذلك، مقروناً بطبعي الكتوم، سبّب لي كآبة لا حد لها". وللمرة الثانية يتحدث الشاعر الذي صعقه الموت الى غيريرو، ويخبره في التاسع والعشرين من تموز عما حدث لمرغا المسكينة، يوم الانتحار المشؤوم، حدثه عن ذلك "وهو محبط ومليء بالأسى المطلق والألم العميق". زارته مرغا صباحاً، وكانت تحمل بيدها رزمتين، وضعت واحدة على الطاولة، وطلبت إليه ألا يقرأها. وبدا له ان الرزمة الأخرى، تحوي شيئاً معدنياً، ربما كان المسدس الذي قتلت به نفسها. لما غادرت البيت، رأتها الخادمة تبكي، واتصلت به امها مساء، لتقول ان ابنتها لم تعد الى المنزل. "خرجنا انا وزنوبيا نبحث عنها. تنقلنا من مكان الى آخر. ذهبنا الى المقلع حيث كانت تعمل، فقيل لنا انها مرت الى هناك بعد الظهر، وحطمت كل منحوتاتها، ما عدا واحدة، بحثنا عنها في اماكن كثيرة ولم نجدها، حتى التقينا بابنة عمها التي اخبرتنا ان مرغا انتحرت، بأن أطلقت رصاصة على رأسها في غرفة فندق تملكه العائلة، وأنها في مستشفى لاس روساس، فذهبنا الى هناك، وبقيت قربها ساعة ونصف حتى ماتت. انتحرت مرغا، لأنها لم تكن تستطيع ان تكون سعيدة. ماتت في 28 تموز، وقد تركت في منزل خوان رامون ستاً وثمانين صفحة من مذكراتها، مكتوبة بخط كبير وبقلم رصاص، وبعضها لا يُقرأ، وهو مليء بنقاط الوقف، وبجمل بدأتها ولم تنهها، ومقاطعها مؤثرة جداً، ويومياتها الأخيرة في منتهى البلاغة. قرأ الشاعر المذكرات بعد ان عاد من مقبرة لاس روساس، وأعطاها في زمن غير محدد الى زنوبيا، ورجاها ان تقرأها، من دون ان يؤثر ذلك على مشاعرها تجاه مرغا. لم يحدثها طويلاً عن المذكرات، إنما كتب لها ملاحظة صغيرة يقول فيها: "لم اعطك المذكرات قبلاً، لاعتقادي ان هذا افضل، انا لا استطيع ان أمزقها، لأنني سأشعر انني احطم مرغا وهي ميتة". ودفنت الصبية العاشقة في التاسع والعشرين من تموز، لكن القصيدة التي تحمل اسمها موقعة في الرابع من آب اغسطس لعام 1932. وفي تلك القصائد الرائعة والمعدودة، التي أوحتها إليه المأساة الأليمة التي عاشها، يختصر خوان رامون رؤيته الخاصة للحب والموت: الحب هو التوق الى الكمال عندما يملأ الروح، وهو ممزوج بالألم والكآبة المقلقة في مواجهة اللامبالاة. اما الموت، فهو أليف، وليس الهوة السوداء التي نخشاها، لأنه طريق الأشكال الفانية للوصول الى ما لا يزول: هو متمم للحياة وليس نهايتها، لأنه بداية الخلود، فسقوط الجسد يحرر الروح، ويسكنها في الأزلية. ان نموت يعني ان نسافر، ان نسمو بكينونتنا فوق الوجود المادي، بعد ان نكون قد حققنا عملنا، انتاجنا او آثارنا. والموت ضروري للكمال الإنساني الشامل: من التراب الإنساني البائس، يمكن ان يولد كائن معصوم عن الجرح، روحي وقادر على ان يملأ ما هو سرمدي، حين يقطع البحر الذي هو جسر الى الخلود. وجمع خوان رامون قصائده الرائعة والمعدودة، التي يجعل فيها موت مرغا خلوداً مضيئاً، ويخلدها فيه زهرة دائمة تمنحها الأرض التي تحضنها. جمع القصائد اضافة الى المذكرات، والى مسودتين لتصميم كتاب يحمل اسمها، في مغلف كستنائي اللون، ظل في ادراجه حتى عام 1936، وسرق من منزله في مدريد مع قصائد اخرى وكتب ولوحات، بعد ان هاجر الى اميركا مع زوجته اثناء الحرب الأهلية الإسبانية، استعاد اصدقاؤه بعض اغراضه، وأعطوا المغلف المهم الى غيريرو، فسلمه الى ابن اخت الشاعر فرنسيسكو هرنانديز، ليحتفظ به عقوداً، قبل ان يفرج عن حكاية مرغا، وعن بعض اروع القصائد التي وقعها حامل جائزة نوبل للآداب. وقد نشرت أخيراً بعض يوميات النحاتة، كما القصائد والنثر الخوان راموني في الملحق الأدبي لجريدة "ا ب ث".