سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
مكارثية صهيونية جديدة في الولايات المتحدة ... والنشاط الأكاديمي تحت إشراف "أف بي آي"و"سي آي أيه". مشروع قانون أمام الكونغرس الأميركي لمحاربة فكر إدوارد سعيد
هل تتشكل في الولاياتالمتحدة مكارثية جديدة ذات نكهة وتوجهات صهيونية معادية للعرب في وجه خاص، فيما تحجب الأحداث الدموية على أرض العراق تطورات قانونية وأكاديمية بالغة الأهمية والخطورة؟ وربما كان علينا أن نسأل: هل مات إدوارد سعيد حقاً، أم أن وفاته معلقة حتى يقضي أعداء فكره على أثره في الفكر الأميركي المعاصر، خصوصاً في المسار الجامعي عبر الولاياتالمتحدة؟ صوّت مجلس النواب الأميركي في تشرين الأول أكتوبر المنصرم بالإجماع على مشروع قانون يطالب الجسم الأكاديمي عبر الولاياتالمتحدة بدعم سياسة أميركا الخارجية، تحت طائلة حجب المساعدات المالية عن أي جامعة ترفض الانصياع للقرار. وكان المجلس استمع طوال الصيف الماضي لمداخلات، حضرها أعضاء من مجلس الشيوخ، تناولت التأثير "السلبي" لأفكار إدوارد سعيد على كليات الدراسات المتعلقة بالشرق الأوسط، ما أدى، بحسب المداخلات المذكورة، إلى نشوء عدائية واسعة ضد الولاياتالمتحدة. طليعة المتكلمين ستانلي كورتز، أكد أن الدعم المادي لتلك الكليات أسهم في تعميم نقد مضاد لسياسة أميركا الخارجية. وفي ظل هيمنة اليمين المتشدد على مجلس النواب، ناهيك بأروقة مجلس الشيوخ، تضافرت جهود لدفع القانون إلى الكونغرس حيث لا يستبعد أحد وضعه موضع التنفيذ مطلع السنة المقبلة. ويقول البروفسور رشيد خالدي، الذي احتل كرسي إدوارد سعيد في جامعة كولومبيا، إن الدعم الفيديرالي لمراكز دراسات الشرق الأوسط بالغ الأهمية، وإن يكن ضئيلاً نسبة إلى سواه: "وهذا المشروع إما أن يفرض على الجامعات نوعاً محدداً من المواضيع المتعلقة بالشرق الأوسط، مما اسميه "الإرهابوية" أو يحرم الجامعات التي تحترم نفسها من ذلك الدعم وبالتالي يعطل فيها المادة برمتها". بعد 11 أيلول سبتمبر ظهرت على السطح عداوة مستحكمة بين معظم الأكاديميين المهتمين بدراسات الشرق الأوسط وبين الإدارة الأميركية والهيئات التي تدور في فلكها، ونشرت زوجة نائب الرئيس الأميركي لين تشيني، بالاشتراك مع السناتور الديموقراطي جوزف ليبرمان دراسة موسعة في عنوان "دفاعاً عن الحضارة: كيف تفشل جامعاتنا وما العمل؟"، تضمنت شرحاً يبيّن "قصور" الجامعات في الولاياتالمتحدة عن تنشيط الروح الوطنية، ووصفتها بأنها "الحلقة الضعيفة" في الحرب على الإرهاب. وفي الوقت نفسه ظهر كتاب مارتن كريمر "أبراج عاج في الرمل: فشل دراسات الشرق الأوسط في أميركا" الذي نعى فيه سقوط الأكاديميا في فخ الرومانسية العالمثالثية، وإغفال الأخطار الإيديولوجية المتنامية في العالم الثالث، خصوصاً الشرق الأوسط. ويدّعي كريمر أن وصف السياسة الخارجية لأميركا بالفاشلة على أيدي الباحثين في مراكز الدراسات الشرق الأوسطية يعني فشل أولئك الدارسين لا فشل السياسة المذكورة! وفي النتيجة عيّن الرئيس جورج بوش دانيال بايبس أحد القريبين من كريمر مديراً لمركز "السلام الأميركي". وعلى الفور أطلق المركز حملة إعلامية واسعة طاولت الأساتذة الجامعيين حول البلاد والطلبة والباحثين، ودعت الطلبة كما في العهد المكارثي إلى كتابة التقارير عن "سلوك" أساتذتهم. ويقول مدير معهد دراسات الشرق الأدنى في جامعة نيويورك، زاخاري لكمان: "يكمن الخطر في إقرار مشروع كهذا أن تضع واشنطن يدها على توجهات البحوث والدراسات، مما هو تدخل سافر في الحياة الأكاديمية". ويستند لكمان في قوله إلى المضامين الحقوقية في مشروع القانون، وهي تحتوي بنوداً توجيهية صريحة وتوصي بتعيين ممثل عن وكالة الاستخبارات المركزية وآخر عن "أف بي آي" في فريق مراقبة ومواكبة النشاط الأكاديمي، على أن يعيّن الكونغرس بقية الأعضاء. ويوصي مشروع القانون أيضاً بتمكين ممثلي الحكومة من مراقبة الأكاديميات والكليات المعنية. والمعروف أن الأكاديميين الأميركيين عارضوا دائماً تدخل الجهات الرسمية في مسار عملهم لئلا يوصموا بالعمالة في حال سافروا لبحوث أو لدراسات في الخارج. البروفسور جوان كول، استاذ تاريخ الشرق الأوسط في جامعة ميتشيغن، عبّر عن خشيته من أن يؤدي القانون، في حال إقراره، إلى تكوين مركز قوة يمثله الشارونيون في شكل خاص: "هناك توجه واضح نحو تسييس هذه الدراسات. ثمة حساسية حادة حيال نقد آرييل شارون وثمة محاولة واضحة، عبر قانون من هذا النوع، لتطويق ذلك النقد". في الولاياتالمتحدة 17 مركزاً لدراسات محورها الشرق الأوسط، معظمها في الجامعات البارزة مثل هارفرد وكولومبياونيويورك وشيكاغو. ويدعي المحافظون أن تلك المراكز تبدد أموال دافع الضرائب الأميركي على دراسات وبحوث وشمها فكر إدوارد سعيد، بعد نشر كتابه الشهير عن الاستشراق، بوشم الروح الاعتذارية الغربية حيال العالم الثالث، ما أدى إلى إهمال تلك المراكز قضايا أخرى على جانب كبير من الأهمية وفي طليعتها تعاظم تيارات "التشدد الإسلامي" و"الإرهاب". ويقول كريمر في هذا المجال: "لو نظرنا إلى المواضيع المدرجة في تلك المراكز لما وجدنا فيها ما يعالج ظاهرة الإرهاب، لأن النظرة الأيديولوجية، لمعظم الأكاديميين العاملين في هذا الحقل تركز على خلفيات الإرهاب والأسباب والدوافع الاجتماعية والسياسية، كما يرونها بعين رومانسية ثورية تشمل كل القضايا ذات الطابع "الوطني" حتى الإسلامية منها. ويقول ديفيد هورويتز، الأكاديمي اليميني المتشدد، إن الجنوح الجامعي نحو اليسار يطاول معظم دارسي الشرق الأوسط، مع أن هؤلاء كانوا يشكلون ثلاثة في المئة عام 1979، من غير الأميركيين، أما اليوم فنسبة الأجانب بلغت 50 في المئة. وهؤلاء، بحسب هورويتز، ينطقون بألسنة حكوماتهم "الإرهابية والفاشية الإسلاموية". أما كريمر فينتقد تلك المراكز كونها تتعمد تغييب دور أميركا "المفيد والمجدي في عالم اليوم". ورداً عليه وعلى المتعاونين معه يقول الدكتور خالدي إن "معظم الأكاديميين اليمينيين، أمثال كوترز وبايبس وكريمر، هم من الفاشلين مهنياً ذوي المستوى المتدني أو الرديء، ولذا تراهم يجانبون المسار البحثي المتجرد ويسلكون طريق التطرف جذباً للتمويل السهل. وفي إمكانهم أن يجمعوا المال اللازم لتأسيس مراكز دراسية عن الإرهاب لو أرادوا بالفعل أن يؤثروا عبر القنوات الأكاديمية المحترمة وبالتالي الخروج من الهامش الذي هم فيه حالياً". ومن الواضح أن كريمر ورفاقه يرون انفسهم أقلية في حال صراع مع الجسم الأكاديمي الخاضع لسيطرة الليبراليين واليساريين، على حد زعمهم. لذا يطالبون الدولة بالتدخل لإسماع أصواتهم. إلا أن المسألة ليست في النهاية عن أقلية وأكثرية بل عن دور الحكومة في التدخل والتأثير في الآراء، أو البقاء خارج الحلبة الأكاديمية كما هو مفروض. فمشروع القانون المطروح أمام الكونغرس يدعو إلى تأليف لجنة استشارية هدفها "إقامة توازن فكري في مجال الدراسات الخارجية عموماً". يذكر، من باب المفارقة، أن كريمر الذي اقترح في كتابه تشكيل تلك اللجنة، أميركي - اسرائيلي شغل منصب مدير مركز موشي دايان للدراسات الافريقية والشرق اوسطية في جامعة تل ابيب، وحائز دكتوراه من جامعة برنستون. وانطلق كورتز من كتاب كريمر ليبني مقولته عن مسؤولية إدوارد سعيد في توجيه الفكر ما بعد الكولونيالي طوال الحقبتين المنصرمتين. وفي رأي كورتز أن سعيد طالب عام 1999 بمحاكمة بيل كلينتون ومادلين أولبرايت وويسلي كلارك، لارتكابهم جرائم حرب، أسوة بالزعيم الصربي سلوبودان ميلوشيفيتش، وأنه وصف الديموقراطية الأميركية بالمهزلة وسخر من تقديس الأميركيين لدستورهم واصفاً إياه بأنه مكتوب بيد المتأنكلزين الأثرياء البيض، ممن امتلكوا عبيداً. إلا أن كورتز لا يجرؤ، على رغم دعواه، أن يطالب بوضع سعيد على "اللائحة السوداء" بل يكتفي بالدعوة إلى إقامة توازن أيديولوجي في الدراسات الأكاديمية ولو من طريق الفرض القانوني. وفي السياق نفسه يركز كريمر على ضرورة تبديد "الوهم" بكون الولاياتالمتحدة دولة استعمارية جديدة، هدفها السيطرة على مصادر الثروة في بلدان العالم الثالث. أما الأساتذة العاملون في حقل دراسات الشرق الأوسط عبر المراكز الجامعية الأميركية فيشيرون بكثير من الريبة إلى مشروع القانون المذكور أعلاه. ويقول خالدي إن أبطال هذا المشروع هم أنفسهم من دعوا إلى الحرب في العراق لأسباب تبين بوضوح أنها مختلفة. ويضيف جوان كول: "أكثر ما يزعجني في هؤلاء أن يعودوا اليوم بدعاوى جديدة تفتقر إلى الصدقية التي غابت عن تكهناتهم السابقة". ويختصر خالدي المشهد بقوله: "مرة أخرى يشكك المحافظون بجدارة من لا يوافقهم الرأي عن الشرق الأوسط، ويصرون على كون وجهة نظرهم هي الأصح. لذا لا يطاردوننا على جبهة الشرق الأوسط وحده ولا في النشاط الأكاديمي فحسب، بل تراهم ناشطين في الجيش الأميركي وداخل الاستخبارات وفي المجتمع بأسره. كل من يعرف شيئاً، أي شيء، مشبوه، إلا إذا كانت أفكاره من أفكارهم".