في العرضين الشعبيين للشريط البريطاني "تحليق اعمى" Blind Flight اللذين نظما ضمن ايام مهرجان لندن السينمائي، كانت الصالة الكبيرة فارغة والاهتمام شحيحاً، فلا أحد لا يريد الكرب لقلبه وهو يشاهد إعادة درامية تأخر إنجازها 13 عاماً رفضت السلطات اللبنانية السماح بتصوير الفيلم في البقاع، الامر الذي اجبر صانعيه على التوجه الى تونس، لمحنة الرهائن الغربيين في بيروت ابان الحرب الاهلية. هذا الشريط الذي اخرجه جون فيورسي بميزانية متواضعة يستعيد تحديداً "الاثم" اللبناني الذي طال رعايا الامبراطورية الآفلة التي وجدت نفسها فجأة وسط تجاذبات حروب الطوائف قبله صور المخرج اللبناني الراحل مارون بغدادي عمله المحكم "خارج الحياة" في 1991 عن محنة اختطاف المصور الصحافي الفرنسي باتريك بارو، وما اصراره على وضع خطبة رئيسة الوزراء السابقة مارغريت ثاتشر في مفتتح الشريط وهي تعلن: "لن نتنازل للارهابيين" سوى اقرار بالفاجعة التي قلبت حياتيّ شخصيتيّ المدرس الايرلندي براين كينان والصحافي الانكليزي جون مكارثي الذي غافله الاختطاف اثناء سعيه الى تغطية ملابسات اختفاء الاول. ويبقى السؤال قائماً بشأن مسوغات اختيار هذه الحكاية واعادتها الى الواجهة اليوم، وكأن لبنان والمنطقة لم يشهدا تغييراً يذكر، منذ ذلك الصباح عام 1986 الذي ترصدت فيه فوهات المسدسات المكتومة المدرس ذا اللحية الحمراء وهو يغادر منزله متوجهاً الى طلابه في الجامعة الاميركية، ل"تقبره" في غرف مظلمة وتعزله عن العالم وتهين كرامته، قبل ان يمارس عليه "زعران الحرب" لهوهم بالترهيب والتعذيب. يرفض كينان الفيلم مقتبس من يوميات تناولت فترة اختطافه، كتبها بعد عودته الى بلفاست ونشرها تحت عنوان "حضن شيطاني" ان يرضخ لعزلته التي لن تطول حتى مجيء الوافد الجديد مكارثي، هنا يشكل الاثنان عالمهما المضاد للاقصاء الانساني الذي فرض عليهما، ومثله القسر على التعامل مع "أوامر" وشروط خاطفين صورهم الشريط صبياناً رعناء، يستمرئون الاهانة والتفاخر ب "الشهادة" المقبلة، من دون ان يغفل المخرج فيورسي في اول افلامه الروائية اظهار كينان وهو يقرأ نسخة مترجمة للقرآن الكريم، تعبيراً عن سماحته كأكاديمي متنور. واذ يمضي الاسيران وقتهما بالذكريات والتمارين الرياضية والاغنيات وانتظار السجانين يعترف احد الشباب بلغة انكليزية ركيكة: "نحن مثلكم سجناء"!، يقدم الفيلم المجموعة اللبنانية الشيعية، خصوصاً قائدها سعيد الممثل زياد لحود، كحفنة من اولاد الشوارع، همهم موزع بين الركلات والمهانة وتنظيف الاسلحة وولعهم بالطائرات الورقية. لا يهتم الشريط بالمناورات السياسية التي تسعى الى اطلاق سراحهم هناك مشاهد سريعة لقادة "حزب الله" لا تقول شيئاً. ويُبقي فيورسي هاجسه في اللقطات الوثائقية لكينان المحرر وانتظاره لاحقاً لزميله مكارثي كي يعيدا واحدة من رقصاتهما اثناء الاحتجاز!