أربعون سنة مرَّت على صدور الترجمة العربية لمذكرات الشاعر التشيلي بابلو نيرودا «أعترف بأنني قد عشت» وهي آخر ما كتب في حياته، إذ صدرت طبعتها الإسبانية في برشلونة بعد بضعة أشهر من رحيله عام 1973. يومذاك كانت الحرب الباردة في ذروتها، والشيوعية لها المقام والمقال، في الساحات العربية ومنابرها الكثيرة، من هنا كرَّس صاحب «أغنية حبٍّ إلى ستالينغراد» تلك الصورة التي ظلت تستهوي الشعراء العرب في تلك الحقبة، واستمرت كذلك حتى بعد رحيله، صورة الشاعر الثوري المناضل المنفي العاشق، والتي استمدَّت منها مقولات: «السعادة الثورية» و «الفرح الشيوعي» و «العشق الأممي»! واليوم، يتزامن صدور الطبعة الجديدة من مذكرات نيرودا «أعترف بأنني قد عشت» عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ترجمة وشرح محمود صبح مع نبش قبره لاستخراج رفاته المدفونة في منزله، لتشريح جثته، وإعادة فتح التحقيق في سبب وفاته، بدعوى أنها كانت اغتيالاً بحقنة قاتلة، بناءً على إفادة سكرتيره بأن الشاعر تلقَّى عند دخوله المستشفى حقنة غامضة في الساعات التي سبقت وفاته، خصوصاً أنه كان ينوي الهربَ إلى المكسيك لقيادة المعارضة من هناك ضد نظام بينوشيه. كان نبش قبره، محاولة للتحقُّق من وجود السمَّ في جسد الشاعر، السمَّ السياسي الذي يجعل موتَ شاعر في التحولات السياسية ضرباً من القتل، ويطبع حياته بسيرة من الريبة والتنازعات المختلفة، ولكن كم كانت كمية تلك السموم في حياة الشاعر الذي عشق المرأة والطبيعة والمطر، والوطن «العَذْب والقاسي»؟ في شخصيةٍ كبابلو نيرودا يتقاطع فيها العاشق بالعقائدي، والشاعر بالسياسي الذي رشح نفسه في آخر سنواته إلى رئاسة الجمهورية قبل أن ينسحب لمصلحة رفيقه سلفادور ألليندي، فإنَّ الأمر لن يخلو من مساحة أكيدة تتجاور فيها تلك التناقضات. وقد يكون لافتاً أنه لم يكن حزبياً، في مطلع شبابه، فقد انتسب للحزب الشيوعي التشيلي عام 1945، بعدما كان قد تجاوز الأربعين من عمره. جانبٌ كبيرٌ من تلك المذكرات هو مزيجٌ من التاريخ الأدبي والشخصي. أما وقد انهار الحلم الأممي، فإنَّ حياة الشاعر وعلاقته مع قصيدته تبقى الجانب الأكثر حضوراً نظراً إلى «نقاوتها» غير الخاضعة لقوانين الصراع التقليدي: «لقد قذفت بنفسي إلى الحياة وأنا أكثر عرياً من آدم، لكنني كنت مصمماً على المحافظة على طهارة نفسي». لا يلتزم صاحب «الإقامة في الأرض» التتابع الزمني للأحداث في سرد مذكراته، لأنَّ مذكرات الشاعر «أقرب إلى الحلم»، «إنني لم أعش في ذاتي، ربما عشتُ حيوات الآخرين». وبهذا المعنى، فإنَّ حياة الشاعر جماعية مسكونة بالآخرين، وبسخونة الوقائع، وكذلك الأشباح والظلال، لهذا يبدو مرَّة إنشائياً ومرَّة إخبارياً، وهو يكتب عن الأمكنة التي عاش فيها بفعل عمله القنصلي في شرق آسيا ومنفاه المتعدد في أوروبا، وعن الأجواء التي كتب فيها قصائده، وأيامه في تجربة الحرب الأهلية في إسبانيا. طوراً يتراوح بين الخبر اليومي والنثر الفني، وأحياناً يجنح نحو التداعي الحرّ للمخيلة الطليقة في طريقة كتابة النَّثر بنكهة الشعر، وهو ما كان فعله في شبابه في كتابه «خواتم». وعلى رغم اعترافه بأن النسيانَ أتى على جانب من حياته في الطفولة، وأخذ في عتمته وقائع وأشخاصاً، ظلّ المطر «الشخصية الوحيدة التي لا أنساها». وإذا كان المطر شخصيته الأولى، فإنَّ الرسائل التي كتبها في سنوات المراهقة إلى ابنة الحدَّاد في بلدته يستذكرها بصفتها «باكورة أعماله»، بيد أن تلك القدرة على كتابة رسائل الغرام، والتي تظهره بقناع كازانوفا، تتراجع إزاء حالة الإغواء الأولى التي يتعرَّض لها من فتاتين اكتفى بأنْ لاذ منهما بالهرب. بدايات يبدأ في كتابه من «أوائل» الملهمات والمنعطفات في حياته، فأوَّل الشعر لديه ارتبط بحادثة شعورية، وأولى القصائد كانت إلى امرأة. الحادثة تتعلّق ببجعة مريضة حاول إنقاذها من الموت لكنَّها ماتت في حضنه، وقد سقط عنقها الطويل على وجهه، ومنها تعلَّم أن البجع عندما يموت لا يغنّي. أما قصيدته الأولى فكانت بضعة أسطر مسجوعة إلى امرأة، هي زوجة أبيه. وأوَّل من عرفه على الكتب امرأة «غابرييلا ميسترال» التي عملت معلمة في قريته، ولَمَّا لم يكن متاحاً أن يتخذها عشيقة له، اكتفى بأن يخرج منها في كل لقاء بمجموعة من الكتب التي عرّفته إلى الأدب الروسي. وفي الخرزة اللامعة لسلسلة الأوائل تلك كان عليه أن يخوض تجربته الجسدية الأولى، على سرير من التبن في موسم حصاد القمح في قريته، مع امرأة مجهولة من بين عشرات من النساء تنسلُّ إليه في الظلام. وفي صباح اليوم التالي لا يكاد يميِّز تلك الزائرة في الظلام، بين حشد من النساء المتحلقات حول طاولة الفطور. هذا «اللاتمييز» في أصول الدافع الحسّي، كما يسمِّيه كولن ولسون، يأخذ أحياناً شكل الدافع الكازانوفي، في صورة للعلاقة العابرة الغامضة، هذه المتعة الناجمة عن مجهولية الآخر - الشريك، وآنيته وربما شيئيته، وهذا ما نراه في أكثر من مكان من مذكراته. وعلى رغم زواجه ثلاث مرَّات، إلّا أنّ علاقاته ظلّت عابرة «لا تمييزية» تداهمه في تجواله الدائم. لقد وقع نيرودا في وقت مبكر تحت شعور قسري بالنفي الشخصي قبل المكاني، فأمُّه كانت له مجرد صورة في إطار ترتدي الثِّياب السود، فهو لم يرها لأنها توفيت وهو في شهره الثاني. وبسبب اضطهاد والده موهبتَه الشعرية لجأ إلى اسم مستعار لكاتب تشيخي ليكون اسمه الأدبي، وهكذا أصبح ريكاردو فيتالي: بابلو نيرودا. لكنّ اللافت أنّ شهرة الاسم المستعار طغت على الاسم الأصلي للشاعر التشيخي «جان نيرودا» ومع هذا فإنه سيجد، من يناديه باسم ثالث، فبعد هروبه من بلاده استعار جواز صديقه الروائي الغواتيمالي أستورياس الذي كان يعمل ديبلوماسياً في الأرجنتين، نظراً إلى الشبه الغريب بينهما. فتنقّل بين أميركا اللاتينية وأوروبا قبل أن يصل إلى باريس باسم «روائي غواتيمالي عظيم» بينما كانت السلطة في تشيلي، لا تزال تبحث عن نيرودا! وهنا كانت له معضلة أخرى في استعادة اسمه، ربما لهذا يعيد التأكيد في سيرته، إنه عاش حيواتٍ عدة لا حياةً واحدة! وأنَّ سيرته مزدحمة بالآخرين، وليست خلاصة لتجربته الذاتية. وتحت تأثير هذا الشعور الموروث، حسم صاحب «سيف اللهب» خياره في الشعر بين النخبوية والجماهيرية. وعلى رغم الخجل الذي يعترف بأنه الشعور الباطني المفتوح على العزلة والتفرَّدُ، يؤمن نيرودا «بالأغلبية الجوهرية» إزاء ما رآه خوان رامون خمينث وأوكتافيو باث من أن الشعر فنّ «الأقلية الهائلة»: «لقد أتت الحياة السياسية كما يجيء الرعد لتخرجني من أعمالي إلى جمهرة الناس، أستطيع أن أصل إلى هذه الجمهرة بخجل الشاعر المتأصل فيه، بفزع الخائف، لكن ما إن أصبح في حضن الجمهرة، حتى أحسّ بالتقمُّص وإذ بي جزءٌ من الأغلبية الجوهرية». شعراء وقادة هذا التقمُّص «الجماهيري» قادهُ إلى علاقات واسعة مع «نخبة فخمة» فهو يرسم بورتريهات للشعراء الذين عرفهم إضافة الى القادة السياسيين: إيلوار «البرج الفرنسي العاطفي وشاعر الحب الفلكي» إزاء غيفارا المتأمِّل الذي كانت الكتب ترافقه في معاركه إلى جانب الأسلحة، وباييخو صاحب القصائد الصعبة «كجلد الغابة» ووجه «كقناع صلب»، والذي يتحدَّث باستمرار عن تكوينه الجسدي، مرة كنموذج لسلالة الهنود الحمر، ومرة كشبيه لنابليون. وكواسيمودو «الذي تتحد فيه الألوان والألحان لعالم هادئ في شكل كئيب» ورفائيل آلبرتي «مبتدع حرب العصابات الشعرية، مخترع الحرب الشعرية ضد الحرب»، إضافة إلى ستالين الذي يصفه بأنه رجلٌ منهاجه الغموض، لقد كان سجين نفسه. و «غابرييلا ميسترال» المرأة اللاتينية الأولى التي تفوز بنوبل، والمكتئبة بفعل أكثر من حالة انتحار في عائلتها، مقابل كاسترو الذي كانت خطبه «وحياً»، و «لوركا» «الذي تخلف عن موعدهما لحضور حفلة سيرك، ليحضر حفلة إعدامه في غرناطة منفرداً!» مقابل ماو تسي تونغ: «الأسطورة التي تريد أن تحتكر الضمير الثوري وقبضة اليد الواحدة التي تخلق عالماً سيكون للجميع». بدا نيرودا في مواضع كثيرة من مذكراته «ستالينياً» تائباً، لهذا لم يستطع أن يكون «ماويّاً» فهو ينتقد ثقافة تكريس عبادة الشخصية، وتقديس ماو تسي تونع، بينما يعترف بدوره في تكريس عبادة ستالين، فإنه يبرره «بالضرورة» في مواجهة هتلر! ولهذا كان صعباً عليه أن «يبتلع للمرة الثانية هذا القرص». في آخر فصول الكتاب: «وطن عذب وقاسٍ» ومن السطور الأولى، نقع على قلق الشاعر من الآتي، ونقرأ نُذُرَهُ المخيفة، ولم يكد حبر الشاعر يجف، وهو يشعل تلك النُّذُر على الصفحات الأخيرة من مذكراته حتى وقع الانقلاب الدموي الذي مات بعده بأيام. فكتب السطور الأخيرة في كتابه وسمّاها: السطور العاجلة، بضعة أسطر ترثي صديقه الرئيس ألليندي، وبكلمات أخيرة يهجو عساكر تشيلي الذين «خانوا تشيلي مرة أخرى!». الخيانة إذاً كانت الكلمة الأخيرة في مذكرات الشاعر الذي حاول تكريس حياته لكتابة قصيدة الحبّ، وهكذا تحقَّق عنوان ديوانه الشهير «عشرون قصيدة حب، وأغنيةٌ يائسة!». فلم تكن قصائدُ الحبِّ العشرون، ولا حتى «مئة سوناتا غزلية» بكافية لهزيمة أغنية واحدة وأخيرة لليأس.