لا "ينتحل" بسام حجار عنوان أحد كتب بورخيس وهو "كتاب الرمل" إلا ليتبنّى مواصفات الكتاب العجيب الذي لا يبدأ ولا ينتهي. وكتابه الذي حمل العنوان نفسه هو فعلاً كتاب من دون بداية ومن دون نهاية. وإذا استثني "استهلال" الكتاب الذي يبرّر فيه فعل "الانتحال" بطرافة كلّية فأنّ من الممكن قراءة "كتاب الرمل" من البداية أو النهاية أو من وسطه. فالعالم هنا أقرب الى الصحراء التي لا جهات لها. غير أنّ بسام حجّار لا ينتحل من بورخيس إلا عنوان كتابه وتلك الصفة اليتيمة "صفة أن يكون عدماً محضاً". فكتابه يختلف ظاهراً كل الاختلا عن كتاب بورخيس. فهو مجموعة أوراق وعبارات وكتب داخل الكتاب، وقد وردت "أوراق" أخرى لم يتمّ تصنيفها وآثر "المحققون" بحسب ما يروي بسام حجّار نفسه أن يهملوها تبعاً لعدم صحّة نسبتها ولخلوّها، فهي خالية من التجانس والإتساق. لكنّ مقتضيات البحث أرغمت "المحققين" على إدراجها في "كتاب الرمل". أمّا كتاب بورخيس فهو ليس إلا مجموعة قصصية وقد حملت القصّة الأخيرة منها العنوان نفسه وهي قصيرة جداً وتسرد حكاية الكتاب العجيب "كتاب الرمل" الذي ابتاعه الراوي من رجل طرق بابه يوماً حاملاً اليه الكتاب ضمن كتب "التوراة" التي اعتاد بيعها. واللافت في الكتاب هذا أن لا صفحة أولى له ولا صفحة أخيرة وكذلك عدد صفحاته لا نهاية له. ولم يكن على الراوي إلا أن يسمّيه "الكتاب اللانهائي". ولئن لم ينتحل بسام حجّار إلا عنوان كتاب بورخيس فأنّ روح الكاتب الأرجنتيني ظلّت ترفّ فوق النصوص التي تؤلّف "كتاب الرمل"، فالشاعر اللبناني يعترف أنّ القراءة "شغف" و"مشقة" وهي من كونها الحالين معاً "سراب مسرّات". ولعلّه السراب نفسه الذي يخالج الكتابة ويجمع بينها وبين القراءة كما لو أنّ الواحدة تكمّل الأخرى أو هي وجهها الآخر. والنصوص التي ضمّها الكتاب هي في ذاتها استدعاءات لنصوص أخرى، حقيقية ومتوهّمة. فالكتابة أصلاً ليست إلا كتابة ثانية وربّما ثالثة لبقايا نصوص وبقايا أحوال وأفكار وتأملات. وهنا يبرز ما يُسمّى "تناصّاً" ولكن في مظهره الأشدّ سرّية حتى وان أعلن الشاعر أو الكاتب بعض الأسماء التي عاد اليها وبعض الكتب والنصوص التي اعتمدها في كتابته التي ليست إلا قراءة في بعض وجوهها. يخدم "التناصّ" هنا الكتابة ويشرع أمامها احتمال "الاستعارة" لا "الانتحال" فالأدب بحسب ما يصفه حجّار قوامه "الكذب المتصل" و"الوهم المستديم". والكاتب لا يقول بهذين الكذب والوهم إلا ليقول بوهمه الشخصيّ، ككاتب أوّلاً وككائن ثانياً. ولعلّ ما يكتبه حجّار عن هذه "الأوهام" يتفرّد به كلّ التفرّد، فالنصّ لا يستقيم إلا انطلاقاً من غيابه تماماً مثلما لا يستقيم الكاتب إلا انطلاقاً من غيابه نفسه. يسعى بسام حجّار الى اضفاء شبهة "التحقيق" على كتابه الذي يصفه في الختام الذي ليس ختاماً ب"غير الممكن". لكنّ التحقيق لن يكون إلا وهميّاً فهو يبدأ بالبحث عن الكاتب الذي "لم يوجد" وينتهي بالظنّ أو الشك في الكتاب وطبعته "غير الأصليّة". أما "كتاب الرمل" الذي يُدعى صاحبه بسام حجار فهو نفسه كتاب بورخيس ولكن غير الأصليّ أي المنتحل، لكنّ الكاتب يعترف أنّ بورخيس لم يكن صاحبه وأنّ أوراقه ضاعت فهو "أحد ولا أحد" في الحين عينه. لكنّه من دون شكّ "الأعمى" الذي وضع "كتاب الرمل" والذي لم يترك أثراً ولا ميراثاً ولا متاعاً. وانطلاقاً من هذا "التحقيق" الملتبس بل "الانتحال" الملتبس "يركّب" الكاتب كتابه تركيباً شبه "كيميائي" فيظلّ كتاباً ناقصاً أي غير مكتمل. وهو أصلاً لم يُكتب ليكتمل أو ليبدأ أو لينتهي. تُرى ألا يكفي أن يروي الكتاب "سيرة الرمل" كما يعبّر الكاتب ليصبح كتاب "المتاهة" بامتياز؟ يكتب بسام حجّار لينفي وجوده لا ليرسّخه على طريقة الصوفيين حيناً وعلى غرار العرفانيين الغنوصيين حيناً آخر. والإشارات التي تدلّ على حال الغياب أو الغيبة بحسب تعبير ابن العربي لا تُحصى وهي تدل خير ما تدلّ على غيابه ككائن عن العالم وعلى غياب العالم عنه، وكذلك على غياب الأنا وغياب الكتابة وغياب القراءة... وسواها من "الغيابات" التي من الممكن أن تجعل الأنا آخر، والآخر نحن، والذات طيفاً والوجه سراباً. يقول الشاعر غيابه قولاً حيّاً وليس مواربة أو مجازاً، مخاطباً نفسه أو متكلّماً عن نفسه أو معتمداً صيغة المتكلّم أو المخاطب حيناً تلو حين، وينجح في رسم فضاء "وهميّ" تحفّه الظلال والصور، الأحوال والمقامات، الافكار الغامضة والمتناقضات. فضاء صوفيّ لا يحتاج الى أيّ خلفية دينية ليؤكّد انتماءه ولا يحتاج كذلك الى مرجع إلهيّ يكون نقطة البدء ونقطة الانتهاء. فالصوفية هنا سلبيّة تنهج نهج "اللاهوت السلبي" الذي عرف به مثلاً مفكّر مثل سيوران. والفناء لا يتمّ عبر التلاشي في الآخر حتى ولو كان مطلقاً بل هو مجرّد فناء شبه عدميّ، فناء للفناء. ومثلما قال فرناندو بيّسوا في "كتاب اللاسكينة": "أنا لا أحد" يقول بسام حجّار مخاطباً نفسه: "أنت لا أحد". لكنّه لا يلبث أن يؤكد على لسان صاحبه الذي قد يكون هو نفسه: "هكذا كان ينبغي أن لا أكون أحداً لكي أبقى". وقول مثل هذا يذكّر كثيراً بما كتبه وقاله موريس بلانشو وهو من الذين يستعيدهم الكاتب عن الغياب في لغة "غائبة" أو في لغة الغياب نفسه. يقول بلانشو مثلاً: "عندما أكون وحدي فلست أنا الذي هنا ولست أبقى بعيداً منك ولا من الآخرين ولا من العالم". وفي قول آخر له ينفي وجوده كلّ النفي: "أنا مَن ليس هو". قد يظن بعض القرّاء أنّ ما يقوله بسام حجّار وبعض الكتّاب أو الشعراء الذين عاد اليهم أو استوحاهم أو التقى بهم صدفة في حيّز التشابه والتماثل، ليس سوى من باب المجاز والاستعارة أو هو في أقصى أحواله تمتّع لفظيّ. لكنّ مَن يتمعّن في المقالب الأخرى للأقوال تلك والمقولات يدرك خير إدراك حجم المكابدة التي يكابدها الشاعر داخل اللغة أوّلاً وداخل الحالات أو الأحوال التي تعرض له. ولعلّ المعجم الذي يصرّ عليه الشاعر وهو ضئيل وغير فضفاض يدلّ بشدّة على الحاحه المستميت في وصف حال الغياب، حال اللاأحد، حال الفناء وسواها. يُصرّ على الكتابة كما لو أنّ الكتابة طريقة في توكيد الغياب وتجسيده أكثر مما هي طريقة في الحضور كأن يقول: "وذات يوم قلت: أكتب حكايتي وان قرأ حكايتي أحد وهبني أن أكون أحداً ولو في الخيال". وقبله قال بيسوا في الكتاب المذكور نفسه، بعدما تبيّن له أنّه "لا أحد تماماً": "أنا بداية مهذار لكتاب لم يكتبه أحد قطّ". يسأل بسام حجّار نفسه ويجيب على لسان الراوي: "إذاً أنت مَن تكون؟ لا أحد. على الإطلاق. لا أحد". لكنّ الراوي لا يروي في "كتاب الرمل" أحداً كما يعبّر فهو "بددٌ مكتوب". وفي إحدى "الأوراق" يسترجع حجّار "خرافة" المرآة كما رواها بورخيس في أجمل ما يمكن أن تُروى به متحدّثاً عن عمائه الذي أصابه تدريجاً. ويقول حرفياً عن ذاك العماء: "حلّ ذلك مثل غسقٍ صيفيّ بطيء. كنت مديراً للمكتبة الوطنية وبدأت أجد نفسي، شيئاً فشيئاً، محاطاً بكتب بلا أحرف، ثمّ فقد أصدقائي وجوههم ثمّ لاحظت أنّ لا أحد في المرآة". ذروة العماء هي في أن ينظر المرء في المرآة فلا يجد لا وجهه فحسب وإنّما لا أحداً. فالمرآة التي من المفترض أن تدلّ على الأنا تدلّ حينئذ على غياب الأنا. المرآة هي بدورها تغيب لتحلّ محلّها فسحة قاتمة لا يضيئها إلا النور الداخلي. وهذا ما عبّر عنه الشاعر الفرنسي جوّ بوسكيه وقد نقل عنه حجّار قوله: "والحال إنّك ينبغي أن تكون فاقداً بصرك لكي تكون ممتلئاً بنورك". أما مرآة حجّار فيقف "الرجل" أمامها كي يرى "أحداً يعرفه" ولكن لا يذكر متى عرفه أو أين. إنّه عماء الرجل المفتوح العينين الذي يبصر نفسه وكأنّه يبصر آخر يجهله، وهو نفسه الذي صار "لا أحد". وجدلية الأنا - الآخر لا تلبث أن تحضر حضوراً لافتاً وقويّاً. فهي تمثل دركاً من دركات الغياب أو حالة من حالاته. وعلى غرار رامبو الذي قال جهاراً "الأنا آخر" يقول بسام حجّار رابطاً هذه الجدلية بجوهر الكتابة نفسها: "والكاتب حين يكتب لا يكون "أناه" بل يكون الآخر الذي هو شخص ما". ويُعرب الشاعر في مخاطبة ذاته مخاطبته للآخر مؤكداً غيابه في الآخر وغياب الآخر في سرابه: "كن ظلّي أكن أنت، أو أكن ظلّك تكن أنا... قل لي: مَن أنت؟ السراب أم أنا؟". والشاعر الذي يمعن في تأمل ذاته حافراً في تجاويفها الداخلية يشعر أنّ الذات هذه هي ذات أخرى، أو ربما ذات كائن آخر حلّ فيه. ومثلما قال موريس بلانشو: "عندما أكون وحدي فأنا لا أكون هنا" يخاطب الشاعر نفسه أيضاً نافياً ذاته مستسلماً للحالة السرابية التي تمحوه وتمحو العالم من حوله: "لست بالتأكيد الجالس على الكرسيّ خلف الطاولة، قبالة الحائط... إذاً مَن أنت؟ أنت سراب". وتبلغ حال الانفصال بين الأنا والذات المستحيلة آخر شأوها حين يجعل الشاعر "الأحادية" صفة للكثرة فيصبح الواحد أكثر من واحد و"الأحد" يمسي "آحاداً" كأن يقول "أحدك يكذب عليك" أو "أحدك يحجب النور وأحدك الآخر يرتسم شكلاً على الجدار، أمّا أحدك الأخير فيكتب هذه السطور". وفي هذا التعبير عن الانقسام الداخلي أو الاقتسام ما يذكّر بخرافة الشاعر البرتغالي بيسوا الشخصية فهو كان واحداً ومتعدّداً في الحين عينه. وقد وقّع نصوصه بأسماء مختلفة ليؤكّد اختلافه من توقيع الى آخر أي من شخص الى آخر. وهو قال حرفياً "أن تحيا هو أن تكون آخر". وأسطورة الآخر هذه، بل اللعبة الخرافية بين أنا الكاتب والآخر الذي هو كان عبّر عنها بورخيس نفسه حين كتب يقول في نصّ عنوانه "بورخيس وأنا": "كانت الأمور تحصل للآخر، لبورخيس... إنني محكوم في أن أختفي قطعاً ووحده بعض الأوانِ منّي ستكون له سانحة أن يخلد في الآخر". في ختام النص يقول الراوي "لا أعرف أيّ من الاثنين يكتب هذه الصفحة". والشاعر حين يخاطب نفسه أيضاً قائلاً "أن تكون واحداً وكثيراً" يعيد الى الذاكرة مسألة الوحدة والكثرة كما طرحها أفلاطون وقد أمضى ردحاً من حياته يعالجها بألم وصعوبة بغية ترسيخها كجدلية تثبت مشاركة الوحدة بالكثرة أو الواحد بالكثير. وإن بدت قراءة "كتاب الرمل" صعبة بعض الصعوبة تبعاً لطبيعته الملتبسة ككتاب لا يبدأ ولا ينتهي فأنّ الكتابة عنه ليست بالسهلة أيضاً. فهذا كتاب يصعب حصره أو تصنيفه ويصعب تالياً التقاط كلّ نواحيه وهي كثيرة في كثرة أبوابه وتعدّدها واختلافها. ولعلّ "الكتب" التي تضمّنها الكتاب الواحد تحتاج وحدها الى قراءات منفردة لا سيّما وأنّها تتطرّق الى موضوعات تختلف عن "الأوراق" و"العبارات" التي تخلّلت الكتب. كتاب نصوص هو "كتاب الرمل"؟ ربّما وربّما هو كتاب يبحث عن نصوصه أو نصوص تبحث عن كتاب يجمعها ويلائم بينها ويربطها بعضاً الى بعض كي لا تظلّ هائمة وكي تستقيم كنصوص في كتاب وإن لم يكن ممكناً. "كتاب الرمل" هو كتاب بسام حجّار أولاً وأخيراً لكنّه أيضاً كتاب كلّ الذين قرأهم وأورد أسماءهم من بورخيس الى بلانشو الى الجرجاني وابن الفارض ومجنون بن عامر والتوحيدي وابن العربي وسواهم من الذين لم يذكرهم. أمّا كيف حضر كلّ هؤلاء وغابوا في "كتاب الرمل" فهذا تساؤل تصعب الإجابة عنه. فالكتابة ضرب من الكذب والوهم، ضرب من النسيان أيضاً. والنسيان كما يحدّده الكاتب هو "نعمة أن تفرح ونعمة أن تحزن ونعمة أن تكون لا شيء". "وهم بوهم" قال ابن العربي. "وهم بوهم" قال بسام حجّار نقلاً عن ابن العربي. * صدر الكتاب عن دار المسار، بيروت 1999. وهو الكتاب الحادي عشر للشاعر والكاتب اللبناني.