تمرض الدولة كما يمرض الإنسان، وتموت أيضاً، تلك سنّة من سنن الحياة، وإلا لما تغيرت الدول وتبدلت السلطات على مرّ الزمن، ولما جاءت وجوه إلى المسرح السياسي وخرجت وجوه. الدولة العراقية الحديثة مريضة، وهي ليست وحدها، بل ان تركيب الدولة العربية بعد الحرب العالمية الأولى، عندما بدأت الدولة العربية الحديثة في الظهور، هو تركيب يحمل جراثيم المرض، وقاعدته هي الاستبداد. في بعض الأحيان تدخل منشطات تُعين الدولة هذه أو تلك على مقاومة المرض وتعطيها مناعة موقتة تسندها لسنوات، إلا أن جراثيم المرض سرعان ما تتكاثر، وتنمو وتسيطر، حتى تفقد الدولة مناعتها فتسقط تحت أقدام "ثورة" أو "محتل" ما يعيدها الى سيرتها الأولى. ليس بالضرورة أن تسقط الدولة المريضة في أيدي رحيمة تعالج أمراضها، بل أن الواقع العربي يقول لنا بما لا يرقى إليه شك، أن الاحتمال الأقرب هو سقوط الدولة في أيدي تعبث بها فتزيد علتها عللاً، وتقدمها لقمة سخية للاستسلام المزري والتخلف، فوسائل القمع تستمر بأساليب جديدة وبشعارات جديدة. في العراق الأمثولة واضحة، تزداد ترسيخاً كل يوم، وما أشبه الليلة بالبارحة. في ما خلف لنا من كتابات شهود شهدوا المحاكمة السريعة لعبد الكريم قاسم، أول رئيس للجمهورية العراقية، والتي حضرها نفر قليل من حزب البعث، ثم كتبوا عنها بكثافة، كانت الأسئلة السريعة الموجهة اليه وقبل أن يلقي مصرعه مع اقرب معاونيه هي، من قام ب "الثورة العراقية"!، ولماذا "عندما هددت باجتياح الكويت لم تفعل"! ولم تكن للرجل وقتذاك فرصة للرد، وتم إعدامه بالطريقة التي يعرفها المخضرمون منا، ولم يترك لقبره مكان معروف. بالضبط، كما لم يترك هو مكاناً معروفاً لقبور "الحكام" من سابقيه. لم تكن الأسئلة من قبيل: لماذا فشلتم في التنمية أو أين أصبح التعليم وألامية في عهدكم، أو حتى أين التعددية وحقوق الإنسان! تكرر المشهد اليوم بتفاصيل مختلفة. وما رواه لنا عدد صغير من أعضاء مجلس الحكم العراقي الذين لقوا صدام حسين الرئيس الخامس والسابق للجمهورية العراقية بعد استسلامه في الأسبوع الماضي، يحمل الأسئلة نفسها وربما الإجابات نفسها أو ما هو قريب منها. ولا أريد أن اذهب بعيداً في الخيال، فإن الأمور أن سارت كما سارت عليه سابقاتها في العراق، أو في أي بلد عربي آخر، ربما يتكرر المشهد القريب إلى العبث منه إلى الحقيقة، من المسؤول وكيف تم هذا ولم يتم ذاك من أمور خاصة وشخصية؟ أنها مظاهر الدولة المريضة. من مظاهر الدولة المريضة، وربما من مظاهر الثقافة السياسية المريضة أيضاً، مطالبة صدام حسين بالانتحار، ولقد تدفق علينا الكثير من الحبر المشغول بالكلمات في الكثير من الصحف العربية مفاده: لماذا لم يقاوم صدام حسين، ولماذا لم ينتحر أو حتى يطلق النار فيرد عليه الجنود الأميركان بإطلاق النار ويموت! مثل هذا الفكر هو من تجليات الدولة المريضة، ويزيد عليه البعض أن "اعدموا صدام حسين" وتنهار اللعنات على الجبان المخادع القاتل، وكأن صدام حسين هو فقط الذي أوصل العراق إلى ما وصل إليه من خوف وجوع وعنت وقبور جماعية، وبالتخلص منه يتخلص العراق من المرض؟ هذا تسرع في التحليل، التخلص من المرض في الدولة الحديثة يحتاج إلى إحلال ثقافة سياسية بدلاً من أخرى، لا يستطيع أحد أن يجزم اليوم بأن هناك كثيرين يؤمنون بأوليات ومتطلبات الثقافة السياسية الجديدة! رجل واحد ورأي أوحد نعم هو شخصياً مسؤول لكنه ليس بالوحيد، ولا اقصد هنا البشر الذين أئتمروا بأمره أو هيئوا له والٌلهُوه، وهم مسؤولون بالطبع، بل اقصد قبل ذلك وبعده، الثقافة السياسية التي أوصلت العراق إلى "الدولة المريضة" واقصد أيضا مظاهر الدولة المريضة في فضائنا العربي الأوسع، وربما لا يزال كثيرون يدافعون عن "موقفها" وقد فشلت في كثير من أدوارها، وأهمها أن يحترم فيها القانون النابع من الناس، وتتساوى فيها الرؤوس أمامه، أو أن تقدم خدمات حديثة لمواطنيها. مسلسل طويل وممل ومفقر ودموي ذلك الذي حكم العراق منذ خمسة عقود أو أكثر، وكلما سقط دكتاتور عراقي، هب حكم الغوغاء، وهي ظاهرة في شرقنا الكبير، بل في دول العالم الثالث، يسقط الدكتاتور فتشرع المشانق وفرق القتل، حتى تبقى الدولة واقفة على "رِجل واحدة" بكسر الراء، وفتحها مع شطب التاء المربوطة مرة أخرى، والدولة التي تقوم على "رَجلُ واحد" أو "رٌجل واحدة" هي سريعة العطب، طال الزمان أم قصر. يقوم الفكر السياسي العراقي المعاصر، في الكثير من جوانبه، على افتراض خاطئ تماماً هو الذي نُقل عن زوجة صدام الثانية بقولها نقلاً عنه "إذا أعطي العراقيون تفاحة من السلّة طالبوا بالسلّة كلها"، وهو افتراض، مرة أخرى، يعرف المخضرمون منا، انه كان قاعدة رئيسية لفكر حزب البعث العراقي، وهو النظر بازدراء إلى قطاعات الشعب الأخرى، وأنها قاصرة، كما أن الحكمة والرأي محصورة لدى الخاصة من أهل الحكم والسلطان. وربما يقال مثل ذلك القول في السرّ بين "الآلهة البشرية الحاكمة" في فضائنا العربي، أن تمسكوا بالسلطة واحرموا هؤلاء الشعب من حقوقهم، فهم بين رجلين، واحد يخاف وآخر يُغري، أي السيف وكيس الذهب التقليديان، والحدائق الخلفية مليئة بمن لا يخاف ولا يغري، ويسأل عنهم القليل من الناس في الداخل والخارج أين غيبوا ولا يسمع السلطان هذا النداء، إنها أمثولة العقلية الغالبة، ولها جذور عميقة في ثقافة العرب السياسية، التي تحول "الجمهوريات الشعبية" إلى "جملوكيات"! الخوف والطغيان. من الفكر السياسي الذي يجب أن يُغير، اذا أريد للدولة المريضة ان تتعافى، هو الأيمان العميق والمؤكد و الممارس، بأن الحريات تُبقي على الدول وتعطيها المناعة وتنعشها، وكلما كانت الحريات واضحة ومقننة، كلما تشافت الدولة من أمراضها، فالحرية هي عدو الموبقات، ولها أيضاً طرق وآليات معروفة لا تخفى على أحد في القرن الواحد والعشرين، الذي يجاهر الجميع فيه بحقوق الإنسان، ودولة القانون، و المشاركة في السلطة و الثروة. بالروح... بالدم! في الفضاء العربي "نظريات متعددة" بل متعارضة تماماً، تفسر من هو صدام حسين؟ وما هو نظامه؟ تراوح هذه النظريات بين القول ب "الوطنية المطلقة" للشخص و للنظام وبين "الخيانة المطلقة" للشخص وللنظام، وأصحاب كل نظرية يعتقدون بأن لديهم الأدلة والإثباتات على هذا وذاك. كلما اقتربنا من "الشعب العراقي" كلما زاد الأيمان بالنظرية الثانية، وكلما اقتربنا من "الحرس القديم والبعيد عن النار من العراقيين والعرب" كلما اقتربنا من النظرية الأولى. وهذا أمر واضح في ما كتب ويكتب حتى الآن، وفي يقيني انه أمر لا يمكن حسمه لدى الجميع في المرحلة القليلة المقبلة، انه يحتاج إلى زمن، كما انه مظهر من مظاهر سيطرة الفكرة الواحدة على الثقافة السياسية العربية. إلا أن صلب القضية مرة أخرى ثقافي، اذ يكفي أن ينهار جدار أمام بعض المحللين العرب كي يُنكروا قواعد الهندسة المعمارية برمتها، لقد ظهر ذلك في تاريخنا الحديث في أكثر من منعطف، وعلى أكثر من حادث جلل، يكفي أن يطالب الناس بحقوقهم حتى يخلط "الحاكم الفرد" بين تلك المطالب وبين "الإخلال بالأمن الوطني"، ويكفي أن يشعر الحاكم بعدم الأمان على كرسيه، حتى يفقد الشعب كله الأمان على خبزه وحريته.. ولدي تجربة شخصية في هذا الأمر. فقد زار الكويت في يناير من هذا العام الشيخ جمال الوكيل، مسؤول حركة الوفاق الإسلامي العراقية، وكان مركزها وقتها مدينة قم في إيران ودمشق في الشام، وذلك "قبل سقوط بغداد بثلاثة اشهر وعشرة أيام على وجه الدقة". وجرى الحديث مجرى متوقعاً، عن الحرب على العراق، والتوقعات السياسية للحركة التي ينتمي اليها الوكيل، أثناء الحرب المتوقعة وقتها وبعدها في العراق، وهو أمر يهم المتابع والباحث. من جملة ما علق في ذهني من كلام الشيخ الوكيل، أن السيد صدام حسين "جبان" رغم مظاهر القوة التي يدعيها ويحببها إلى نفسه ويبثها بين أتباعه ومريديه. لم أكن مقتنعاً كل الاقتناع بما قال الرجل في هذا الأمر على وجه التحديد، رغم موافقتي على كثير من تحليلاته السياسية وقتها. قلت ربما هو أمر له علاقة بالصراع القائم أكثر مما له علاقة بالواقع المعاش. ولم يمض العام إلا وكان قول السيد الوكيل حقيقة نصب الأعين. فالحاكم الذي يبطش بالناس لا يفعل ذلك عن "قوة" بل عن "ضعف" ولا عن "شجاعة" بل عن "خوف" ويتضاعف الخوف حتى تدخل الدولة المريضة أصلاً في دوامة الخوف والبطش غير المنتهية، كما رأينا. الوجه الدفين للمتسلط والطاغي تظهر وتتسيّد وتتوغل في الجمهور بسبب "قبول الطغيان" الذي يتحول من طغيان محلي إلى طغيان مرضي، يتضخم خارج الواقع، فيصبح لدى الطاغية "عالم افتراضي" يقوده في نهاية المطاف إلى حذفه، فهو يقتل ويهمّش ويعزل حتى يجد نفسه مهمشاً هو الآخر. وأفضل ما يمكن أن يقدمه النظام العراقي الجديد أن يعي بوضوح لعبة التهميش، ويتصرف بشجاعة مستمدة من ثقة الناس لا من خوفهم بقبول التعددية وحكم القانون وإطلاق الحريات. لذا فإني لست مع مطالبة صدام حسين بالانتحار أو حتى "بإعدامه" بعد المحاكمة، ذلك استمرار لمرض الدولة، نعم مع محاكمته، وكشف طغيانه وفضح أساليبه، ولكني مع الكشف أكثر عن أسباب "الصبر على الطغيان" وأكثر من ذلك مع وضع حد للاستسلام المؤجل للموت بإشاعة ثقافة القهر والتمييز والتهميش للبعض حتى يهمش من همش ويفتك بمن فتك. أن تعليق صدام حسين على حبل المشنقة هو، في جزء منه، خوف الدولة الجديدة، وعجز جزئي عن بناء دولة صحيحة وصحية، وإبقاؤه خلف جدران السجن يتآكل وهو ينظر إلى دولة تبني نقيضاً لأوهامه، هو خير فعل يقوم به العراقيون لثقافتهم السياسية ليس المحلية فقط بل العربية، وهو خير دليل على قوة الدولة الجديدة. هنا يكمن السؤال الصعب و المركب، فهل العراقيون هم "فئات" تطالب كل فئة منها بسلة التفاح كاملة غير منقوصة، أم هم كجماعات وأطراف، عرقية ودينية و مذهبية، قادرون على أن يتشاركوا في خيرات تلك السلة. المشاركة لها قواعد ونظم وسقوف سياسية واقتصادية، بل لها "قواعد لعبة" وآليات تديرها، منها التمثيل و المساءلة، وحكم القانون وصُدقية الحكم، ونوع الخدمات المقدمة للمواطن، كلها في إطار من الحريات العامة والخاصة وسيادة القانون، وهي عملية معقدة وصعبة، لا تتم بمجرد تغيير اللوائح وإصدار الدستور، أنها أصعب كثيراً من تعليق صدام حسين أو غيره على حبل المشنقة، أو شطبه من لائحة الأشراف! أنها معالجة أمراض الدولة وبناء المؤسسات، فهل يستطيع العراقيون أن يقوموا بذلك؟ انه سؤال مفتوح الإجابة. سأشارك البعض بأن الدولة العراقية تتعافى وان العرب على الطريق الصحيح عندما أرى في بغداد تداولاً سلمياً وصحياً للسلطة، وقانوناً لا يخترقه أحد، وحقوق مواطن مقدسة. بذلك لا بغيره تبدأ مسيرة عدم الصبر على الطغيان. * كاتب كويتي.