لماذا وصلت "قمة المعلوماتية العالمية"، التي عقدت بين 10و12 كانون الأول ديسمبر الجاري في جنيف، الى الفشل؟ وما الذي دفع عدداً من ممثلي المنظمات الأهلية المشاركة فيها الى قول ما مفاده أن "قمة ردم الهوة الرقمية" عمقت الهوة بين الشمال الغني والجنوب الفقير؟ الانترنت: هيمنة اميركا لم يلتفت المسؤولون السياسيون المجتمعون إلى الإعتراضات التي ساقتها منظمات المجتمع المدني ضد الدول المشاركة التي تقيد حرية استخدام الانترنت، مثلما هو الحال في كثير من بلاد العرب. وقدمت الصين اقتراحاً، لقي دعماً كبيراً من الدول الفقيرة وفي مقدمها البرازيل، بتخلي الولاياتالمتحدة عن السيطرة على ادارة الشبكة من خلال مؤسسة "آيكان" ICANN ومقرها في كاليفورنيا. وافشلت اميركا الاقتراح كلياً. فشلت القمة. ربما كان خير تلخيص لهذا الفشل ذلك الوصف الكاريكاتوري الذي أطلقته صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية في أحد عناوينها عن القمة: "تمخض عالم الإنترنت الضخم، فولد فأراً". وخيب الإعلان النهائي للقمة الآمال باعلانه الصريح عن صعوبة ردم "الهوة الرقمية" قبل حلول عام 2015. وحتى هذا الاعلان، وُصف بأنه طموح، لكنه لا يملك سوى خطة عمل متواضعة جداً! ولجأ المؤتمِرون الى سياسة "الهروب إلى الأمام" من خلال تعليق القرارات الرئيسية لتبحث في "الجزء الثاني" من القمة، المقرر عقدها في تونس عام 2005! لماذا كان الفشل الذريع من نصيب الإجتماع المخصص لبحث هموم المعلوماتية، وبشكل خاص كيفية مساعدة أبناء الدول الفقيرة على امتلاك أدوات التكنولوجيا الحديثة، مثل الكومبيوتر والانترنت، واستخدامها؟ سبقت القمة وعود براقة. وتحدثت بيانات رسمية في جنيف عن "مجتمع عالمي جديد...لا يستبعد أحداً، ويؤمن التنمية للجميع... مجتمع يعطي المجال لكل أبنائه للإبداع والحصول على المعرفة واستخدام المعلومات...ما سيمكنهم من استغلال طاقاتهم لتطوير شروط معيشتهم". وراج في وصف اللقاء العالمي الأول عن الهوة الرقمية، أنه التفاتة من الأغنياء الى أحد المشاكل الرئيسة للفقراء، خصوصاً مع القول إن التكنولوجيا الرقمية هي من مفاتيح التنمية المستدامة. وسعت القمة الاخيرة، متشجعة بالاجواء الايجابية عن المعلوماتية التي سادت قمة الدول الصناعية الكبرى في "اوكيناوا" 2000، الى جمع قادة 175 دولة من العالم. ولم تجتذب سوى اربعين رئيساً. وغاب رؤساء الدول الكبرى كالأميركي جورج بوش والفرنسي جاك شيراك والروسي فلاديمير بوتين وغيرهم. وغرق الرؤساء الحاضرون في نقاشات سياسية محضة غَيَّبَتْهُم عن المعلوماتية! ففي اليوم الثاني من الإجتماع، مثلاً، طغت نقاشات ذات طابع دبيلوماسي لا علاقة لها بالتكنولوجيا، كالحديث عن العلاقة بين أرمينيا وأذربيجان، وكأن المشكلة القائمة بينهما حول اقليم ناغورني-كاراباخ منذ عام 1998 لن تجد طريقاً للحل إلاّ في قمة مخصصة للتكنولوجيا! أبعاد متعددة للهوة لكن المشكلة الأساسية التي حالت دون نجاح القمة لا يمكن ردها الى النقاشات السياسية وحدها. ويُظهِر الإعلان الختامي وخطابات ممثلي الدول الكبرى، ميلاً كبيراً الى "الشعاراتية"، وبعدها عن نهج ايجاد الوسائل العملية للمساعدة على حل التفاوت المعلوماتي عالمياً. وعلَّق الخبير فرانك مورغان، رئيس الجمعية العالمية لوسائل الإعلام والإتصال، على تلك الخطابات بالقول إن مندوبي الدول الغنية "يقولون ما عليهم قوله، لكن هل يفقهون حقاً معنى أقوالهم؟". وأعقبت القمة فضيحة! فقد اعلن خبراء شاركوا فيها أن البطاقات التي حملوها احتوت أجهزة تنصت! ولعل ذلك نموذج من الاجواء التي سادت القمة. فقد اعلنت الدول الغنية في القمة تصميمها على ردم الهوة. ولكنها تهربت حتى من تمويل صندوق اقترحته السنغال، تحت مسمى "صندوق التضامن الرقمي"، ويهدف الى مساعدة الدول الافقر على التقدم في التكنولوجيا الرقمية وشبكاتها. ويزيد في فداحة التنصل، ان التمويل المقترح لم يزد عن دولار واحد عن كل آلة تكنولوجية، أو واحد في المئة من عائدات الإتصالات الهاتفية. وكتسوية، اتُفِقَ على تشكيل فريق عمل من ممثلي الحكومات والجمعيات غير الحكومية وقطاعات المجتمع المدني، يعمل تحت اشراف الأمين العام للأمم المتحدة، ليتقدم باقتراحات تُدرس في قمة تونس. كما أن الدول الأوروبية لم تحسم امر مشاركتها في التمويل. ويقول المبشرون بحسن نوايا مسؤولي الدول الغنية وأصحاب الشركات التكنولوجية الكبرى، إنها تجهد منذ خمس سنوات لردم الهوة الرقمية. لكن مراجعة الأرقام العالمية لا توحي بتقدم كبير. ففي افريقيا مثلاً، يستخدم الإنترنت 1من كل 155 من السكان" بل ويتدنى الرقم في بعض تلك الدول الى 1من5000. ويصل الرقم عينه في سويسرا مثلاً، الى 1 من 2. ويشكل مستخدمو الانترنت في العالم عشرة في المئة فقط من سكان كوكب الأرض، و91 في المئة من مستخدمي الشبكة العنكبوتية هم من أبناء الدول الصناعية. وابتعدت القمة عن النقاش الجدي لمشكلات أبناء الدول الفقيرة. فلا يزال 12 مليون طفل في هذه الدول خارج المدرسة. وتصل تكاليف الوصول الى الانترنت الى 2،1 في المئة من متوسط الدخل لفرد يعيش في الولاياتالمتحدة، لكنه يشكل 278 في المئة من دخل مواطن من النيبال. وثمة مشكلات اخرى، اذ يفتك فيروس الايدز بعدد كبير من شباب الدول الإفريقية، بمن فيهم المدربون على استخدام التكنولوجيا الحديثة. وتعجز تلك الدول عن ايجاد بدلاء لهؤلاء. وتُذكِّر "المؤسسة الألمانية للتنمية العالمية" بأن الدول الفقيرة تعاني من مشكلات يمكن تصنيفها كالآتي: أ - رئيسة، كالنقص في المياه والتغذية والكهرباء وغيرها. ب - ثانوية، كتطوير خدمات تكنولوجيا المعلوماتية. وحل مشكلة الهوة الرقمية ليس ممكناً إذا لم تحل المشكلات الرئيسة. ماذا بعد القمة؟ أسئلة كثيرة يمكن طرحها بعد فشل قمة جنيف، وخصوصاً أن الإكتراث لردم الهوة الرقمية ليس عملاً خيرياً. ويؤكد الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان، ان الهوة تهدد مستقبل المعلوماتية، إذ ان ارتباط قطاع تكنولجيا المعلومات بأسواق الدول الغنية أصابه الضعف، لأن الأسواق شبه مشبعة، وباتت اكثر ارتباطاً بالدول الفقيرة المفتقرة الى تلك التكنولوجيا. ربما يجدر التأمل في نموذج الصبي التايلاندي البالغ من العمر تسعة أعوام، والذي دفعه الفقر الى ترك المدرسة باكراً. وقابله صحافيون كنديون وسألوه عن عمله. فقال انه يعمل في مصنع الكومبيوتر، لكنه لا يفقه ما هي هذه الآلة، ولا يعرف أياً من الأزرار التي يقوم هو بتركيبها، تصلح لتشغيلها!