إذا كان الأصوليون الظلاميون قد اختطفوا الإسلام مسوّغاً للتكفير ورخصة للقتل، فان الإدارة الاميركيةالحالية صنيعة الأصولية المسيحية المتصهينة والمحافظين الجدد اختطفت الديموقراطية مسوّغاً للهيمنة الإمبريالية ورخصة للحروب. وهنا يحضر مثقفون عرب متأمركون يروّجون للمشروع الأميركي الإمبريالي باسم تحديث العرب من الخارج! وتوصيل الديموقراطية لهم إلى البيت، بالمعنى الذي تحمله كلمة Delivery. الديموقراطية كما هو معروف نتاج غربي، وقد انبثقت بعد قرون طويلة من الصراع بين قوى الظلام وقوى التنوير في أوروبا. واستُحدثت عندنا في الشرق العربي تحديدا بواسطة المستعمر. فهو الذي اخترع أوطاناً رسَّم حدودها ورسم خرائطها ونصَّب عليها حكاما وصاغ لها دساتير وبنى لها برلمانات ولفّق أحزاب بلاط تتبادل الوزارة وأحزاب "معارضة" هي إكسسوار لديموقراطية مصطنعة تديرها طبقة سياسية تابعة لوصاية مندوب استعماري سامٍ يشبه تماما مندوب أميركا السامي السيد بريمر،اليوم، مع مراعاة الفروق في معطيات العصر. وفي ذهني العراق والأردن ومصر تحت الانتداب البريطاني مثلاً لا حصراً. ولما قامت ثورة 23 يوليو 1952 المصرية كنست تركة المشروع الكولونيالي لإمبراطورية محتضرة بمندوبها السامي ووجودها العسكري. وكنست معها بلاط فاروق وما علق به من بشاوات وإقطاعيين محنطين وديموقراطية صورية مزينة بأحزاب فاسدة وحرية صحافة مزورة، كما هي مزورة ثقافة طبقة الذوات "البورجوازية" حيث كان محمد عبد الوهاب يغني "محلاها عيشة الفلاح" بينما ذاك الفلاح مقهور ببؤس العيش وذل الإقطاع. وكان مُخرج ابن الذوات محمد كريم يحرص على غسل الجاموسة بالماء والصابون قبل تصوريها كي تظهر على الشاشة نظيفة في نظر رواد سينما تلك الأيام من أبناء الذوات والخواجات، حيث يُلبَس أبطال الأفلام المصرية معاطف وقبعات أبطال السينما الأميركية بديكوراتها الهوليوودية وأزياء نسائها ومراقصها وراقصيها! وخارج الشاشة، في الواقع، كانت مصر مسلوبة الإرادة السياسية ومعظم المصريين مسلوبي الكرامة الإنسانية والوطنية. فلم تكن هناك عدالة اجتماعية أو ديموقراطية يؤسف عليها حتى يدين المرء عبد الناصر لأنه قضى عليها. فما كان قبله من صورة لحياة سياسية ديموقراطية لم يكن سوى فيلم مزيف! لقد كانت لعبد الناصر بالطبع أخطاؤه الكثيرة وبعضها كبير. فهو استبدل الديموقراطية الصورية بالحكم الفردي، ثم جاء السادات، بانفتاحه التهريجي، ضاربا الناصرين وقوى اليسار بالأصوليين، مستخدما عبور المصريين الأسطوري للقناة بدمائهم، ليعبر فوقها إلى الكنيست ومنه إلى كامب ديفيد متخليا عن دور مصر القومي القيادي، مقابل وعد برخاء لم يأت أبداً، وسلام فيه نظر، وصولاً الى توقف دور مصر القومي عند التوسط بين حماس والسلطة الوطنية أو ضمان بقاء غرفة لعرفات ينام فيها، دون الحديث عن دورها في تلطيف الاستراتيجية الأميركية في المنطقة! واليوم تتكرر اللعبة نفسها. يعود الاستعمار إلى المنطقة في صورة احتلال مباشرالعراق لتعزيز احتلال قائم فلسطين. وتظهر طائفة من مثقفي "ديموقراطية رامسفيلد" وهم، بحجة نقد الأوضاع العربيةالمزرية حقا، يستخدمون حقا يريدون به باطلا أميركيا. إذ يتعمدون تسفيل تاريخ العرب وتراثهم وثقافتهم وقيمهم، ويعتبرون كراهية غالبية الشارع العربي بمختلف مستوياته لأميركا السياسية موقفا عاطفيا انفعاليا يتبناه الغوغاء. نحن، إذاً، إزاء مثقفين متأمركين تبريريين، يطوّبون غزو العراق فتحا مبينا جاء بالحق وأزهق الباطل. لكن السيد فوكوياما الذي أعاد إنتاج صيحة هيغل عن "نهاية التاريخ" على اثر سقوط المنظومة الشيوعية، عاد،منذ حوالى عامين ليعترف بأن التاريخ لم ينته لأنه ليس ثمة إنسان أخير في ضوء إمكانية تغيير الطبيعة البشرية من طريق الهندسة الوراثية والاستنساخ..! مع ذلك يتعلق مثقفو "العصر الأميركي"، المحسوبون على الثقافة العربية، بذيول مخططات تحالف أصولية مسيحية متصهينة مع يمين أميركي أبيض مهووس، مؤلفين الأناشيد الطوبوية بالعربية والانكليزية في مديح أنموذج العراق الديموقراطي الليبرالي الذي سيكون قطعة الدومينو الأولى في تهاوي بقية قطع الأنظمة العربية! ولعل كتابات السيد فؤاد عجمي في هذا السياق ترشحه لأن يكون الكاتب الأبرز بين طائفة مثقفي العصر الأميركي. بل انه بمثابة غورو = شيخ طريقة بالنسبة لأتباعه، وهم متوفرون بكثرة في سوق الرأي العام العربي.