كانت لحظة تاريخية، عندما صعد الرجل النحيف، الأعجف، منصة الرفض. تعلمنا الخنوع. لا أحد ينكر ذلك. وأول الخنوع القبول. وعلامة القبول الصمت. لكن الرجل الذي قال: لا! لم يكن في الحسبان قوله. صفقنا له كثيراً عندما عرفنا انه الفائز. وأكثر عندما رفض "قيد" فوزه. لقد فاز بالجائزة للمرة الأولى. لماذا تلقفته الجماهير التي كانت، قبل قليل، صامتة، وفجأة عادت اليها الروح؟ لأنه رفض الجائزة بالطبع. وهو ما يحيلنا الى بعد آخر للكائن، للكائن المبدع الذي يتلبّسه "ضمير الأمة". ضميرها النقدي. والضمير ليس عقلاً، وانما عاطفة. عاطفة ناضجة لها بعد تاريخي "لا مراء فيه". وقد كان كل شيء حاضراً ما عدا "البعد التاريخي" في مؤتمر الرواية العربية الثاني، الذي يفترض فيه أن يكون الشكل الأسمى للتعبير عن مصائر الكائنات. صرنا نعرف أن "سيادة الابتذال" هي التي تتحكم في الثقافة العربية اليوم ولم يكن أحد منا يتوقع حتى ولو أكد بعضهم العكس أن يرفض الجائزة مَنْ ستمنح له. كان اليأس شاملاً من حركة تقلب الصحن، وتَكُبُّ، على الأرض، محتواه. وقد فعل صنع الله ابراهيم ذلك. وحسناً فعل. فعلَه بطريقة مشهدية عظيمة. و"المشهد" ليس سيئاً دائماً. ألسنا نحن الذين نخترع المشاهد التي تلائمنا؟ وما ذنب صنع الله ابراهيم إن كانت الثقافة الكونية ترتكز، اليوم، في شكل أساس على "المشهد"، حتى ولو كان "نقدياً" كما سيحلو للكثيرين منا، ومنهم، قوله؟ لكن "مشهد" الرفض، دائماً، مخيف! مارس صنع الله ابراهيم رفضه بطريقة "ثأرية"! وهو ما أرعب الكثيرين منا. أرعبنا ب"جماليته" القاسية. فالكاتب الحقيقي، في مجتمع قائم على القمع المعمم، هو كاتب "ثأري"، بامتياز! ولا يهمه التلاؤم بيننا قراء وبينه، إلا بقدر ما يمنحه ذلك من طاقة على التمرد. وقد جسّد صنع الله هذا المفهوم ب"سلوكه" ذلك اليوم، أكثر مما جسّده في كتاباته. والسلوك، كتابة من نوع آخر، لا تقل أهميته عن الكلمات. في مؤتمر الرواية "العربية"، سمعتُ شهادات "مخيفة" بالمعنى السلبي. سمعت احدى الروائيات تتشدّق متفاصحة: أنا أخاف من الكلمات الكبيرة، أخاف من الايديولوجيا، أخاف من الأفكار، أخاف من القضايا الكبرى، أخاف من البلاغة، أخاف... أخاف، ولا أكتب إلا عن جسدي، تقول! ونكتشف انها تخاف من جسدها، أيضاً! الجسد الذي تحوّل عندها، كما عند الكثيرين منا، الى "أسمال" من الأعضاء. أوليس هو هذا معنى "سيادة الابتذال" في الثقافة العربية الراهنة؟ بلى! انه الخوف المعمم، مع الاصرار البليد على عدم الاعتراف به. لماذا لا نصفق لصنع الله، إذاً، على "سلوكه"؟ قبل أن نبرر لصنع الله ابراهيم رفضه بما يحدث الآن في فلسطين وما يحدث لا يمكن تبريره، ولا تمريره! فكيف يصبح اللامُبرَّر مبرِّراً لفعل آخر؟، علينا أن نبحث، من دون تصعيد كاذب، أو تواضع مزيّف، عن أسباب ذلك في الدوافع الأكثر "التصاقاً" بنا: دوافع الحياة اليومية. حياتنا التي أُفرِغت من محتواها. كان أمام صنع الله الكثير من العلل، والأسباب للرفض، فاختار بعضها. وأحسن الاختيار. لكن ذلك، في الحقيقة، ليس أكثر من "فتح الباب" على الهاوية: هاوية الذات العربية المبدعة التي داستها نعال السلطات. وللمرة الأولى، تنقلب المعادلة المعطوبة بين السلطة والمثقف. المثقف "المعزول" ولربما تكمن قوته هنا: واضح، وصريح، وصارم، حتى ليكاد يكون عدائياً. والسلطة: واهنة، بلاغية، مضطربة، حتى لتكاد تكون بلا سلطة. وهو ما يؤكد "قوة الوعي"، وسطوته، عندما يكون في نهجه الصحيح: وعي المبدع الذي أدرك خطورة دوره التاريخي. موقف صنع الله ابراهيم ليس ضد "أحد"، إذاً، حتى ولو أراد هو ذلك! انه أخطر من ذلك بكثير. انه ضد "الذات العربية" وهي موجودة، فعلاً، تلك التي تبدو اليوم مفتتة، ضائعة، وبلا منظور تاريخي. لقد رأى، للمرة الأولى، في حياته باب السجن مفتوحاً، فخرج: سجن "الإجماع" البليد الذي ذكَّره، ولا بد، بسجن آخر. بدت الخديعة واضحة، منذ البدء، إذاً والخديعة قائمة، أصلاً، في جوهر العلاقة بين المثقف العربي والسلطة. لكنها، هذه المرة، كانت خديعة معكوسة. خديعة "نقدية"، إذ أردنا الدقة: "خديعة" القطيعة مع الذات التي تعودت الصمت والقبول. عبر لحظات "تلك الخديعة" الرائعة، استطعنا أن نتذوّق قيمة "الحركة" الخارقة في مواجهة قيمة "الصدق" السكوني البائس: صدق التخاذل أمام مَنْ يهمِّشوننا. ولِمَ لا؟ من منا ضد الخديعة إذا استطاعت ان تعلن مواقفنا على الملأ؟ ولِمَ نلوم أنفسنا عندما نلجأ الى وسيلة نوصل عبرها بعض حقائقنا الى مَنْ نريد، في حين تغرقنا وسائل الإعلام الرسمية، بأكاذيبها، ليل - نهار، "من دون أن تخشى لومة لائم"! الرفض على عكس القُبول ليس ضد "الآخر". وهو، في حالة صنع الله ابراهيم، هذه، ليس ضد اللجنة، ولا ضد الدكتور جابر عصفور، ولا حتى ضد السيد الوزير. الرفض تصور شخصي للعالم. انه يعبِّر عن التقاء الكائن المبدع مع ذاته التي يريد ان ينقذها من الانهيار أكاد أقول من الاحتقار. وهو لذلك بالغ الزخم والخطورة. تحية... تحية لرفض صنع الله ابراهيم. وتحية مسبقة لمن سيرفضون، بعده، جوائز أخرى مقبلة، لا مهمة لها إلا "تخضيع توتّر المبدع، وتثبيط مخيّلته". * روائي سوري مقيم في باريس