على مشارف السنة 2004 التي اعتمدتها اليونسكو سنة الاحتفاء دولياً بالرحالة المغربي ابن بطوطة بمناسبة ذكرى ميلاده السبعمئة، انعقدت في العاصمة المغربية في إطار فعاليات "الرباط عاصمة الثقافة العربية" ندوة "الرحالة العرب والمسلمون: اكتشاف الآخر" تحت شعار "المغرب منطلقاً وموئلاً". وهي الندوة التي حاولت مقاربة سؤال الأنا من خلال الرؤى والتصورات التي كوّناها عن الآخر، حيث استعادت الجلسات تلك اللحظات القوية في الاكتشاف المباشر والغني والمفاجئ الذي قام به عدد من الرحالة والجغرافيين والديبلوماسيين وحتى التجار العرب الذين كانت تحركهم جميعاً رغبة اللقاء بالآخر واكتشافه، ووثقوا لتجاربهم المدهشة في نصوص بالغة الثراء، وهي النصوص التي توقف الباحثون المشاركون عند عدد منها. طرح أحمد اليابوري سؤال الآخر في "الرحلة المراكشية" لابن المؤقت، وقارب شعيب حليفي العلاقة ما بين النص والصورة من خلال الرحلة المغربية إلى أوروبا، أما الحسن الشاهدي فسافر بنا إلى آسيا القرن الثامن الهجري من خلال رحلة ابن بطوطة. وتحدث سالم حميش عن الرحلة الاضطرارية كما كابدها كلٌّ من ابن سبعين وابن خلدون، ورصد محمد لطفي اليوسفي حركة المسافر وطاقة الخيال في دراسة له عن المدهش والعجيب والغريب في الرحلة العربية، فيما توقف شاكر لعيبي مع ابن فضلان عند مقدمة رحلته. ويبدو أن معظم البحوث نجحت في لمس الصلة الملتبسة بالآخر التي تحتاج إلى مزيد من البحث والتقصي عبر تحقيق المزيد من النصوص ودراستها. وحرصت بعض المداخلات على تشخيص أثر الصدمة التي تعرّض لها الوعي العربي من جرّاء اكتشافه الآخر، ما جعل معظم الرّحالة العرب ينتقلون من رسم صورة الآخر في أعمالهم إلى تقديم صورة عن أنفسهم له، وأحياناً كانوا يتجاوزون ذلك إلى مساءلة تصوراتهم عن الذات ومراجعتها انطلاقاً من صدمة اكتشاف الآخر. وأكد الشاعر نوري الجراح المشرف على مشروع "ارتياد الآفاق" ل"الحياة" أن تعاونهم مع وزارة الثقافة المغربية لتنظيم هذه الندوة في الرباط يعود إلى اقتناعهم التام بالمكانة التي يحظى بها المغرب بفضل موقعه الجغرافي القريب من أوروبا، وبفضل الرحالة الكبار الذين أنجبهم، وأيضاً لما يتوفر عليه من باحثين مبرزين في إنتاج الخطاب النقدي المقارِب للرحلة. ولعلّ فوز ثلاثة باحثين مغاربة وهم سعيد الفاضلي وعبد الرحيم المودن ومحمد بوكبوط بجائزة "ابن بطوطة للرحلة والأدب الجغرافي" هذه السنة دليل على قيمة البحث المغربي في هذا المجال. أما الأمين العام للمجمع الثقافي في أبوظبي الشاعر محمد أحمد السويدي راعي جائزة "ابن بطوطة" فقد أكد خلال كلمته في الافتتاح أن ندوة الرباط ليست سوى نقطة انطلاق، وأعلن عن تنظيم الدورة الثانية من هذه الندوة في أبو ظبي، لتجديد التواصل والحوار ما بين المشرق والمغرب. ويبدو أن ندوة أبو ظبي ستكون مطالبة بأخذ توصيات الرباط في الاعتبار، ومنها خصوصاً الدعوة إلى تعميق الكتابة في المتن الرحلي وتوسيع طبيعة النصوص المهتم بها لتشمل نصوص السفر عموماً كالمذكرات والسِّير. وبقدر ما كانت جلسات ندوة الرباط غنية بالمداخلات الدسمة والأبحاث الرصينة، كانت هناك فضاءات موازية حاولت أن تعطي للرحلة والسفر أبعاداً أخرى. فالفنان السوري جهاد قباني أخذ المشاركين في رحلة عود شجية مع ابن بطوطة مباشرة بعد الافتتاح. فيما جاء معرض الفوتوغراف العماني بدر النعماني "على خطى ابن بطوطة" في مئة صورة، ومعرض "قل وسيروا في الأرض" للخطاط السوري منير الشعراني ليفتحا الرحلة على سفر آخر. سفر إبداعي فاتن ممتع، وبلا مشاق تقريباً.