في قصائده الجديدة، يريد محمود درويش أن يرى ذاتَه بعينٍ فلسفية، من خلال لغة تتكئ على مجاز طليق الدلالات، وبعيدٍ من سطوة المفردة "الملتزمة"، الخارجة من أسطورة الكلمة "المقاتلة"، بعدما قطع الشاعرُ شوطاً طويلاً في هذا المضمار، واختارَهُ الإيقاعُ ليكونَ أحد أهم رموز الشعر "المقاوم" في العصر الحديث. لكنه، ككل المبدعين الكبار، لا يركنُ إلى مستقرّ ثابت، وكلما اصطادته قصيدة، فرّ منها، إلى قصيدة أخرى، بحثاً عن حرية أعلى. بدأ درويش مسيرته، كما نعلم، وفياً للعبارة الشعرية المثقلة بمقولاتها الوطنية، ثم انعطف مع ديوانه "مديح الظلّ العالي"، وما تلاه، إلى لغةٍ تتصالح فيها البلاغةُ المبتكرة مع الالتزام الوطني والإنساني، حيث الاسم والمسمى يسيران معاً في تناغم مدهش، على وقع غنائية مطواع، وصوت ملحمي قيامي، ليخرج الآن في قصائده الأخيرة إلى شرفة أخرى، تحاول أن ترى قمرَ الشعر، صافياً مكتملاً، لا يشوبه خسوفٌ بلاغي أو دلالي. في ديوانه الجديد "لا تعتذر عما فعلت"، ثمة نقلة نوعية على صعيد الهمّ الشعري الصّرف، الذي يتمحور حول مأساة فردية وجودية، يصغي الشاعر من خلالها إلى الصّوت الداخلي للذات، في تلوّنها وحيرتها وهشاشتِها، طارحاً أسئلةً معرفية مؤرّقة، تذهب إلى جوهر المأزق الفردي الإنساني، وتحديداً إلى علاقة درويش نفسه بسيرته الشعرية، التي يراها، في أحسن الأحوال، فخّاً من الصور والرموز والاستعارات. تتعرضُ الذات للخلخلة والاستجواب، في أكثر من قصيدة، بعيداً من صخب المكان، وعنف الدلالة، ووطأة التبشير، ليجدَ الشاعرُ أكثر من لحظةِ صفاءٍ، يسترق فيها النظر إلى صورته في المرآة، كما في قصيدته الرائعة "في بيت أمّي" حيث يقيم حواراً بين صوتين أو صورتين، يتقاطع صداهما في محرق القصيدة، كنايةً عن وعيٍ تراجيدي بمرور الزمن. ينظر المتكلمُ إلى صورته المعلّقة على الحائط ويسأل: "أأنتَ أنا؟ أتذكرُ قلبكَ المثقوبَ/ بالناي القديم ورعشة العنقاء؟/ أم غيّرتَ قلبكَ عندما غيّرتَ دربَكَ؟" ص24. بالتأكيد، لم يغيّر الشاعرُ قلبَه، كما أنه لم يغير دربَه، لكنّه غيّرَ قليلاً من وقع خطواته على الدّرب، وغيّر قليلاً من سرعةِ دقاتِ قلبه. نراه يتجه الآن إلى القصيدة الصّافية، معانقاً مجازاً حرّاً أبيض، خارجاً من سؤال الكينونة، إلى سؤال الكائن، ضمن سياق ثنائية اللغة والعالم، القصيدة والذات، الاسم والمسمى. في هذا الديوان، ينصب محمود درويش فخّاً للاسم الذي يفترسُ المسمّى، باحثاً عن الكينونة خارج سلطة اللغة، وعن حبيبته خارج سلطة الأغنية. كأنما ليعارضَ الفيلسوف الألماني هيدغر الذي يرى أن اللغة بيت الكينونة. درويش، مثله مثل كل الرّائين الكبار، يعي ثقلَ الاسم على المسمى، والصفة على الموصوف، بعد رحلةٍ في الحكاية، كان الراوي فيها هو المنفي الوحيد. مثل بورخيس، الذي أوغل أبعدَ مما يجب في سيرة اسمه، ليقول، في لحظة تجلّ قصوى، سئمتُ من كوني بورخيس، كلّ صباح، ويكتب في "متاهات" مداخلةً صغيرة بعنوان "بورخيس وأنا" قائلاً: "لقد عرف سبينوزا أن الأشياء جميعاً تتوقُ لأن تستمرّ في كينونتها، فالحجرُ يريدُ أن يظلّ حجراً إلى الأبد، والنمرُ نمراً. أما أنا فسأبقى بورخس، وليس أنا..." ثمّ يختتمُ مقاله قائلاً: "لا أعرفُ من منّا كتبَ هذه الصّفحة". كذلك يفعل درويش، في لحظات تجل رفيعة، نرى فيها الذات تراجعُ تاريخَها، وتستنطق ذاكرتها، وتشكّك، أحياناً، بجدوى نظامها البلاغي. ليس لأنّ درويش ضاق ذرعاً بأسطورة الاسم، أو لأنّ الرمز ضاق عليه، بل لأن الكينونة ناقصة إذا لم تتسع للصّوت، للتاريخ، وللإنسان، مثلما تتّسع للشهيد ولصورته المعلقة في فناء الدار. إذاً، لا ضير في أن تحدثَ خلخلةٌ للاسم، من أجل الاقترابِ من الحواسّ الخمس، ودعوةِ الهواء الى التغلغل في مسام الكائن، بعيداً من الهالة التي تشكّلها الحروف حول السّيرة، والشخص، والجسد. هذه الرغبة في إحداث خلخلة للذات، تبدأ أولاً في إحداث خلخلة للاسم: "ستحملُ الأشياءُ عنكَ شعورك الوطني:/ تنبُت زهرةٌ بريةٌ في ركنكَ المهجورِ/ ينقرُ طائرُ الدوري حرفَ "الحاء"/ في اسمكَ" ص31. وبعد رحلة المنفى، لا تتغيّر الأرض، لا يتغيّر المكان، غير أن الهوية ناقصةٌ، والاسمَ جريحٌ، وصورةَ العائد لم تعد كما كانت. من هنا انبثاق وعي تراجيدي بمأزق الذات في الوجود، والشاعر في اللغة: "أمّا أنتَ، فالمرآة قد خذلتكَ،/ أنتَ... ولستَ أنتَ، تقول: أين تركتُ وجهي؟" ص32. والمدهش أن درويش أعطى اسمه كلّ شروط الوجود، مثل كل المبدعين الكبار، ليصحو على ندمٍ، بعد فوات الأوان، مردّه أنّ المسمّى صار ظلاً للاسم، تابعه وخادمه، والحياة صارت ظلاً للغة، صداها أو أثرَها: "ولم يتساءلوا عمّا سيحدثُ للمسمّى عندما/ يقسو عليه الاسمُ، أو يملي عليه/ كلامَه فيصيرُ تابعَه... فأين أنا؟" ص75. هذا السؤال الوجودي، يتردّد كإيقاعٍ خفي ملازم للإيقاع الدرويشي الظاهر، مذكّراً بمحنة الشاعر الايرلندي الشهير وليام بتلر ييتس في حديث هذا الأخير عن حبيبته مود غان في أوائل القرن المنصرم، التي كانت أيضاً رمزاً لتحرّر وطنه ايرلندا. الفارق هو أن ايرلندا تنال استقلالها، ويخسر ييتس ملهمته، مكتفياً بمود غان - الاستعارة، التي تبحث عن طروادةٍ أخرى لتضرمَ فيها النيران. في حال درويش، يظل الوطنُ في حال خسارة، وتظل الحبيبة اسماً معلقاً، مثل ذكرى في مطار أو فندق، لكنه يربح الرّمز في نهاية المطاف. غير أنّ الرّمز محنة المعنى، والاسم دليلنا إلى النسيان. يخاطب الشاعرُ امرأةً متخيلةً تسأله: "لا أعرفُ اسمكَ، ما اسمكَ؟"، فيجيبُ: "اختاري من الأسماء أقربَها إلى النسيان./ سمّني أكن في/ أهلِ هذا الليل ما سمّيتني!" ص104. الرّمز يعذبُ الشاعرَ، مثلما يعذّبه اسمه، لأنّ معادلة الرّاهن المأسوية تقول كلّما ربحنا شبراً في اللّغة، خسرنا قريةً على الأرض. لم يعد الشعر، في نظر درويش قادراً على سرد الحكاية، لأنّ القسوة باتت هي المؤرّخ لسيرة الكائن على الأرض، والدّم، أصبح، ربما، أقوى من الحبر: "لا تكتب التاريخَ شعراً/ فالسلاحُ هو المؤرّخ" ص97. في هذا الاغتراب الأنطولوجي عن المكان، ينسحب الكائن من كينونته، ليصيرَ اسماً مفتت الحروف في مهبّ الدلالة. المكان ثابت على رغم تبدّل شروط وجوده، والمكانُ راسخ في الأبجدية على رغم تواتر الروايات، غير أن الكائن - الاسم طارئٌ، متبدّلٌ، وسريعُ الزوال: "جلست أريحا، مثل حرفٍ/ من حروف الأبجدية، في اسمِها/ وكبوتُ في اسمي/ عند مفترقِ المعاني..." ص44. هذه الكبوة تمثّل صحوة المبدع في علاقته بسيرته، وتكشف عن قلق بورخيسي رفيع يشكّك بجدوى المكوث في اللغة، واستحالة الاستمرار في "التاريخ". إذ لم تعد الأرضُ أرضاً، ولا الحجر حجراً، ولا الجسد جسداً. كأنّ درويش يرى الوجودَ يضيق كلّما اتسعت العبارة، وأغرقت رواتها الكثر، مخالفاً بذلك النفّري في قوله الشهير: "كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة". ثمة رعب من لحظة المحو التي تتهدّد الكينونة، بسبب سطوة الحكاية. وثمة رعب يتهددّ الراوي بسبب دموية الرواية وقسوتها. لا يريد درويش للعبارة أن تصادر الحدث، أو تصير بديلاً منه. لا يريد للتاريخ أن يتحوّل إلى خطاب. كما أنه لا يريد للاسم أن يحتلّ المسمّى، وتتسع صفاته، لتمحو كينونة الذات من العالم: "أما أنا فأقول لاسمي: دعكَ منّي/ وابتعد عنّي، فإني ضقتُ منذ نطقتُ/ واتسعت صفاتُكَ!" ص 75. محنة محمود درويش الوجودية، لا تختلف عن محنةِ بورخيس أو ييتس، فهي تتركّز في مصير المبدع الذي يسبقه نصّه إلى الوجود، وتسبقه قصيدته إلى الخلود. يكبر الاسمُ وتتسعُ صفاته، إذا انكسر المسمّى ونام على تقشّفِ ظلّه. ومحمود درويش، مثل سروته التي انكسرت، يغيبُ في لغتهِ، من أجل أن نرى، نحن، قرّاؤه، كم اتسعت، من بعده، سماءُ القصيدة.