في العام 1992، عثر عالم ألماني في الصحراء العراقية على رصاصة يورانيوم مستنفد مستعملة. واعتقل لاحقاً في بلاده، وفرضت عليه محكمة برلين غرامة لأنه أحضر الرصاصة معه "فعرّض الجمهور لاشعاع مؤيّن". قبل ذلك بنحو 13 سنة، في 1979، تسربت جسيمات يورانيوم مستنفد من مصنع الرصاص الوطني قرب ألباني في ولاية نيويورك، حيث كانت تصنع قذائف لخرق الدروع. وارتحلت الجسيمات مسافة 40 كيلومتراً، الى حيث سجل وجودها الباحث النووي ليونارد ديتز في مختبر كنولز للطاقة الذرية في مدينة نيويورك. وتم إغلاق المصنع عام 1980 لأنه كان يطلق في الجو أكثر من 38,0 كيلوغرام من غبار اليورانيوم المستنفد كل شهر وهذا لا يذكر مقارنة بال320 طناً التي أطلقت خلال حرب الخليج. وصرح دوغ روك، الذي ظل حتى 1998 خبيراً في اليورانيوم المستنفد لدى البنتاغون وزارة الدفاع الأميركية: "سيبقى ساخناً الى الأبد، لن يزول، فقط يتشتت ويتطاير مع الرياح". جويس رايلي، الناطقة باسم "جمعية قدامى المحاربين الأميركيين في الخليج"، كانت برتبة نقيب في سلاح الجو الأميركي، وشاركت في حرب الخليج عام 1991. وهي أفادت أنها مرضت عقب الحرب مما اضطرها الى ترك الخدمة، وكانت تعاني من أعراض غامضة باتت تعرف بمرض حرب الخليج. وأبدت عدم ثقتها بالدراسات التي لم تجد علاقة بين اليورانيوم المستنفد والمشاكل الصحية، قائلة: "هناك أشخاص يتقاضون أتعاباً لاعداد تقارير تنفي وجود أي مشكلة". الآليات العراقية التي دمرت باليورانيوم المستنفد في الكويت تم تجميعها في مدافن صحراوية، وجرت عمليات لتنظيف طبقات الرمل السطحية. غير أن كثيراً من السكان ما زالوا يحتفظون بشظايا القذائف وقطع الآليات المدمرة داخل بيوتهم ومكاتبهم للذكرى. ولا يوجد برنامج للرقابة المستمرة يقيس مستوى الاشعاعات في المناطق المصابة وينشر نتائجها. وكانت ست آليات أميركية قصفت في تلك الحرب "بنيران صديقة" محتوية على يورانيوم مستنفد، اعتبرت ملوثة الى حد منع اعادتها الى الولاياتالمتحدة، فدفنت في الصحراء العربية. ومن أصل 16 آلية أخرى أعيدت الى منشأة خاصة في ولاية كارولينا الجنوبية، تم دفن ست آليات في مطمر للنفايات المنخفضة الاشعاعية. يؤكد باحثون في الراديوبيولوجيا والطب الحيوي أن اليورانيوم المستنفد شديد السمية من الناحية الكيماوية والاشعاعية، خصوصاً اذا دخلت الجسيمات المشعة الجسم حيث تبقى في الأعضاء الحية سنوات طويلة. وخلصت عشرات الدراسات العلمية الى أن من آثار استخدام ذخائر اليورانيوم المستنفد ارتفاع مخاطر الاصابة بالسرطان، وحصول تشوهات وعيوب خلقية وتلف في الكليتين والكبد واعتلالات عصبية وعضلية، وأضرار صحية أخرى على المدى الطويل. وكتب الصحافي الشهير روبرت فيسك، مراسل "اندبندنت" الذي زار تكراراً مواقع القصف في مدينة البصرة بعد انتهاء حرب الخليج: "شاهدت في كل زيارة أنواعاً جديدة ورهيبة من السرطان، وأطفالاً يولدون بلا أذرع أو عيون أو أنوف، وأولاداً ينزفون داخلياً أو يصابون فجأة بأورام ضخمة... ووجدت جنوداً عراقيين يموتون بما يشبه مرض حرب الخليج الذي أصيب به آلاف الجنود الأميركيين والبريطانيين". كما ذكر روايات كثيرة عن "ثمار بندورة طماطم بحجم كرة قدم، وجزر بلون بنفسجي غريب، وماء لم يعد مذاقه طبيعياً". في أيلول سبتمبر 2003، بعد حرب العراق الأخيرة، أوردت صحيفة "واشنطن بوست" أن أكثر من ستة آلاف جندي أميركي تم سحبهم من العراق لاسباب مرضية، وسط مخاوف من وجود مواد اشعاعية. وكانت هذه المخاوف تصاعدت بعدما قام سكوت بيترسون، المحرر في صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور"، بقياس مستوى الاشعاع في بعض مناطق بغداد التي تعرضت لقصف مكثف، واكتشف أنها تزيد بما يراوح بين 1000 و1900 مرة عن المستوى العادي في المناطق السكنية المجاورة حيث يلهو الاطفال من دون أي تحذير. وكان صحافيون غربيون أمضوا ليلة قرب موقع قصف بقنابل اليورانيوم المستنفد في 10 نيسان ابريل 2003، غداة سقوط بغداد. وحذرهم الجنود الأميركيون من عبور الطريق الى ذلك الموقع لوجود جثث وذخيرة غير منفجرة، اضافة الى تلوثه باليورانيوم. في هذا الموقع أشَّر جهاز قياس الاشعاعية لدى سكوت بيترسون الى أقصى "الخط الأحمر". في حرب الخليج الأولى عام 1991، استعملت القوات الأميركية 320 طناً من قذائف اليورانيوم المستنفد، أطلقت 80 في المئة منها طائرات 01-A. وتشير بعض التقديرات الى أن 1000 طن أو أكثر من هذه القذائف استعملت في الحرب الأخيرة على العراق، لكن البنتاغون أقر باطلاق 300 ألف قذيفة، ما يعني 75 طناً من مخلفات اليورانيوم المستنفد. وهو يزعم أنه أقل خطراً بكثير من اليورانيوم العادي، والاشعاع الموجود فيه شبيه بالموجود في التراب العادي. واستنتجت دراسة طلبتها المفوضية الاوروبية عام 2001 أن "التعرض لليورانيوم المستنفد لا يسفر عن أثر على صحة الانسان يمكن كشفه". ويقول يان أولوف سنيس، من مصلحة الوقاية من الاشعاع في السويد، ان خطر اليورانيوم المستنفد "يتوقف الى حد كبير على كيفية تعاملك به"، مضيفاً أن احتمالات الخطر قليلة في معظم الحالات، ما لم يأكل الأطفال التربة السامة والمشعة، أو يلمسوا اوكسيدات اليورانيوم بأيديهم. وكانت الوكالة البريطانية للطاقة الذرية حاولت عام 1991 تحديد خطر اليورانيوم المستنفد. وبناء على تقدير مبكر بأن 40 طناً فقط من قذائفه استعملت خلال حرب الخليج، أفادت أن هذه الكمية يمكن أن "تسبب 500 ألف وفاة محتملة". ورفض البنتاغون هذه المقولة، باعتبار أن هذا التقدير يفترض دخول كل هذه الكمية الى أجسام الناس. ويقول الكولونيل إريك داكسون، ضابط الأركان المسؤول في المعهد العسكري الأميركي لأبحاث الراديوبيولوجيا، ان احتمال حدوث مشاكل صحية خطيرة نتيجة استعمال اليورانيوم المستنفد في العراق "صغير جداً الى درجة تجعله في أسفل اللائحة على الاطلاق". وفي حين يتخذ الجنود الغربيون تدابير وقائية، ويتجنبون المواقع المضروبة بهذه القذائف، لم يتم تحذير الأهالي من أضرارها، ولم تحصل عمليات تنظيف جدية بعد. ويدعي مسؤولون في البنتاغون أن دراسات حديثة أثبتت أن لا خطر على سكان المناطق المستهدفة، وأن اليورانيوم المستنفد غير مؤذ نسبياً، وهو جزء ضروري من العمليات الحربية الحديثة. ويقول المقدم مايكل سيغمون، وهو جراح في الجيش الأميركي في بغداد: "ليس هناك أي خطر على شعب العراق، بحسب معرفتنا على الأقل"، مشيراً الى أن الأطفال الذين يعبثون بالقذائف والدبابات المنفجرة عليهم أن يأكلوا مخلفات اليورانيوم المستنفد ومن ثم يختنقوا لكي يسبب لهم ضرراً. التوجيهات العسكرية الأميركية التي وضعت بعد حرب الخليج عام 1991، والتي كانت متساهلة آنذاك، تطلب من كل جندي يقترب 45 متراً من مدرعة قصفت بقذائف اليورانيوم المستنفد أن يستعمل كمامة غاز ولباساً واقياً. وصرَّح جنود شاركوا في حرب 2003 أنه طلب منهم الابتعاد عن أي هدف يقصفونه بهذه القذائف تفادياً لخطر الاصابة بالسرطان. من جهتها، أصدرت وزارة الدفاع البريطانية الى الضباط الميدانيين، قبل قصف القوات العراقية عام 1991 وخلاله، تعليمات تشرح كيفية التعامل الآمن مع ذخائر اليورانيوم المستنفد، أهمها عدم الاقتراب من الغبار، وارتداء أقنعة وملابس واقية وقفازات عند الضرورة، والحرص على عدم تلوث الأطعمة. الا أن هذه التعليمات بقيت سرية حتى 2001، حين أعلن عنها تحت ضغط الرأي العام ومجلس العموم البريطاني بعد الضجة الاعلامية حول استخدامات هذا السلاح. تصنع قذائف اليورانيوم المستنفد من المخلفات النووية المنخفضة الاشعاعية المتبقية من معالجة خام اليورانيوم لانتاج أسلحة نووية ووقود لمحطات الطاقة النووية. ومنذ سبعينات القرن العشرين بدأ خبراء الاسلحة يدخلونه في صنع أغلفة ورؤوس القذائف وطلقات الرصاص لزيادة قدرتها على اختراق الدروع والدبابات. وإضافة الى قدرته الاختراقية، تؤدي الحرارة المنبعثة من احتكاكه بالفولاذ الى احتراقه، فتنبعث منه جسيمات دقيقة من أوكسيد اليورانيوم السام المشع، يمكن ان تنتقل كيلومترات في الهواء. واذا استقرت في الجسم بفعل الاستنشاق فيمكن ان تسبب أمراضاً خطيرة. التخلص من نفايات اليورانيوم المستنفد في الولاياتالمتحدة يقتضي وضعها في عبوة مغلقة سعتها 30 غالوناً، معزولة بطبقة من البلاستيك، ومن ثم تعزل أيضاً داخل برميل سعته 55 غالوناً، ويوجب القانون دفنه في مطمر تحت الأرض مرخص له. وتمزج الجسيمات الدقيقة، أو الغبائر، بالاسمنت وتوضع في براميل محكمة الاغلاق. في تقرير صدر في آذار مارس الماضي في عنوان "علم أم خيال علمي: حقائق وخرافات ودعاية في الجدل حول أسلحة اليورانيوم المستنفد"، يقول دان فاهي أحد المدافعين عن حقوق قدامى المحاربين الأميركيين الذي تابع السجال منذ منتصف التسعينات: "ليست ذخائر اليورانيوم المستنفد سلاحاً عجائبياً حميداً كما يروج لها البنتاغون، ولا هي أدوات الابادة الجماعية التي يحذر منها المعارضون... لكن العلم والمنطق يمليان بأن من غير الحكمة استخدام سلاح ينشر كميات كبيرة من النفايات السامة في مناطق يعيش فيها الناس أو يعملون أو يزرعون أو يستخرجون الماء". يأخذ البعض على منظمة الصحة العالمية أن موقفها من ضحايا اليورانيوم المستنفد يتسم باللامبالاة وقصور الدقة العلمية. اذ صمتت طويلاً عقب استخدام القوات الأميركية والبريطانية والفرنسية لهذه الذخائر ضد القوات العراقية عام 1991، للمرة الاولى في الميادين "الحية". ولم تحرك ساكناً طوال عقد كامل حيال ما خلفه هذا السلاح الخطير من انتشار لأمراض سرطانية نادرة، وتشوهات خلقية، وولادات ميتة، وإجهاض، وعقم، واعتلالات عصبية، وتلف غير قابل للإصلاح في الكبد والكليتين، وغير ذلك. وحتى الآن لم تنجز أكثر من مذكرة من أربع صفحات يتناقض بعض ما ورد فيها مع حقائق علمية متداولة حالياً. بعد طول انتظار، أرسلت المنظمة الى العراق في آب أغسطس 2001 فريقاً من خبرائها، تألف من ثمانية اختصاصيين بأمراض السرطان والتشوهات الخلقية وطب العمل والصحة، برئاسة الدكتور عبد العزيز صالح المدير الإقليمي المساعد للمنظمة في شرق المتوسط. مكث الفريق أربعة أيام فقط، وأعلن أنه سيأخذ عينات لفحصها بدقة ومعرفة مدى نسبة اليورانيوم فيها، وأن المنظمة ستتابع الآثار السلبية الناجمة عن اليورانيوم المستنفد وتأثيراته في البيئة العراقية، بما فيها الانسان والحيوان والنبات. وكان من المقرر أن تعرض النتائج في مؤتمر للخبراء في جنيف. استبشر المعنيون خيراً، لا سيما أن المنظمة أعلنت في أيار مايو 2001 اتفاقها مع العراق على خطة مشتركة لكشف الروابط المحتملة بين اليورانيوم المستنفد والأمراض التي أصابت الشعب العراقي في أعقاب حرب الخليج الثانية. وأوضحت ميليندا هنري، الناطقة باسم المنظمة، أن اطار الاتفاق يتضمن ثلاثة أقسام، هي الاطلاع على الامراض وبخاصة أنواع السرطان والاختلالات الوراثية، وقياس مستوى اليورانيوم لدى المصابين، اضافة الى الابحاث وسبل الوقاية. وكان مقرراً أن تصدر المنظمة تقريراً في هذا الشأن بعد إجراء التحاليل المطلوبة. ومن جهته، أعلن برنامج الأممالمتحدة للبيئة والوكالة الدولية للطاقة الذرية، في كانون الثاني يناير 2001، أنهما يدرسان طلبات إرسال بعثات لتقصي الحقائق إلى العراق والبوسنة ويوغوسلافيا، لدرس آثار التعرض لليورانيوم المستنفد. وقال الناطق باسم الأممالمتحدة فريد إيكهارد إن الوكالات الثلاث ستنسق نشاطاتها. وعزز ذلك إعلان الأممالمتحدة عن توصل خبرائها إلى أدلة أولية على وجود نشاط إشعاعي في ثمانية مواقع من أصل 11 موقعاً في كوسوفو قصفتها قوات حلف شمال الأطلسي عام 1999 بذخائر تحتوي على اليورانيوم المستنفد. ونُشرت تقارير عدة تؤكد تزايد الإصابات السرطانية في البوسنة وكوسوفو عقب الحرب. ووجهت منظمة الصحة العالمية نداء الى المجتمع الدولي للمشاركة في تمويل صندوق عاجل لأبحاث كشف الأضرار المحتملة لليورانيوم المستنفد في العراق والبلقان. وقال مدير النشاطات الطارئة فيها كزافييه لوس في مؤتمر صحافي: "من غير المقبول أن يبقى الشك قائماً... إن هذا الشك، مع كل التكهنات التي تصحبه، يكشف ضرورة سد النقص في معلوماتنا في شأن الموضوع". ولا شك في أن استجابة منظمة الصحة العالمية لدرس آثار اليورانيوم المستنفد على الشعب العراقي خطوة إيجابية. لكن اقتصار تقويم نتائج الكارثة البيئية والصحية في العراق على هذه المنظمة وحدها أمر ناقص، يتعارض وتشخيصات العلماء المعنيين، بمن فيهم خبراء في وكالات الأممالمتحدة المتخصصة، المؤكدة أن هذه المهمة لا يمكن أن تنجح من دون الإسهام الفعال لبرنامج الأممالمتحدة للبيئة والوكالة الدولية للطاقة الذرية وبرنامج الأممالمتحدة لمكافحة التلوث والوكالة الدولية لمكافحة السرطان وغيرها، بالتعاون والتنسيق مع مراكز أبحاث متخصصة دولية وإقليمية ومحلية. ويتخوف كثيرون من عدم وفاء منظمة الصحة العالمية بوعودها، في حين يأمل آخرون أن تلتزم الموضوعية عند أخذها العينات، بحيث تشمل المناطق الأكثر تضرراً، بعيداً عن أي تدخلات. وهي مدعوة لتكون جريئة بإعلان النتائج التي تتوصل إليها، غير آبهة بأي ضغوط، فتحذو حذو كبير خبرائها الدكتور كارول سيكورا، رئيس البرنامج الدولي لمكافحة السرطان، الذي زار العراق واطلع بأم عينيه على نتائج مأسوية لكارثة استخدام سلاح اليورانيوم المستنفد، ونشر مشاهداته الصريحة. واستنتجت دراسة حديثة للبيانات المتوافرة، قام بها برنامج الأممالمتحدة للبيئة، أن الحرب الاخيرة فاقمت بما لا يقبل الشك المشاكل البيئية الخطيرة التي تراكمت في العراق خلال العقدين الماضيين. ربما انتهت الحرب في العراق، لكن الاصابة والموت سيبقيان خطراً متربصاً بالناجين لعشرات السنين الآتية، وستبقى ساحة المعركة منطقة قتل لمدة طويلة بعد توقف القتال. ينشر في وقت واحد مع مجلة "البيئة والتنمية" عدد تشرين الثاني/نوفمبر 2003