في آب اغسطس عام 1978، رحلت للمرة الثانية الى مالقة في جنوباسبانيا، وبقيت فيها شهراً، اتيح لي خلاله ان اتعرف الى الشاعر المالقي وزوجته ماريا فيكتوريا اتنثيا، صديقي الشاعر الكبير فيسنتي الكسندري، واللذين اهتما باصدار قصيدته "انتهاء" في كراس خاص، واطلقا فكرة تعليق لوحة حجرية تذكارية على مدخل المنزل الذي عاش فيه صاحب جائزة نوبل للآداب لعام 1977 في شارع قرطبة الرقم 6. تحدثت طويلاً مع رافائىل وماريا فيكتوريا عن الكسندري. كانا فخورين جداً بمعرفته وصداقته، تحدثا عنه بمحبة عظيمة واحترام كبير. اخبرني رافائيل عن الرسائل المتبادلة بينهما، وشاء ان يسنخ لي بخط يده خمس عشرة رسالة ننشر هنا ترجمة ل 14 منها بعث بها الكسندري له ولزوجته ما بين عامي 1954 و1963. حملت الرسائل معي الى بيروت، حيث بدأت بترجمتها، لكن ظروف الحرب القذرة في تلك الفترة اجبرتني كما غيري على التنقل السريع من مكان الى آخر، فضاعت مني اوراق كثيرة، من بينها مسودة لقائي في خالديموسا - الاسم محرف عن العربية: بلدة موسى - في جزيرة مايوركا، مع كنة العائلة التي صادقت روبن داريو - زعيم المدرسة الشعرية الحديثة في اميركا اللاتينية واسبانيا - حين اتى الى البلدة ليرتاح فيها بعض الوقت. لم اعد اذكر اسم تلك العائلة، وانما اذكر ان المرأة الجميلة ارتني ثلاثة اقلام كتب بها روبن، وتحتفظ بها كجوهرة ثمينة لبناتها الثلاث. في تلك الفترة العصيبة من الحرب ضاعت مني اوراق كثيرة وصور كثيرة، من بينها الصورة التي التقطتها مع رافائيل وماريا فيكتوريا في مالقة. بالمصادفة عثرت اخيراً على رسائل الكسندري الى رافائيل وماريا فيكتوريا: كنت ابحث عن شيء ما في درج المكتبة، فلفتت انتباهي رزمة اوراق قديمة، فككتها لأرى ما فيها، فوجدت الرسائل... توحي بكثير من الحب والحنان والصفاء، وتظهر اهمية الصداقة والمحبة في حياة الانسان، كما انها تقرب المرء الى اقصى حد من حميمية شاعر عالمي كبير، اسعدني حسن حظي ان التقيه لساعة ونصف الساعة في آب 1981 في منزله في شارع فالنتونيا في مدريد - اجريت معه مقابلة نشرت في احدى الصحف اللبنانية في حينه - كان الكسندري يومها متعباً، وقد اجرى جراحة لعينه اليمنى، وعلى رغم ذلك رافقني حتى باب المدخل، ووقف في اعلى الدرجات الاربع للطابق الارضي، الذي تحيط به حديقة صغيرة: هناك ودعني الكسندري وهو يرفع يده الى خدي يلمسه، وقال لي بمحبة: انت انسانة روحانية، وقد سررت بمعرفتك. وكان هذا اللقاء من اجمل الذكريات التي عشتها في مدينة عمري مدريد. اراجع اليوم ترجمة هذه الرسائل التي نقلت اليَّ الصفاء بالعدوى، وتذكرت ما قاله لي رافائىل ليون عن لقائه الاول مع الشاعر الكبير الذي صادقه، بعد ان كتب مقالاً صادقاً عن ديوانه "ظل الفردوس": كان ذلك في الخامس من ايار 1955، وقد عاد الكسندري الى مالقة ليلقي قصائده امام شبان وشابات من مختلف البلدان، يتابعون دورة في الأدب واللغة الاسبانيين مخصصة للطلاب الاجانب. بعد ذلك اقل رافائىل الشاعر بسيارته الى توريمولينوس التي تبعد حوالى نصف ساعة عن مالقة. رافقتهما في هذه النزهة ماريا فيكتوريا اتنثيا قالت لي ان العائلة لم تكن تدعها تخرج بمفردها مع خطيبها، وقد سمحا لها بذلك بوجود الكسندري وصديق آخر اسمه برنابي. ولم ينس الشاعر الاهتمام الذي احيط به، والمحبة الصادقة التي عومل بها، واعتبر ذاك النهار مميزاً في حياته، فذكره في ست من الرسائل التي بعث بها الى رافائيل من مدريد: الرسالة العاشرة وحدها، كانت من ميرافلورس الجبلية في ضواحي مدريد، وحيث تملك العائلة بيتاً صغيراً، اشتراه الأب عندما مرض ابنه، واحتاج الى هواء الجبل. فيسنتي الكسندري ولد في اشبيلية عام 1898 وتوفي في مدريد سنة 1984. مدينة - فردوس قضى طفولته في مدينة مالقة، التي ظل يحمل نورها وصفاءها في اعماقه، واعتبرها كمدينة فردوس وحيدة. انتقل مع عائلته الى مدريد - كان ابوه مهندساً في شركة سكك الحديد - وهو في الحادية عشرة من عمره. اصابه المرض في شبابه، فمكث زمناً طويلاً في الفراش، نتيجة التهاب حاد في مفصلي الركبتين، وصار ينظم الشعر منذ عام 1925 وهو في السرير، وظل كذلك طوال عمره. اصيبت احدى كليتيه في سنة 1932، وظلت صحته متوعكة طوال عام. هاجمه المرض مجدداً في عام 1937، ومكث سنة اخرى في الفراش، وكان مهدداً بفقدان حاسة السمع في عام 1961، وكان اجرى جراحة لعينه اليمنى سنة 1981 يوم قابلته في مدريد، لكن المرض لم يمنعه من الكفاح في سبيل الحياة والانسان، ونال جائزة نوبل للآداب عام 1977. عاش ازمة دينية حادة، عندما اصيبت كليته، وقد ترك ذلك اثراً في انتاجه الشعري. في تلك الفترة يتأمل الكسندري مادة محولة الى روح، متوحدة في شكل واحد وفي ماهية واحدة يسميها الحب، وتدمير هذه المادة يتهدد بلا رحمة ودائماً الانسان. من دواوينه الاولى المتسمة بالسوريالية: "بيئة 1928"، "سيوف مثل شفاه" و"التدمير او الحب" 1935: في هذا الديوان يعبر صاحب جائزة نوبل للآداب عن توقه للانصهار الكلي مع القوة الكونية، فحياة الانسان على هذه الارض تُختصر في الشوائب، في الألم والقلق. كان جمهوري الميول، ورثى فيديريكو غارثيا لوركا في بداية الحرب الاهلية، ورثى صديقاً احبه كثيراً ومات في السجون الفاشية عام 1942، هو الشاعر ميغيل ارنانديز. بعد انتصار الوطنيين الذين يتزعمهم الجنرال فرانكو المتحالف مع الكنيسة، همش الكسندري في وطنه، ولم يصدر ديوانه "ظل الفردوس" الا في عام 1944. والديوان تعبير عن وجع منفى، عن كآبة ووحدة، وبحث عن فردوس ضائع لا يعرف مكانه، في خريطة العالم، ويذكره به نور مالقة طفولته. في هذا الديوان، يستبدل الكسندري حدة الابيات وعنفها في القصائد الاولى، بلهجة كآبة نقية وحنين صاف، مشاعر توحي وسط الألم والكدر والتلوث، بتوق الى عالم انساني متكامل يبدو جماله غير موجود. ويصدر ديوانين جديدين، ما بين عامي 1954 و1962: "حكاية القلب" و"في ملك شاسع" يدعو فيهما الى الانسان للانسان، ليستطيع المرء ان يعيش حياته بسلام وسط الآخرين، ليصبح الصوت الاكثر انسانية ودفئاً في بلد دمرته الحرب الاهلية. هكذا صار الكسندري معلماً للأجيال الجديدة من الشعراء، كما كان خوان رامون خيمينز في حينه، واعترف عالمياً بقيمته العظيمة كشاعر حين منح جائزة نوبل للآداب عام 1977.